ت�صـدر �شـهـري ًا عـن دائرة الثقافة بال�شارقة ال�سنة ال�سـاد�سـة-العـدد الـرابـع وال�سـتـون -فبراير ٢٠٢٢
نافذة الثقافة العربية
�أعالم العلماء العرب والم�سلمين
ثــــابـــــت بــــن قــــرة
ال�شعـراء العـرب و�أحــــوال الــقــ�صـــيـــدة
عبدالحميد بن هدوقة
�سعد اهلل ونو�س
ال�شخ�صية التاريخية
بــور�ســعـيــد
مــــن رواد الأدب الـــجــــزائــــري
بـــيـــن الــــواقــــع والــمـتــخــيـل
والـمـ�سـرح الـتجـريـبـي
وعــبــقــريــة الــمــكــان
مجالت دائرة الثقافة عـدد فبراير 2022 ال�شنة ال�شـاد�شـة-العـدد الـرابـع وال�شـتـون -فبراير ٢٠٢٢
نافذة الثقافة العربية
اأعالم العلماء العرب والم�سلمين
ثــــابـــــت بــــن قــــرة
ال�سعـراء العـرب واأحــــوال الــقــ�ســـيـــدة
عبدالحميد بن هدوقة
�سعد اهلل ونو�س
ال�صخ�صية التاريخية
بــور�ســعـيــد
مــــن رواد الأدب الـــجــــزائــــري
تصدر عن دائرة الـثـقـافـة بالشارقـة
ت�شـدر �شـهـري ًا عـن دائرة الثقافة بال�شارقة
فعاليات ومفاجآت ســـعــــد ُ تُ ِ األ َســـــر في «ضواحــي »10
مجلة شهرية تُ ـعنى بالشعر واألدب الشعبي -السنة الرابعة -فبراير 2022م -العدد ()30
العدد ( - )294فبراير 2022
والـمـ�سـرح الـتجـريـبـي
رحلــة مـع مـبــدع «التغرودة» الـــــشـــــاعـــــر «الــــكــــيــــف» عـــــــلـــــــي الــــحــــلــــيــــطــــي مواقع التواصل االجتماعي.. مــــــاذا أعـــطـــت لــلــشــعــراء ومــــــــاذا أخــــــذت مــنــهــم؟!
بـــيـــن الــــواقــــع والــمـتــخــيـل
"الـشارقـة للشعـر الـنبطـي".. أرشــــيــــف ثـــــري لـــمـــدارس الـــــشـــــعـــــر ولــــهــــجــــاتــــه
وعــبــقــريــة الــمــكــان
القصـيدة التفـاعلية..
جربة التّونسيّة..
مســاحــــات واسعـــة تُعنى بالشعر واألدب العربي
للمعنــــى والخيـــــال
العدد ( )29السنة الثالثة -فبراير - 2022رجــب 1443هـ
رهان الشعراء في العصر الرقمي
مهرجان المدام للتسوق.. تنشــيط للحركـــة التجارية والســياحية أسماء المســـطحات والتضاريس الجغرافية في المنطقة الوسطى
السنة الثالثة -فبراير 2022م -الـعدد ()29
مجلة شهرية تصدر عن دائرة الثقافة بالشارقة السنة الرابعة -العدد ( - )30فبراير 2022
مشتل بلدية المدام ..تشجير ومساحات خضراء تواجه زحف الصحراء
عبد اهلل بن عامر الفالسي.. شـــاعـــر ارتــــبــــط بــالــبــحــر فــأبــدع الــقــصــيــدة المغناة
«الـخـدمــات االجتماعـيــة» فــــــي دبــــــــا الــــحــــصــــن.. حــمــايــة ورعــــايــــة ودعـــم الــغــيــل ..حــكــايــة األفـــاج والــمــيــاه الــعــذبــة والجبل ملتقى الشارقة لاتصال.. 2 حلول رقمية وتجـارب دولية
مـجـلـــة شهـريــــة تــنـمويــة ثـقـافـيـــة من المنطـقة الشرقية بإمارة الـشارقة
مجلة شهرية تنموية ثقافية من المنطقة الوسطى بإمارة الشارقة
وديان المدام.. حينما يهمي الغيث تكافئ الصحــراء أهلهــا بالجمـال
عقبة مزوزي: الطفولة هـامـش ضــروري للشعــر
ا لنــــــا قـــة . . رمز العنفوان في ذاكرتنا
االكتشافات األثريـة في مديـنـة دبــا الــحــصــن ..تــاريــخ وشــواهــد
السنة الثالثة -فبراير - 2022العدد ()29
ص.ب 5119 :الشـارقة -اإلمـارات العـربية المتحدة البراق+971 6 5123303 : الهاتف+971 6 5123333 : ّ البريـد اإللكتروني
[email protected] : الموقع اإللكترونيwww.sdc.gov.ae : sharjahculture
1
كلمة العدد
عالمية الخط العربي فن الخط العربي اليوم مرحلة يعي�ش ّ مهمة جداً من النهو�ض واالزدهار والن�ضج، مر بها في العقود وهي امتداد للمراحل التي ّ الثالثة الأخ��ي��رة� ،إذ ت�شهد رواج � ًا و�إقبا ًال كبيرين �سواء على تعلمه �أو اقتنائه ،بف�ضل االهتمام المتزايد الذي يحظى به من قبل الم�س�ؤولين والم�ؤ�س�سات والأف���راد ،ومن خ�لال تنظيم المعار�ض والمهرجانات وال���دورات وال��ن��دوات وال��ور���ش التعليمية، التي �أ�سهمت ب�شكل �أ�سا�سي ف��ي تعلمه و�إت��ق��ان��ه وت��ذوق��ه والتعرف �إل��ى مدار�سه وقواعده و�أ�ساليبه ،وذلك لما يمتلكه من قيم جمالية وخ�صائ�ص نابعة من الهوية وم�ستمدة من الإ�شعاع الح�ضاري والتراث، ّ للأمة وتاريخها وثقافتها ،ومن هنا نقر�أ �سر ت�ألقه الم�ستمر طوال خم�سة ع�شر قرن ًا ّ الرتباطه باللغة والدين وال�شعر والعمارة العربية ،ما جعله يحافظ على مكانته في ال�صدارة وير�سخ ح�ضوره المميز ودوره المعرفي والتنويري ،ويبلغ من االنت�شار مبلغ ًا مهم ًا عربي ًا وعالمي ًا ،ويمكن القول �إن��ه ما كان ليحت ّل هذه المكانة العظيمة لوال جهود الخطاطين الأوائ��ل والحاليين، الذين حملوا على عاتقهم �أمانة تطويره وعانقوا حروفه وكلماته في �أبهى التجارب واللوحات ،فكان لهم الف�ضل في الدفع به من مرحلة التقليد �إلى التح�سين ،و�صو ًال �إلى
الخط العربي ر�سالة �إن�سانية وح�ضارية وثقافية
مرحلة االبتكار ،انطالق ًا من مقدرة الخط الكبيرة في التطويع والت�شكيل على �أنماط مختلفة ،واال�ستعانة به في الفنون الأخرى وال�صناعات الفنية والإبداعية. و�إن��ه لمن دواع��ي الفخر واالع��ت��زاز �أن تعلن منظمة اليون�سكو �أخيراً �إدراج الخط العربي في تراثها العالمي غير المادي، باعتباره رمزاً ثقافي ًا في العالمين العربي والإ�سالمي ،وهو �إعالن لي�س م�ستغرب ًا كون تعد ركن ًا من �أرك��ان التنوع اللغة العربية ّ الثقافي والتوا�صل الإن�ساني والح�ضاري، حيث يهدف �إل��ى االحتفاء بالخط العربي وب���رواده الذين بذلوا واالرت��ق��اء بواقعه، ّ جهوداً في المحافظة عليه وتطويره .هذه الخطوة ت�سهم ب�شكل فعال في تعزيز مكانة الخط العربي ،وت�سليط ال�ضوء على �أهميته وخ�صائ�صه وجمالياته ،والنهو�ض به فكري ًا وثقافي ًا وتعليمي ًا ،كما ي�سهم في �صون الهوية ويعتبر منطلق ًا للحوار بين الثقافات العالمية ،خ�صو�ص ًا من خالل المعار�ض التي تنظمها الدول العربية في العديد من المدن العالمية ،والتي تقوم بالتعريف وتقدم �أعما ًال بالخط العربي والخطاطين، ّ فنية تجمع بين الحروفيات والجداريات واللوحات الخطية الأ�صيلة ،ف�ض ًال عن عقد الفعاليات الفكرية والمحا�ضرات والور�ش التعليمية. ول ّأن الخط العربي هو الفن الوحيد الذي لم يت�أ ّثر بالفنون الغربية والثقافات الأجنبية ،وهو �أي�ض ًا الوحيد بين الخطوط في العالم ال��ذي يكتب ب�أ�شكال مختلفة، فله �سماته المتفردة وخ�صو�صيته المميزة وتاريخه الموغل في القدم ،وف�ضا�ؤه الممتد
في حنايا القلب ،وك��ل لوحة خطية هي قطعة من الذاكرة وال��روح والتجربة ،وكل كلمة مترامية الأحرف هي �شجرة نور ذات ج��ذور ثابتة ،فالخط العربي لي�س مجرد كتابات مزخرفة بهيئات مختلفة ،بل هو تتج�سد ر�سالة �إن�سانية وح�ضارية وثقافية ّ بالن�صو�ص والآي ��ات القر�آنية والأب��ي��ات ال�شعرية والمقوالت الم�أثورة للتعبير عن المواقف والأفكار والر�ؤى ،ونقل المعارف والتجارب واللحظات التاريخية الم�ؤثرة، �إ ّنه بكل اخت�صار يم ّثل �سيرة الفن الإ�سالمي، وير�سم ال�شخ�صية العربية وهويتها الخا�صة وعبقريتها المتوارثة. لقد لعب الخط العربي دوراً حيوي ًا في ن�شر اللغة العربية والتعريف بثقافتنا وقيمنا وتراثنا من خالل �إدخاله في الكثير من المجاالت والتفا�صيل والأماكن ،وكذلك في الفنون الت�شكيلية المعا�صرة ،لما له قدرة عالية على الت�شكيل ويحوي ف�ضاءات و�أ�شكا ًال و�إ�ضاءات ملهمة ،فقد �أثرى الأعمال الت�شكيلية ،و�أعطى المنحوتات والت�صاميم المعمارية والهند�سية قيمة جمالية �ساحرة، من هنا تتج ّلى فل�سفة الخط العربي؛ فهو يمتلك العديد من المفاهيم والقيم الجمالية والفنية والروحية ،لذلك بهر العالم برونقه وتكويناته وتعبيراته و�أبعاده ،وت�أثر به العديد من الفنانين والنحاتين والر�سامين الغربيين ،وا�ستخدموه كعن�صر زخرفي في لوحاتهم و�أعمالهم ،ف�ض ًال عن انت�شاره في �أماكن كثيرة في العالم ،و�إقبال الكثير من غير العرب على تعلمه ،كل ذلك �شاهد على عالمية الخط العربي بحروفه المطواعة و�إمكانياته الهائلة وتوالداته التي ال تنتهي.
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
3
رئي�س دائرة الثقافة
عبد اهلل بن محمد العوي�س
مدير التحرير نـواف يونـ�س
هيئة التحرير
عبد الكريم يون�س عـــــزت عـــــمــــــــر حــ�ســـــان الـعــبـــد عبدالعليم حري�ص فــــــوزي �صـــــالـــــح
٢٠
الت�صميم والإخـراج محـمـد �سـمــير
م�ساعد مخرج
بــور�ســعـيــد
محـمـد غانم
المحتوى الب�صري والإلكتروني
وعـبـقـريـة الــمـكـان
محـمـد مح�سن
التوزيع والإعالنات خالد �صديق
ت�صدر �شهري ًا عن دائرة الثقافة -ال�شارقة -الإمارات العربية المتحدة
ال�سنة ال�ساد�سة-العدد الرابع وال�ستون -فرباير ٢٠٢٢م
مراقب الجودة والإنتاج �أحمد �سعيد
نافذة الثقافة العربية
قيمـة اال�شـتـراك ال�سنـوي داخل الإمارات العربية المتحدة الأفراد امل�ؤ�س�سات
الت�سليم املبا�شر 100درهم 120درهم ًا
بالربيد 150درهم ًا 170درهم ًا
خارج الإمارات العربية المتحدة �شامل ر�سوم الربيد ٣٦٥درهم ًا جميع الدول العربية 280يــورو دول االحتاد الأوروبي 300دوالر الواليات املتحدة 350دوالر ًا كندا و�أ�سرتاليا
الأ�سعار الإمارات
10دراهم
ال�سعودية
10رياالت
عمان
ريال
البحرين
دينار
العراق
٢٥٠٠دينار
الكويت
دينار
اليمن
400ريال
م�صر
10جنيهات 20جنيه ًا
ال�سودان
�سوريا لبنان الأردن اجلزائر املغرب تون�س اململكة املتحدة دول الإحتاد الأوربي الواليات املتحدة كندا و�أ�سرتاليا
400لرية �سورية دوالران ديناران دوالران 15درهم ًا 4دنانري 3جنيهات �إ�سرتلينية 4يورو 4دوالرات 5دوالرات
فكر ور�ؤى ١٤
عنترة بن �شداد في باري�س
١٦
ت�صور الوقت في الفن الإ�سالمي
�أمكنة و�شواهد ٢٠ ٢٦
بور�سعيد ..وعبقرية المكان
�سال ..مدينة التاريخ والحا�ضر
�إبداعات ٣٠ ٣٤ ٣٦ 38
�أدبيات
قا�ص وناقد نخلة في الهواء -ق�صة ق�صيرة
مايكل كوبر�سون� :أترجم وعيني على الن�ص ولي�س على القارئ
راكم مايكل كوبر�سون ربع قرن في تدري�س الأدب العربي وفي ترجمة عدد كبير من ن�صو�صه الكبرى ,كما فاز بعدة جوائز عربية في مجاالت مختلفة...
الطاهر بن جلون� :أعبر عن هويتي العربية بلغة �أجنبية
٤٠
من كبار كتاب الأدب الفرن�سي من غير الأ�صول الفرن�سية .وقد تنوعت كتاباته بين ال�شعر والق�صة والرواية والمقالة...
بيوليتا -ق�صة مترجمة
�أدب و�أدباء ٤٨
١٠
٧٤ ١٠٠ ١٠٦
فتحية النمر :الكتابة لحظة �سالم نف�سي
كري�ستيان �أندر�سن رائد �أدب الأطفال في العالم حامد جوهر رائد البحريات يارا الم�صري و ترجمة الأدب ال�صيني المعا�صر
فن.وتر .ري�شة
� 122إ�سماعيل الرفاعي ير�سم الأ�شعار ويكتب اللوحات « 130ال تنظر �إلى �أعلى» كوميديا �سوداء تواجه الفناء
تحت دائرة ال�ضوء
134قراءة في «الأدب ال�ساخر» للدكتور نبيل راغب 135العالم بعيون طفل في ق�صة «النافذة»
145قا�سم توفيق في روايته «ج�سر عبدون» ر�سوم العدد للفنانين: د .جهاد العامري نبيل ال�سنباطي مهاب لبيب جمال عقل
التوزيع والإعالنات
الهاتف+٩٧١٦٥١٢٣٢٦٣ :
البراق+97165123259 : ّ
[email protected]
توزع في جميع �إمارات ومدن الدولة لال�ستفـ�سـار الـرقـم المجـاني8002220 :
م�صطفى ن�صر :تكريم ال�شارقة الثقافي توج م�سيرتي الأدبية ال���روائ���ي م�����ص��ط��ف��ى ن�����ص��ر م��وال��ي��د الإ�سكندرية� ،أ�صدر �سبع مجموعات ق�ص�صية و�أ�صدر �سبع ع�شرة رواية...
٩٦
الإم�����ارات��� :ش��رك��ة ت ��وزي ��ع ،ال��رق��م ال��م��ج��ان��ي 8002220 ال�����س��ع��ودي��ة :ال�����ش��رك��ة ال��وط��ن��ي��ة ل��ل��ت��وزي��ع -ال��ري��ا���ض - ه��ات��ف ،٠٠966114871414 :الكويت :المجموعة الإع�لام��ي��ة العالمية -الكويت ه� ��ات� ��ف� ،0096524826821:سلطنة ُعمان :المتحدة لخدمة و�سائل الإع�ل�ام -م�سقط -هاتف ،0096824700895 :البحرين :م�ؤ�س�سة الأي ��ام للن�شر -المنامة هاتف ،0097317617733 :م�صر :م�ؤ�س�سة الأه��رام للتوزيع -القاهرة -هاتف: ،0020227704293لبنان� :شركة نعنوع والأوائ����ل ل��ت��وزي��ع ال�صحف -هاتف: عمان -هاتف،0096265358855 : ،009611666314الأردن :وكالة التوزيع الأردنية ّ - المغرب� :سو�شبر�س للتوزيع -ال ��دار البي�ضاء -ه��ات��ف،00212522589121 : تون�س :ال�شركة التون�سية لل�صحافة -تون�س -هاتف0021671322499 :
وكـالء التوزيع
عـنـاويـن المـجـلـة:
�ص ب 5119 :ال�شارقة
Alshariqa althaqafiya
الإمـارات العربيـة المتحدة -ال�شـارقة -الل ّية -دائرة الثقـافـة البراق+97165123303 : الهاتف+97165123333 : ّ
[email protected] shj_althaqafiya
[email protected]
www.alshariqa-althaqafiya.ae
تطبيقنا الذكي متوفر على: ¯ترتيب ن�شر المواد وفق ًا لـ�ضرورات فـنية. ¯المقاالت المن�شـورة تعبر عن �آراء �أ�صحابهـا وال تعبر بال�ضرورة عن ر�أي المجلة. ¯المجلة غير ملزمـة ب�إعادة �أي مادة تتلقاها للن�شر �سواء ن�شرت �أم لـم تن�شر. ¯حـقوق ن�شر ال�صور والمو�ضوعات الخا�صة محفوظة للمجلة. ¯ال تقبل المواد المن�شورة في ال�صحف والمجالت والمواقع الإلكترونية.
�أعالم العلماء العرب والم�سلمين
قرة م ّهد البتكار ثابت بن ّ «حـ�سـاب الـتـفـا�ضـل والـتـكـامـل» ً ن�سبة �إلى حران ال�شامية /جنوبي تركيا حالياً ،والمتوفى �أبو الح�سن ثابت بن قرة الحراني؛ في بغداد عام (901م) .تعلم في م�ساجدها وفي مجال�س علمائها اللغة العربية وال�شعر والفقه والحديث وعلوم القر�آن الكريم .وفي �سن الخام�سة ع�شرة ،انكب على تعلم الفل�سفة والريا�ضيات والفلك والمنطق والطب باللغات ال�سريانية واليونانية والعبرية ،حتى لقد �صار عالم ًا مو�سوعياً؛ فكان من ندرة الب�شر الذين تميزوا حب ًا بالعلم وعرفوا حقيقة اللذة العقلية الكامنة خلف الك�شف عن الأنظمة التي ت�سود الكون ،والقوانين التي ي�سير العالم بموجبها.
6
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
يقظان م�صطفى
�إ�سهامات وت��روي الم�صادر �أن الع ّالمة محمد بن مو�سى الخوارزمي ،التقاه في طريق عودته من بالد الروم ،في منطقة ا�سمها (كفر توما) بعد اليزال و�أُعجب بف�صاحة ونبوغ ثابت وهو ُ يافع ًا ،فا�ست�صحبه �إلى بغداد ،و�ألحقه بداره ليطلب العلم ...ثم و�صله بالخليفة المعت�ضد، وبعدها �أخذ نجم ثابت بن قرة ،يعلو حتى غدا من �أبرز علماء الهند�سة والفلك في الح�ضارة العربية الإ�سالمية .وعندما ذاع �صيته في �أر� ��ض ال��ج��زي��رة� ،سعى �إل��ي��ه (�أب��ن��اء مو�سى) ليترجم لهم الكتب وي�صحح بع�ض ما كان قد ترجم منها ،ولي�صلح لهم �أر�صادهم ،بمر�صد ال�شما�سية ،وي�شرح ما ا�ستع�صى عليهم من علم الحيل ،وعلوم الهند�سة الأخرى. لا م��ن الأع��م��ال �ت ع���دداً ه��ائ� ً ت��رج��م ث��اب� ٌ الفلكية والريا�ضية والطبية ،لأ�شهر علماء اليونان وفال�سفتهم ،مثل �إقليد�س و�أرخميد�س و�أفالطون و�أبقراط ،وع ّلق على ثمانية كتب لأبولونيو�س و�أرخميد�س وبطليمو�س ،فظلت ن�سخها العربية مرجع ًا �أ�سا�سي ًا في مكتبات العالم ..وكان �أول من ترجم م�ؤلفات بطليمو�س، و�أ�صلح ترجمة كتابه الأ�شهر (المج�سطي) ونقل كتابه (ف��ي المعمو ِر َو ِ�صف ِة الأر���ض)، و�أ�صلح ترجمة (الكرة والأ�سطوانة) لأرخميد�س الم�صري ..كذلك لم يترك ابن قرة �شيئ ًا من م�ؤلفات �إقليد�س �إال وترجمه و�أ���ض��اف �إليه �سيما كتابه (الأ�صول)، معلومات جديدة ،ال ّ كما ترجم كتاب (الأرثماطيقي) في علم العدد، الذي �ألفه نيقوماخو�س الجارا�سيني ،بعنوان (المدخل �إلى علم العدد). وقد ُقدرت م�ؤلفات العالم المو�سوعي ثابت بن قرة بـنحو ( )180م�ؤلف ًا ،ما بين كتاب ور�سالة ،في العديد من العلوم الأ�سا�سية، مثل الريا�ضيات والفلك والهند�سة والطب والمنطق؛ ففي الريا�ضيات مهد ثابت البتكار (ح�ساب التفا�ضل والتكامل) ،الذي يعد محور الريا�ضيات الأولية ،م� ِّؤ�س�س ًا لت�سهيالت في
ويل ديورانت
ر�سم تخيلي لـ �أبوالح�سن ثابت بن قرة الحراني
حل الكثير من الم�سائل العوي�صة والعمليات الملتوية بطريقة النهايات ،وبت�أثير (نظرية �إفناء ال� َف� ْ�رق) اليونانية؛ وذل��ك عندما �أوجد في ذاك الوقت المبكر حجم الج�سم المتو ّلد م��ن دوران القطع المكافئ ح��ول م��ح��وره، وذلك بطريقة قريبة من طريقة التكامل التي نتبعها نحن حالي ًا ،وه��و عمل ي�صفه �أح��د م�ؤرخي العلوم ب�أنه (من فعل عقل جبار!). كذلك ا�ستطاع �أن ي�ضع قاعدة عامة لإيجاد (الأع���داد المتحابة) ُتنبي عن اطالعه على نظرية فيثاغور�س في الأع��داد ،ومن م�ؤلفاته الريا�ضية الأخرى؛ كتاب (في الن�سبة الم�ؤلفة). غير �أن من �أهم �إنجازاته الريا�ضية؛ درا�ساته القيمة في الأعداد ،فهو الذي ق�سمها �إلى زوجية ّ وفردية ،كما ق�سم العدد نف�سه �إلى �أنواع ثالثة: العدد التام ،والعدد الناق�ص، والعدد الزائد. أر�صاد � الفلك في لثابت ٌ توالها من مر�صد ال�شما�سية ف��ي ب ��غ ��داد ،ف��در���س حركة ال�شم�س ،وح�سب طول ال�سنة ال�شم�سية بدقة مذهلة ،وح�سب ميل دائ��رة ال��ب��روج ،و�أي�ض ًا
من م�ؤلفاته
التقاه الخوارزمي و�أعجب بف�صاحته ونبوغه وا�ست�صحبه �إلى بغداد لطلب العلم
�سعى �إليه (�أبناء مو�سى) ليترجم لهم الكتب وي�صحح بع�ض ما كان قد ترجم منها
الخوارزمي
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
7
�إ�سهامات ف�سر ظاهرة (ه��زة االعتدالين) ،وله م�ؤلفات فلكية منها( :في تركيب الأف�لاك) ،في حركة الأفالك ،في الهيئة ،مخت�صر في علم النجوم، علة ك�سوف ال�شم�س والقمر ،وكتاب الأهلة). ا�شتغاالته في (الهند�سة التحليلية) ،لم ُي�سبق �إليها ،كما �أنها جاءت قبل �إ�سهامات دي��ك��ارت وف��ي��رم��ا ب�ستة ق���رون؛ فقد و�ضع بين فيه كيفية الجمع بين الجبر ثابت كتاب ًا ّ و�صحح م�سائل الجبر بالبراهين والهند�سة، ّ الهند�سية ،وحل م�س�ألة تثليث الزاوية بطريقة تغاير طريقة علماء اليونان� .أل��ف (في قطع الأ�سطوانة) و(في المربع وقطره) ،و(في �أ�شكال �إقليد�س) ،و(مخت�صر في علم الهند�سة) ،و(كتاب في المثلث قائم الزاوية) ،و(ر�سالة في الدوائر المتما�سة) ...وهو �أول من ا�ستعمل الجيوب بد ًال من الأوتار؛ فنقل الريا�ضيات �إلى عالم الدوال المثلثية ،كذلك حل بع�ض المعادالت التكعيبية بطرق هند�سية ا�ستعان بها بع�ض علماء الغرب في القرن ال�ساد�س ع�شر ،مثل ك ��اردان ،في بحوثه الريا�ضية. ك��ان ثابت ب��ن ق��رة طبيب ًا ح��اذق � ًا ،وقد تولى رئا�سة بيمار�ستان بغداد ال��ذي �أ�س�سه الخليفة المعت�ضد ،وال��ذي تولى رئا�سته من بعده ولده �سنان ثم حفيده ثابت ..وكان ابن قرة �أول من �أدخ��ل العالج الجراحي في هذا الم�ست�شفى .وكان له في الطب اهتمام مميز بالأمرا�ض الجلدية ،وبم�ستح�ضرات التجميل، وباع طويل في �أمرا�ض الر�أ�س ،مثل ال�صداع وال�شقيقة ،والأم��را���ض الع�صبية والعقلية وال�صرع ،وو�صف ففرق بين ال�سكتة َ والنف�سية؛ ّ الت�شنج وذكر �أ�سبابه وعالجه ،وبرع ونبغ في طب العيون وت�شريحها� ..أي�ض ًا �أ ّلف العديد من كتب الطب ،منها( :في �أوجاع ال ُكلى والمثاني)، و(في �أجنا�س ما تنق�سم الأدوي��ة �إليه) ،و(في �أجنا�س ما توزن به الأدوية) ،و(�صفة الجنين)، و(ت�شريح بع�ض الطيور) ،و(الح�صى المتولد في المثانة) ،و(الذخيرة في الطب) الذي و�ضعه البنه �سنان. وثابت نقل علمه خطوة �إلى �سوية �أرقى، عندما �أن�ش�أ في مدينة الرقة ال�سورية في العام (848م) مدر�سة عليا لتعليم الفلك والفل�سفة وال��ط��ب ،تخرج فيها نحو ( )20عالم ًا من الأ�سماء المرموقة �آن���ذاك؛ منهم :اب��ن �أخته الب ّتاني وعي�سى بن �أُ�سيد الن�صراني ،و�آخرون. يثني الم�ست�شرق المحدث (�ألدومييلي) 8
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
�أرخميد�س
الإيطالي ،على ف�ضل ثابت الكبير في حركة ال��ت��رج��م��ة ،وخ��ا���ص��ة م ��ؤل��ف��ات �أرخ��م��ي��د���س، و�إق��ل��ي��د���س ،وكثيرين �آخ��ري��ن ..وخ�صو�ص ًا تنقيحه ترجمة كتاب (الأ���ص��ول) لإقليد�س، تنقيح ًا دقيق ًا ،وت�صحيحه لترجمة �إ�سحق بن حنين ،لكتاب مهم في علم النبات لأر�سطو� ،إذ �إن الكثير من هذه الترجمات وال�شروح ،فقدت في �أ�صولها اليونانية ،ولم يبق �إال ترجماتها العربية التي يعود �إليها كثير من الدار�سين ال�شرقيين والغربيين في الع�صر الحديث. �أي�ض ًا (ويل ديورانت) في مو�سوعته (ق�صة الح�ضارة) ،امتدح ثابت ًا بقوله�( :إن ثابت بن قرة �أعظم علماء ع�صره في علم الهند�سة ،فكان المع ًا بين �إخوانه العرب) ..وقال الم�ست�شرق (روبرت مارك�س) في كتابه تطورات الريا�ضيات�( :إن �أعمال �أرخميد�س الأ�صلية ،عن خوا�ص م�سبع ال�شكلُ ،فقدت ،ولكن لح�سن الحظ �أن مخطوطة لثابت بن قرة في هذا المو�ضوع باللغة العربية، وجدت في مكتبة جامعة القاهرة ،وترجمت �إلى اللغة الألمانية في العام 1929م).
�أبقراط
�أفالطون
ترجمات ثابت بن قرة لأعمال �أبولونيو�س في هند�سة المخروطيات
در�س حركة ال�شم�س وح�سب طول ال�سنة ال�شم�سية وميل دائرة البروج بدقة مذهلة
تولى رئا�سة (بيمار�ستان) بغداد الذي �أ�س�سه الخليفة المعت�ضد و�أول من �أدخل الجراحة �إليه
مقاالت ف�ضاءات
الم�ست�شرقة كـاريـن �آرم�ستـرونج ج�سرت العالقات بين الإ�سالم والغرب ّ عنيت الكاتبة والم�ست�شرقة البريطانية (كارين �آرم�سترونج) بالدرا�سات في الثقافة العربية والإ�سالمية ،وكتبت في العديد من المو�ضوعات الإ�سالمية ،مثل التاريخ الإ�سالمي، وال�سيرة النبوية ،والفرق ..و�ضربت �أروع الأمثلة في الإن�صاف ،والتجرد في كتاباتها عن الإ�سالم وح�ضارته ور�سوله الكريم �صلى اهلل عليه و�سلم. والحقيقة �أن كارين �آرم�سترونج قد تجردت تجرداً ،ي�صعب �أن نجده في كتابات الكثير من الكتاب والم�ست�شرقين الذين تناولوا الكتابة عن الإ�سالم وح�ضارته ،وقد جاء هذا التجرد بحكم ن�ش�أتها العلمية الأكاديمية الواعية ،وروحها النزيهة في البحث عن الحقيقة دون تحيز �أو تع�صب منها ،وقد �أعطى هذا التجرد م�صداقية كبيرة لكتاباتها. وكارين �أرم�سترونج ،هي كاتبة بريطانية الجن�سية ،من �أ�صل �أيرلندي ،متخ�ص�صة في علم الأدي��ان المقارن .ولدت في ( 14نوفمبر عام 1944م) ،ودخلت �سلك الرهبنة ،ثم تركت حياة الرهبنة وغ��ادرت دير الرهبان معترفة ب�أنها لم ت�ستطع �أن تفي بمطالب حياة الرهبانية التي كانت قد اختارتها .و�أخذت تدر�س الأدب الإنجليزي في القرنين التا�سع ع�شر والع�شرين ف��ي (ب��ي��دف��ورد كوليج) جامعة ل��ن��دن ،بعدئ ٍذ �أم�ضت �سبع �سنوات تدر�س في �إحدى مدار�س البنات� ،إال �أن و�ضعها ال�صحي حال بينها وبين االنتظام في عملها بالتدري�س الذي تركته عام (1981م) ،ووا�صلت الدرا�سة حتى �سجلت ر�سالة الدكتوراه في ال�شاعر (تينين) ،لكنها �أخفقت في الح�صول عليها من قبل ممتحنها الخارجي. قامت كارين �آرم�سترونج بجهد مميز في ن�شر ثقافة التعاي�ش وال�سالم في المجتمع الإن�����س��ان��ي ،وه��ي �أرادت م��ن خ�لال ت�صحيح المفاهيم الخط�أ التي راجت بكثرة في الغرب عن الإ�سالم والم�سلمين ،وقامت بعر�ضها من خالل ذكر �سيرة الر�سول �صلى اهلل عليه و�سلم حتى يت�سنى للغرب التعرف �إلى هذه ال�شخ�صية
قامت بجهد متميز في ن�شر ثقافة المحبة وال�سالم في المجتمع الإن�ساني
العظيمة التي طالما نالت �أقالمهم و�صحفهم منه ،وحتى يقدروا �إنجازاته العظيمة في خدمة الإن�سانية ،فقد نظرت في الكتابات العلمية الغربية ،فوجدت ق�صوراً علمي ًا �شديداً ،على حد تعبيرها ،في تناول حقيقة الدين الإ�سالمي، وحقبة الح�ضارة الإ�سالمية �شرق ًا وغرب ًا في معظم الكتابات الغربية ،و�أن الذين تناولوها ،قد غلب عليهم �إما التع�صب� ،أو عدم المعرفة ،لأ�س�س و�أ�صول ومبادئ الدين الإ�سالمي ،و�إ�سهامات الح�ضارة الإ�سالمية في تقدم الح�ضارة الغربية. ومن هنا بد�أت رحلتها في البحث عن الحقائق العلمية الموثقة لرفع الغبن والتجني الذي وقع على الإ�سالم ،ب�سبب الكتابات غير المن�صفة، التي تفتقد روح البحث العلمي النزيه ،واال�ستناد �إلى الحقائق الم�ؤكدة. ولم تبالغ كارين �آرم�سترونج عندما ذكرت في كتبها� ،أن الح�ضارة الإ�سالمية قدمت تراث ًا �إ�سالمي ًا فريداً ،كان بمثابة الم�صباح الم�ضيء الذي �أ�سهم في نمو وتقدم الح�ضارة الغربية الحديثة� .إن االهتمام العالمي المتزايد في النقا�ش حول ت�أثير الإ�سالم ،وتزايد انت�شاره في كثير من البلدان الغربية ،قد جعل من كارين �آرم�سترونج متكلمة ذات �شعبية وا�سعة ،وذات ت�أثير كبير لأنها �ساعدت في بناء وجهة نظر معتدلة نحو الإ�سالم من قبل جمهور عري�ض في �أوروبا و�أمريكا .كما �أن معرفتها الوا�سعة بالثقافة العربية والإ�سالمية من م�صادرها الأ�صيلة ،قد انعك�ست على كتاباتها و�أبحاثها، وذلك بكثرة م�صادرها وتنوعها ،فقد رجعت �إلى �أ�شهر كتب ال�سيرة النبوية ،وعلوم القر�آن والحديث والتف�سير ،والتاريخ ،وكتب الأدب واللغة العربية، وكتب العقائد ،والتوراة والإنجيل ،وبع�ض كتب الم�ست�شرقين ،والمفكرين والم�ؤرخين الم�سلمين. وبالرغم من ذلك؛ فقد لقيت كارين �آرم�سترونج معار�ضة �شديدة من قبل بع�ض مفكري الغرب ب�سبب موقفها الإيجابي نحو الإ�سالم ،حتى �إنها اتهمت ب�أنها عميلة للم�سلمين ،لكن هذا الأمر لم يثنها ،بل وا�صلت طريقها في دفاعها عن الإ�سالم ،وقد برز ذلك من خالل م�ؤلفاتها الآتية: (الجهاد المقد�س :الحمالت ال�صليبية وت�أثيرها في العالم)( ،الإيمان بعد � 11سبتمبر)( ،الإ�سالم في مر�آة الغرب)( ،القد�س مدينة واحدة وثالثة
محمد �إ�سماعيل معتقدات) ،و(الإ�سالم المتعاطف). ويعد كتاب (الإ�سالم في مر�آة الغرب) الأهم والأبرز من بين جميع م�ؤلفاتها ،و�صار عالمة م�ضيئة في مجال الدرا�سات الغربية للإ�سالم، لما تميز به من مو�ضوعية وعمق وحر�ص على االعتماد على المناهج التي ال ي�أ�سرها التحيز وال��ه��وى .كما �أن الكتيب ال��ذي �أعدته كارين �آرم�سترونج بعنوان (الإ�سالم المتعاطف) قد بيع منه �أكثر من ربع مليون ن�سخة في ال�ساحل ال�شرقي بالواليات المتحدة وحدها ،وجاء كثير من الأ�سئلة �إلى كارين �آرم�سترونج �أثناء جولة محا�ضراتها التي دلت على �إح�سا�س ب�أن معرفة الأمريكيين للإ�سالم �ضئيلة جداً ،وتوجد �إرادة لمعرفة متعمقة حول الإ�سالم ،لكن �أي�ض ًا هناك كم كبير جداً من االعترا�ضات الإعالمية �ضد الإ�سالم في الروح الأمريكية. تتوان كارين �آرم�سترونج في �سبيل ولم َ دعوتها �إلى ن�شر ثقافة الت�سامح ونبذ التع�صب با�سم الأديان ،وتوطيد �أوا�صر الأخوة الإن�سانية وال�سالم في المجتمع الإن�ساني .وفي فبراير من عام (2008م) ،قدمت لمنظمة (تيد) م�شروع د�ستور با�سم مجل�س قادة الم�سيحيين والم�سلمين واليهود لر�سم د�ستور للرحمة ،وفازت كارين بمنحة �ضخمة تمنح لكل مفكر يريد تغيير العالم �إلى الأف�ضل ،وذلك لو�ضع د�ستور الرحمة ،وهو عبارة عن �أولويات �أخالقية م�شتركة في الأديان ال�سماوية تحد من ال�صدام ،وتن�شد المحبة وال�سالم ،تتبنى فهم ًا عالي ًا لروح هذه القاعدة الذهبية .وفى مايو من عام (2008م) ،منحت جائزة حرية العبادة بمعهد روزفلت ،و�صرح المعهد ب��أن البريطانية كارين �آرم�سترونج، �صارت �صوت ًا مهم ًا ،يطالب بفهم متبادل في �أوقات كثر فيها الهرج والمجابهة والعنف بين المجموعات الدينية ،وا�ست�شهد ب�أن تركيزها ال�شخ�صي المثالي نحو ال�سالم يمكن �أن يوجد في الفهم الديني.
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
9
راكم ربع قرن في تدري�س الأدب العربي وترجمة ن�صو�صه الكبرى
المـتـرجم والم�ست�شرق مايكل كوبر�سون: �أترجـم وعيـنـي علـى النـ�ص ولـيـ�س على القــارئ
راك��م مايكل كوبر�سون رب��ع ق��رن في تدري�س الأدب العربي وف��ي ترجمة ع��دد كبير م��ن ن�صو�صه ال��ك��ب��رى .ح�صل على ال��دك��ت��وراه في لغات ال�شرق الأدن���ى وح�ضاراته من جامعة ه��ارف��ارد ،وترجم ع��دد ًا من الن�صو�ص الأدب��ي��ة العربية �إلى الإن��ج��ل��ي��زي��ة ،م��ن بينها (ال��ك��ت��اب��ة وال��ت��ن��ا���س��خ :م��ق��االت في ح�سن الوزاني الثقافة العربية التقليدية) لعبدالفتاح كيليطو ،و(رحالت الطر�شجي الحلوجي) لخيري �شلبي ،و(الأم��ي��ن وال��م���أم��ون) لجرجي زي��دان، و(م��ق��ام��ات ال��ح��ري��ري) .كما ف��از بعدة ج��وائ��ز عربية ف��ي م��ج��االت مختلفة. 10
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
الجمهور المق�صود ب�أية ترجمة �إلى الإنجليزية جمهور عالمي ولي�س �أمريكي ًا فح�سب
توا�صل ولي�س �أمريكي ًا فح�سب ،ففي الهند ونيجيريا مثال نجد عدداً �ضخم ًا من القراء الذين ثقافتهم هي في الأ�سا�س ثقافة �إنجليزية ،و�إن كانت اهتماماتهم محلية �أو كوكبية .ولعلني �أُعبر عن �شعور كثير من المترجمين المتفرغين للترجمة الأدبية حين �أقول �إننا نترجم وعيننا على الن�ص ،ولي�س على القارئ� .أما بخ�صو�ص الكتب ال��ت��ي ترجم ُتها فقد ك��ان الجمهور المق�صود هو جمهور المهتمين بال�شرق الأو�سط من المخت�صين وغير المخت�صين ،با�ستثناء (المقامات) ،والتي تتوجه �إلى هواة الأالعيب اللغوية والتجارب الأ�سلوبية ب�صرف النظر عن الجغرافيا.
¯ تعود عالقتك باللغة العربية على م�ستوى ع�شت التدري�س والترجمة �إلى ربع قرن ...كيف َ هذه االزدواجية اللغوية؟ الحقيقة �أن��ن��ي ن�ش� ُأت �أتكلم اللغتينالإنجليزية واليونانية ،فاالزدواجية �أعتبرها حا ًال طبيعية .كانت ال�سنوات التي ق�ضيتها في حظيت بفر�صة م�صر محوري ًة في تكويني� ،إذ ُ التعرف �إلى جيل كامل من المثقفين ال�شبان، ور�أيت اللغ َة تنطبق على كل ظروف الحياة ،بعد �أن كانت بالن�سبة �إلى لغ ًة تحمل تراث ًا يبعد كل البعد عن معمعة الحياة اليومية.
¯ ما الذي يقودك في اختيار الأعمال التي تترجمها؟ لي�س لي معايير ثابتة ،ذل��ك لأن كلاختيار له منطقه الخا�ص .ف�أول عمل ترجمته ه��و (ال��ك��ات��ب والتنا�سخ) للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو ،وال��ذي �أعجبني تطبيقه ال�ضمني للتطورات النظرية حديثة العهد �آنذاك على الن�صو�ص التراثية� .أما كتاب (مناقب �أبي عبد اهلل �أحمد بن محمد بن حنبل) البن الجوزي ف�شدني �إليه من ناحية �شخ�صي ُة ابن حنبل، ثراء رغم تق�شفه وتوا�ضعه ،ومن ناحية �أخرى ُ و�صف تفا�صيل الحياة اليومية في بغداد القرن الثالث الهجري� ،إذ نجد على �سبيل المثال و�صف ًا دقيق ًا للمنازل والمالب�س والأطعمة وبعد بذل الجهد في وال��ع��ادات االجتماعيةَ . ا�ستق�صاء معاني الم�صطلحات العمرانية كـ(المالج والطاقچه والجرمق) ناهيك عن التعريف برجال الأ�سانيد وعددهم بالمئات.
ي�سعى بقدر الإمكان �إلى ن�شر مجموعة من الأعمال التي تمثل تنوع الموروث وثراءه ويرف�ض المنطق اال�ست�شراقي بمعناه ال�سلبي
ال يعتمد معايير ثابتة في انتقاء الكتب التي يترجمها
ترجمت عدداً مهم ًا من الن�صو�ص الأدبية ¯ َ العربية �إلى الإنجليزية .ماذا عن �آثار وم�ستوى تلقيها من طرف القارئ الأمريكي؟ أذك��ر �أو ًال �أن الجمهور المق�صود ب�أية � ّترجمة �إل��ى الإنجليزية هو جمهور عالمي من م�ؤلفاته العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
11
�أحمد فار�س ال�شدياق
عبدالفتاح كيليطو
جرجي زيدان
خيري �شلبي
ليان �ألول
تحم�ست لترجمة مقامات الحريري ب�صفتها نبهان بجوائز مالطية و�أوروبية ،ثم ُترجمت ُ �إلى العربية ،كما ُترجمت عدة روايات مالطية لعبة لغوية ال تدل على �شيء غير نف�سها. �أخرى� ،أذكر منها (جرام) ل�صاحبتها ليان �ألول. ¯ تهتم �أي�ض ًا باللغة المالطية التي تحتفظ اال�ست�شراق محاط ًا بكثير من االلتبا�سات، بكثير من الترابطات مع اللغة العربية ..كيف ¯ ظ َّل ُ ت��رى دالالت الت�أثير التي يمكن �أن تجمع �سواء على م�ستوى �إنتاجه �أو تلقيه ..ما هي اللغات؟ ال�سمات التي تطبع المدر�سة اال�ست�شراقية يجب االعتراف ب�أن اللغة المالطية قد الأمريكية في الوقت الراهن؟ٍ محاوالت كونت هويتها الخا�صة من خالل تنبغي الإ���ش��ارة �أو ًال �إل ��ى ���س��وء فهمْ لأدبائها بهدف تمييزها عن العربية� ،إذ نجد �شائع في الخطابين :ال�صحافي والأكاديمي حتى الآن من ينكر للمالطية جذورها العربية ف��ي ال��وط��ن ال��ع��رب��ي� ،أع��ن��ي �إط�ل�اق م�صطلح َ مدعي ًا �أنها فينيقية ،برغم الت�شابه البديهي اال�ست�شراق على جميع الفئات دونما تمييز ،مع ّ الموجود بينها وبين دارجات البحر الأبي�ض �أن م�صطلح اال�ست�شراق بالمعنى الحيادي من المتو�سط ،خا�صة لهجة �صفاق�س التون�سية� .ش�أنه �أن ُيطلق على فئة من َيدر�س الح�ضارات ولكن ال�سنوات الأخيرة �شهدت تقارب ًا على العربية والإ�سالمية� .أما م�صطلح اال�ست�شراق ْ ال�سلبي فمن �ش�أنه الم�ستوى الثقافي ،فقد ف��ازت رواي��ة (هجرة ح�سب مفهوم �إدوارد �سعيد ِّ اللقالق) للكاتب الفل�سطيني المالطي وليد �أن ُيطلق على فئة مدعي الخبرة في �ش�ؤون 12
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
م�صطلح اال�ست�شراق ال�سلبي من �ش�أنه �أن يطلق على فئة مدعي الخبرة في �ش�ؤون ال�شرق الأو�سط المعا�صرة
توا�صل ال�شرق الأو���س��ط المعا�صر ،والمتدخلين في �أم ��وره من منطلق هو �أ�شبه باال�ستعمارية الجديدة .ففي القرن التا�سع ع�شر ،الذي ركز عليه �إدوارد �سعيد في درا�سته الم�شهورة ،كان عدد من هواة اللغات والآثار يعملون ترو�س ًا في ٌ الجهاز التو�سعي واال�ستعماري لدول �أوروبا الكبرى ،ولكن الو�ضع قد تغير منذ ذلك الوقت ان�شق المخت�صون باللغات جذري ًا ،فقد تغيراً ّ ّ والح�ضارات ع��ن المنخرطين ف��ي ال�ش�ؤون تام ًا و�شبه تام، ال�سيا�سية والع�سكرية ان�شقاق ًا ّ وبما �أن ازدواجية م�صطلح اال�ست�شراق ال بد �أن ُتولد خلط ًا والتبا�س ًا ،فينبغي تجنبه� ،إال فيما يخ�ص ظاهرة اال�ست�شراق التاريخية والمنهج النقدي المبنى على تحليل �إدوارد �سعيد لها. أ�سهمت في �إطالق م�شروع المكتبة العربية ¯� َ التابع لجامعة نيويورك في �أبوظبي ..ما الذي يمكنه �أن تمنحه مثل هذه الم�شاريع على م�ستوى ت�سريع وتيرة الترجمة من اللغة العربية �إلى الإنجليزية؟ �أجد �أن هذه الوتيرة قد ت�سارعت بالفعل،خ�لال العقد الأخ��ي��ر ،بف�ضل ن�شاط م�شروع المكتبة العربية التابع لجامعة نيويورك في �أبوظبي والذي �صدر عنه ما ال يقل عن �سبعين مجلداً ،منها :ديوان عنترة بن �شداد ،ور�سالة الغفران للمعري ،وال�ساق على ال�ساق لأحمد فار�س ال�شدياق ،وكتاب الو�صلة �إلى الحبيب
مايكل كوبر�سون
وال ��ذي يعتبر �أول كتاب طبخ كامل و�صل عالمي ًا. عربي ًا فقط بل �إلينا حتى الآن لي�س ّ ّ وبالجملة ف�إن من�شورات المكتبة تقدم نماذج لنتاج جميع الع�صور وكثير م��ن المناطق الناطقة بالعربية ،كما �أنها تمثل طيف ًا وا�سع ًا من المجاالت ،منها ال�شعر والنثر الفني و�أدب ال�سير والطبقات وعلوم الكالم والفل�سفة وحتى فن الطبخ .وفي هذا الخ�صم ال تن�س الدور المهم الذي يقدمه الم�شروع الثقافي ل�صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي، حاكم ال�شارقة ،في ن�شر عيون الأعمال الأدبية العربية وطرحها للجمهور المتعط�ش لكل جديد، ودور دائرة الثقافة في طباعة الكثير من الكتب العربية ،ن�صو�ص ًا وق�صة ورواي���ة ..لخدمة القارئ و�إر�سائه على قواعد ثابتة من الن�شاط الثقافي. على �أ ّننا ل�سنا ب�صدد فر�ض قائمة ن�صو�ص مقررة ،وال تتويج عناوين بعينها باعتبارها �أعما ًال نموذجية �أو ممثلة بال�ضرورة للثقافة العربية ،بل ن�سعى بقدر الإم��ك��ان �إل��ى ن�شر مجموعة من الأعمال التي تمثل تنوع الموروث وثراءه� ،إما عن طريق نقل م�شاهير الأعمال �أو �إعادة نقلها في بع�ض الحاالت ،و�إما ب�إلقاء المزيد من ال�ضوء على �أع��م��ال مهجورة �أو مجهولة. وم��ن المهم للغاية االل��ت��زام ب�أ�سلوب �إنجليزي بعيد كل البعد عن �أ�سلوب الترجمات المتخبطة في حرفيتها الذي كان للأ�سف هو المعتاد لدى الم�ست�شرقين �إل��ى وقت قريب؛ وذل ��ك لأ ّن���ا نرف�ض المنطق اال�ست�شراقي (بالمعنى ال�سلبي) ،ال��ذي ي��رى في التراث العربي م�صدر معلومات ع��ن المجتمعات العربية ،ولي�س مكتبة لها قيمة علمية �أو روحية �أو جمالية بالمعنى الأو�سع.
ترجم عدداً من الن�صو�ص العربية �إلى الإنجليزية وفاز بعدة جوائز في مجاالت مختلفة
در�س الأدب العربي ّ لمدة تزيد على ربع قرن
يجب �أال نن�سى الدور الثقافي لل�شارقة في ن�شر عيون الأدب العربي
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
13
مقاالت
عنترة بن �شداد في باري�س
د .محمد �صابر عرب
في عام (١٩١٠م)� ،أ�صدرت م�صلحة البو�ستة الم�صرية تقريراً بعدد الجرائد والمجالت التي كانت ت�صدر في م�صر ،وقد �أح�صى التقرير عددها عن ع��ام (١٩١٠م) ،ب���ـ( )١٢٤جريدة ومجلة، العقد الأول من نف�س القرن بينما كان عددها في َ ( ،)١٤٤وكانت معظم ال�صحف والمجالت التي ُحجبت عن الظهور ت�صدر باللغة العربية ،بينما لم ُيحجب من ال�صحف الأجنبية �إال �صحيفة واحدة. وكانت معظم ال�صحف ت�صدر في القاهرة ،وبلغ عددها ثمانين ،وفي الإ�سكندرية �سبع ًا وثالثين، وثالث ًا في كل من بور�سعيد وطنطا ،و�صحيفة واحدة ت�صدر في �أ�سيوط. المتابع لتاريخ ال�صحافة الم�صرية ،يعلم �أن ه��ذا النق�صان ك��ان ب�سبب ���ص��دور قانون المطبوعات (١٩٠٩م) ،الذي و�ضع قيوداً �صارمة لعمل ال�صحافة بدوافع �سيا�سية خال�صة ،وتحت �ضغط من �سلطة االحتالل البريطاني .في الأول من مار�س (١٩١٠م)� ،صدرت مجلة �شهرية جديدة في محتواها وفي فكرتها (مجلة الزهور) ،ل�صاحبها الجميل ،وا�ستمر �إ�صدارها لأربع �سنوات �أنطون ُ فقط ،وهي مجلة ثقافية وفكرية وفنية و�أدبية، وقد حددت فكرتها منذ �صدور العدد الأول (مار�س ١٩١٠م) ،فقد ُعنيت ببعث الثقافة العربية �أدب ًا و�شعراً وتاريخ ًا ،وخ�صو�ص ًا في المو�ضوعات التي يجهلها الأبناء مع مطلع القرن الع�شرين ،حينما ن�شرت المجلة ما يمكن ت�سميته بالتراث البناء، الذي �أبدعه الكتاب وال�شعراء العرب طوال القرون المن�صرمة ،وقد ابتعدت عن ال�سيا�سة والدين� ،سواء �أكان ذلك ب�سبب قانون المطبوعات� ،أو خوف ًا من الخالفات ال�سيا�سية والمذهبية ،التي من الممكن �أن ُتدخل المجلة في �صراعات ال طائل من ورائها. اختارت هيئة تحرير المجلة عدداً من �شوامخ
14
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
الك ّتاب وال�شعراء ال��ع��رب ،من بينهم� :إبراهيم الحوراني و�أحمد �شوقي وخليل مطران و�إ�سماعيل ���ص��ب��ري وب�����ش��ارة ال��خ��وري وح��اف��ظ �إب��راه��ي��م وم�صطفى المنفلوطي و�شبلي �شميل ومحمد كرد علي وول��ي الدين يكن ونعيم �شقير ..وغيرهم كثيرون من م�صر وال�شام وال��ع��راق وطرابل�س الغرب والجزائر ،و�صو ًال �إلى المثقفين العرب في �أوروبا والأمريكيتين ،فقد ن�شرت المجلة �أروع ما كتبه الكتاب وال�شعراء العرب القدامى والمحدثون، كما �أف�سحت م�ساح ًة كبيرة للترجمة عن �أروع ما خلفه العقل الأوروبي من �أعمال فكرية و�شعرية وم�سرحية ،وقد ُعنيت المجلة بكل ما هو جديد في عالم الثقافة والفن ،في كل القارة الأوروبية من خالل المرا�سلين العرب المقيمين في هذه البالد، لتعريف القارئ العربي بكل ما هو جديد في عالم الن�شر والإبداعات الفكرية والثقافية والم�سرحية. ومنذ العدد الأول وحتى العدد الأخير من �إ�صدارات المجلة ،وهي تقدم وجبة ثقافية وفكرية راح يتلقفها القارئ العربي من المحيط �إلى الخليج. غطت المجلة �أخ��ب��ار الكتب الجديدة قبل االنتهاء من طباعتها و�شيوعها بين القراء ،من قبيل كتاب (النظرات) لم�صطفى المنفلوطي، والجديد في عالم الم�سرح لكبار الكتاب وال�شعراء، وخ�صو�ص ًا �أ�شعار (�إدم��ون رو�ستان) في نف�س الوقت ال��ذي كانت ُتن�شر فيه في باري�س ،وقد قارنت المجلة بين هذا ال�شاعر الفرن�سي الكبير رو�ستان ،وبين ال�شاعر الم�صري حافظ �إبراهيم، وخ�صو�ص ًا ف��ي العائد ال��م��ادي ،فبينما كان رو�ستان يتقا�ضى عن بيت واح��د من ال�شعر ما يتقا�ضاه حافظ �إبراهيم عن ع�شرات الق�صائد، ولعلها ق�ضية ماتزال قائمة برغم مرور �أكثر من قرن على هذه الظاهرة.
�صدرت مجلة «الزهور» �شهري ًا عام (١٩١٠م) ل�صاحبها �أنطون الجميل وعنيت بالثقافة والفكر والفن
�أفردت المجلة في كل �أعدادها م�ساحة كبيرة للم�سرح العربي خ�صو�ص ًا عن بداياته في �أوروبا
�أ�سئلة �أفردت المجلة في كل �أعدادها م�ساحة كبيرة للم�سرح العربي ،وخ�صو�ص ًا عن بداياته في �أوروبا ،وقد غطت المجلة عر�ض م�سرحية (عنترة بن �شداد) في باري�س ،حينما ُعر�ضت على م�سرح �أودي���ون ،وق��د كتبها بالفرن�سية �شعراً (�شكري غانم) ،و�أجاد ترجمتها و�صياغتها بلغة �شعرية رائعة ،وخ�صو�ص ًا حينما تخيل عنترة وهو يجوب البوادي في �شكل درامي بديع ،وقد ر�صدت المجلة ردود فعل الفرن�سيين على هذا العمل الذي هز قلب باري�س طرب ًا و�إعجاب ًا ،وقد ر�أى مرا�سلو المجلة �أنه عمل يفوق ما قدمه فيكتور هيجو و�شك�سبير ،وال يدانيه في تاريخ هذا الإبداع �إال دانتي ،وخ�صو�ص ًا وهو ينظر �إلى حبيبته عبلة مخاطب ًا �إياها بلغة فرن�سية ر�شيقة ،حينما يقول بلغة بني عب�س: ول��ق��د ذك���رت���ك وال���رم���اح ن��واه��لٌ مني وبي�ض الهند تقطر م��ن دمي ف�����وددت ت��ق��ب��ي��ل ال�����س��ي��وف لأن��ه��ا المتب�سم ل��م��ع��ت ك���ب���ارق ث��غ��رك ِ وعنترة بهذه ال�صورة الدرامية العميقةُ ،يع ِلي من قيمة ما قاله ال�شعراء العرب على ما قاله �شعراء الغرب ،حينما يج�سد البطولة ،حيث تكون رجولة الع�شاق ،وكيف ُيح ّلق ال�شاعر في عالم الخيال ،وال ي�أنف الباري�سيون �أن يع�شقوا البدوي الأ�سود ل�شهامته ،لأن الف�ضيلة ملك للإن�سانية جمعاء ،فال هي بدوية وال هي ح�ضرية .ولعل �أجمل ما قيل في هذا ال�سياق ،ما �أبدعه عنترة في م�شهد درامي بديع: تُ��ع��ي��رن��ي ال���ع���دا ب�����س��واد ج��ل��دي وب��ي�����ض �شمائلي تمحو ال�����س��وادا فتلك ال��م��روءة تتفق وك��ل الف�ضائل ،وال ت�ستنكفها �أية ثقافة �إن�سانية .وكان �شكري غانم ف��ي ك��ل م��ا كتب وت��رج��م ،ي�ستعيد روح عنترة بلغة فرن�سية بديعة ،ولم ي�شعر الفرن�سيون ب�أي ا�ضطراب في المعنى ،وهو بهذا يكون قد فتح باب ًا للثقافة العربية في باري�س ،وخ�صو�ص ًا حينما �أن�شد على ل�سان عنترة: دلل ال��م��ن��اي��ا ح�����ص��ان��ي ك�����ان ّ ف��خ��ا���ض غ��م��اره��ا َ و����ش���رى وب��اع��ا و���س��ي��ف��ي ك���ان ف��ي ال��ه��ي��ج��ا طبيب ًا ي���داوي ر�أ����س م��ن ي�شكو ال�صداعا ف ��أي جمال يفوق ه��ذا الجمال؟! فما �أروع الباري�سية التي �ألب�سها ال�شاعر لبا�س البدوية! لعل من المهم �أن نختار من تراثنا �أدب ًا ونثراً و�شعراً ما ُيعلي من قيمتنا في كثير مما ُحفظ من هذا الفي�ض الإن�ساني الرائع .فحينما ترجمت (�ألف ليلة وليلة) �إلى اللغة العربية والفرن�سية؛ �شعر
المثقفون الأوروبيون بعظمتها وبهائها ،وحينما ترجم �شعر عمر الخيام بلغة �إنجليزية رفيعة� ،أ�شاد النقاد وال�صحافيون بروعة هذا العمل الكبير. لقد �أحدثت م�سرحية عنترة ردود فعل عظيمة من النقاد وال�صحافيين في باري�س ،وقبل ذلك كانت الكثير من الأعمال العربية قد تعرف �إليها الأوروبيون من خالل ترجمات الريحاني وغانم وم��ردو���س وغيرهم ..ل��ذا انفتحت �آف��اق جديدة للثقافة العربية �أمام العالم ،وقد ر�صدت مجلة (الزهور) تزاحم الجماهير الفرن�سية الغفيرة على م�شاهدة م�سرحية (عنترة بن �شداد) ،و�أح�صتهم المجلة ب��الآالف ،وقد علق مرا�سل (الزهور) على ما �أحدثته الم�سرحية من ردود فعل حينما قال: (لي�س الغزاة من يفتحون البالد بالمدافع ،بل �أعظم منهم و�أنبل من يفتحون القلوب بالثقافة). �أح��دث��ت م�سرحية عنترة ب��ن ���ش��داد �ضجة كبيرة في فرن�سا ،حينما ُعر�ضت في (باري�س) و(ني�س) ،وقد �أ�شادت ال�صحف الفرن�سية بها ،من قبيل لوفيجارو ولوجورنال وغيرهما من �أمهات ال�صحف الفرن�سية. واك��ب ظهور مجلة (ال��زه��ور) حركة ثقافية وفنية كبيرة ،وخ�صو�ص ًا في مجال الم�سرح، حينما ُترجمت �إلى العربية الأعمال الكبيرة التي كانت ُتعر�ض في باري�س ولندن ،من قبيل رواية (يوليو�س قي�صر) ل�شك�سبير ،وقد ن�شرتها (الزهور) في �أعداد منتظمة ،ومثلها جورچ �أبي�ض في نف�س الوقت الذي كانت ُتعر�ض فيه في باري�س ،كما �شهدت دار الأوب��را الم�صرية عر�ض م�سرحيات عالمية كبيرة ،مثل (الأحدب) لفيفال ،و(م�ضحك الملك) لفيكتور هيجو ،و(ال�ساحرة) لفيكتور ريان، و(مدر�سة الن�ساء) لموليير ،وبينما كانت كل هذه الأعمال ُتقدم باللغة العربية الف�صيحة ،فقد �شذ عن ه��ذه القاعدة عثمان بك ج�لال ،ال��ذي نقل روايات موليير بالزجل ،وبلغة عامية مده�شة. المتابع لحال الم�سرح العربي في حياتنا المعا�صرة؛ ي�شعر بقدر من الألم� ،سواء في �سطحية المو�ضوعات التي ُتقدم� ،أو في م�ستوى الممثلين والمخرجين ،وهي �أزمة ي�شعر بها كل المتابعين للواقع الثقافي العربي .ولعل بعد هذا العر�ض من المنا�سب �أن نطرح �س�ؤا ًال� :ألي�س من الالئق �أن نعيد عر�ض هذه الأعمال الفنية الكبيرة� ،سواء المترجمة من الم�سرح العالمي� ،أو الم�ستقاة من التراث العربي؟ �أعتقد �أن حاجتنا �إلى الم�سرح ال تقل �أهمية عن حاجتنا �إلى المدر�سة والجامعة، وال تقل �أهمية عن حاجتنا �إلى الغذاء ،حتى ُن�صلح النفو�س و ُن�شيع الوعي بين مواطنينا.
�أحدثت م�سرحية «عنترة بن �شداد» �ضجة كبيرة عند عر�ضها في باري�س وقد �أ�شادت ال�صحف الفرن�سية بها
ر�أى مرا�سلو المجلة �أن تلك الم�سرحية عمل ال يدانيه �إبداعي ًا �إال دانتي
المتابع لحال الم�سرح العربي في حياتنا المعا�صرة ي�شعر بقدر من الألم على الم�ستويين الفني والفكري
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
15
عنا�صره التمثيل واللعب واالحتفال
تــ�صـــور الــوقـــت فــي
الفن الإ�سـالمي
16
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
ج�سور ك��ان المفكر الأل��م��ان��ي الكبير جادامير (٢٠٠٢-١٩٠٠م)، ق��د لخ�ص العنا�صر الأ���س��ا���س��ي��ة المكونة للفن �أي��ن��م��ا كان وم��ه��م��ا ك��ان��ت ���ص��ورت��ه ف��ي ث�لاث��ة ع��ن��ا���ص��ر ،ه��ي (التمثيل) و(اللعب) و(االح��ت��ف��ال) ،وه��ي مفاهيم مت�صلة (بالوقت)، ذل��ك المفهوم ال���ذي دار ال��ك�لام م����رار ًا ح��ول��ه ف��ي درا���س��ات خو�سيه ميغيل بويرتا ال��ف��ن الإ���س�لام��ي .م��ن م��ن��ظ��ور ج��ادام��ي��ر ،وري���ث الفل�سفة الأل���م���ان���ي���ة ال��م���ؤ���س�����س��ة ل��ع��ل��م ال���ج���م���ال ال���ح���دي���ث ،ف���ي ال���ق���رن (١٨م). تت�سم الأع��م��ال والأح���داث الفنية ب�إخراج المرء ،الفنان والمتلقي مع ًا ،من �سيرورة الوقت العادي �إل��ى وقت ال يح�سب بالثواني ودقائق ال�ساعة المتعارف عليها اجتماعي ًا ،بل وقت مغاير يقام في نف�س المرء �أثناء الفعل الفني والم�شاهدة .تجربة الفن ُتح ِد ُث اللذة الجمالية، الطرب ،الذي يح�صل في لحظة �أو لحظات الإبداع يقدم تمثي ًال والت�أمل .وفق ًا لهذا الر�أي ،ف� ّإن الفن ّ خالق ًا لأفكار �أو عواطف �أو �أحداث بوا�سطة لعبة الحوا�س والخيال والعقل ،غر�ضها الأخير هو االحتفال بالوجود والحياة �أي ًا كانت الظروف والإمالءات المفرو�ضة على الفنان. م���ن ه����ذا ال��م��ن��ط��ل��ق ،ي��ج��ب ا���س��ت��رج��اع المبادئ الجمالية للفن الإ�سالمي لال�ستمتاع ب��ه واال���س��ت��ف��ادة م��ن در���س��ه ب��رغ��م التفا�سير الأي��دي��ول��وج��ي��ة وال��م��ي��ت��اف��ي��زي��ق��ي��ة ال�شائعة والم�ستهينة ،وعي ًا �أو بال وعي� ،إنجازاته التقنية قوي وجِ ّد م�ؤثر والجمالية .لهذا التوجه ٌ مدون ٌ في فل�سفة الهيجيلية التي ت�صنف الفن الإ�سالمي �ضمن (الفن ال��رم��زي) معتبر ًة �أن��ه يرتقي �إلى قمته بف�ضل ال�شعر ال�صوفي ،ولكن دون �أن يبلغ ه��ذا الفن ن�ضوجه ال��ت��ام ،كما في ع�صر الرومان�سية الأوروبية بين القرنين ( ١٨و١٩م). تجرد الفن من ثم� ،سوف تحظى هذه الر�ؤية التي ّ الإ�سالمي من التاريخ الخا�ص به ،برواج وا�سع بعد �أن �ألقى الم�ستعرب الفرن�سي الكبير لوي�س ما�سينيون الكلمة االفتتاحية لعام (١٩٢١م) الأكاديمي في جامعة ال�سوربون الباري�سية حول مو�ضوعة (�أ�ساليب العمل الفني ل�شعوب الإ�سالم)، وهي كلمة مازال ن�صها فعا ًال حتى يومنا في �أو�ساط الم�ست�شرقين وغيرهم من الذين يعتنون بفنون الإ�سالم. و�صف (ما�سينيون) في كلمته ،كافة الفنون الإ�سالمية على �أ�سا�س �شمولي وماورائي ،فحواه �أنها تمثل الذات الإلهية ،ما يترتب �أنه ال توجد �صور وال �أ�شكال ثابتة في العالم ،طالما اهلل وحده
هو الخالد وال يجوز �إلحاق �صفة الزمن بجاللته. هذه الفكرة المو�صوفة (بالذرية) تتبلور ،في ر�أي ما�سينيون ،في ميالن ال�شعر العربي �إلى تحجير الطبيعة في ا�ستعاراته ،كما يف�سر �آخرون، باالعتماد على النظرية الذرية ذاتها ،ن�شوء فن المقر َن�صات في العمارة الإ�سالمية .لي�س هذا ُ وح�سب ،ف ��إن الم�ستعرب الإ�سباني الم�شهور غرثيا غوميث اتك�أ على �أطروحة (ما�سينيون)، كذلك يذهب باحثون �آخرون �إلى �شرح فن الرق�ش العربي كتج�سيد لمفهوم الفي�ض والنور الإلهيين من النقطة ،المركز �إلى �أنحاء الكون والعالم، ويجدون �أن التخطيطات الهند�سية والنباتية التي تغطي �سطوح التحف الإ�سالمية هي كناية عن الكمال الريا�ضي والعددي الكامن في الخلق، على غرار قول الفيثاغورثيين .لكن �أ�صحاب هذه التفا�سير ي��ع��ت��ذرون غ��ال��ب � ًا ع��ن ت��زوي��دن��ا ب��ن�����ص��و���ص ودالئ����ل م��ب��ا���ش��رة ل��ت�����س��وي��غ ادع��اءات��ه��م الأح��ادي��ة والمتجاهلة لقدرات الفن على �إن��ت��اج علم ووقت خا�صين به. م��ن الم�ستح�سن، بالتالي� ،إمعان الب�صر جادامير ف��ي ف��ن��ون �إ���س�لام��ي��ة م����ح����ددة وت�����أوي����ل م��ك��ون��ات��ه��ا ال��م��ادي��ة وال ��ث ��ق ��اف ��ي ��ة ب����روح م��ن��ف��ت��ح��ة وم��ع��م��ق��ة، وه������و ال�������ذي ف��ع��ل��ه الم�ستعرب الإ�سباني داري��و كابانيال�س في درا�سته القيمة حول ق��اع��ة ع��ر���ش يو�سف ابن حزم الأندل�سي الأول بالحمراء ،التي
العنا�صر الأ�سا�سية المكونة للفن تتمثل في التمثيل واللعب واالحتفال
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
لوي�س ما�سينيون
القرطبي
17
ج�سور �أورد فيها بعد بحث د�ؤوب ،وثائق وحجج ًا كافية ال�ستنتاج �أن ال�سقف الخ�شبي لتلك القاعة يمثل ال�سماوات ال�سبع القر�آنية المذكورة في �سورة الملك الكريمة ،المكتوبة في قاعدتها ،و�أن تلوين القبة عد �أجمل و�أعظم ال�صنائع الخ�شبية للفن التي ُت ّ الإ�سالمي الكال�سيكي ،يحاكي الألوان المن�سوبة في كتب المعراج النبوي لأ�صعدة الكون ال�سبع. برغم �شيوع الأحكام الذاهبة �إلى �أن عمائر كق�صر الحمراء ال تكلمنا �سوى عن �آنية العالم وفنائه مقابل �سرمدية الآخرة ،بيد �أن النقو�ش القر�آنية وال�شعرية والزخارف والنوافير والحدائق تخلق ف�ضاءات م�صنوعة للبقاء ولال�ستمتاع برونق الفن بحد ذات��ه ،وبغ�ض الطرف عن وظائفها الترميزية الأخرى .ال ريب في �أن الفن الإ�سالمي، كمعظم فنون الإن�سان ،فن م�صمم وم�صنوع للبقاء ،لي�س للفناء� ..إنه فن يتوق للمكوث ماد ًة ومعنى و� ْإن كان ُ�ص ّناعه مدركين ب�أن بني �آدم ً و�أعمالهم فانون .ب�صفة عامة ،لم يكن مبدعو الفن الإ�سالمي قبل الحداثة ينوون مبدئي ًا تذكير المتلقي �أن هذه الدنيا م�ؤقتة ،هاربة ،بل �إثارة الإعجاب والتمتع بال�صورة الفنية الناجمة عن ا�ستنباط العنا�صر الكامنة في الطبيعة وت�شكيلها مجدداً ب�صيغة ال �سابقة لها ،تفاجئ الحوا�س والذهن لحظة الم�شاهدة. وف��ي القطع الخزفية القرطبية المزرك�شة بكلمة (الملك) بالكوفي المزهر ،وفي العاجيات ال��م��زودة ببرامج ت�صويرية وخطية ونباتية رائعة ،وكذلك في الأن�سجة الحريرية والمذهبة والمجوهرات الم�صنوعة بالأحجار النفي�سة، نلم�س �إرادة �صناعة تحفة ح�سنة وعجيبة ،حاملة (البركة الكاملة وال�سعادة ال�شاملة والغبطة المت�صلة والعافية الباقية) ،ل�صاحبها ح�سبما نقر�ؤه في نقو�ش العديد منها .و�إذا هذا هو كذلك، ماذا نقول عن عمائر الم�شرق الإ�سالمي ال�ضخمة وال�صلبة التي باتت معالم فنية عالمية؟! يمتاز النقاد والمفكرون العرب الكال�سيكيون بتطوير ر�ؤى مف�صلة عن الفن ،ال�صنائع بلغة ذلك العهد، وعالقته بالطبيعة ،وبما بعد الطبيعة ،وعن �آلية �إنتاجه بو�ساطة التعلم والتدريب والتجريب المتعاقب ،وكعمل م�شترك بين الخيال والعقل وتطبيق ًا لقوانين مدرو�سة وموروثة .من �أجل �إح��راز جامع على م�ستوى الإم ��ارة والخالفة الأم��وي��ت��ي��ن ب��الأن��دل�����س ،اجتهد المهند�سون وال�صناع العاملون في قرطبة في �صناعة �أروقة المبنى المتراكبة وف�سيف�ساء قبلتها وقبابها البديعة بعد تعلم تقنيات هذه الأخيرة من معلم
18
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
بيزنطي ،ودون الإ�صغاء �إل��ى �أ���ص��وات بع�ض الفقهاء المواجهة للغلو في تزيين المحاريب. دليل �آخر على ا�ستقاللية الفن هي :الق�صائد المنقو�شة في جدران الحمراء التي يجوز قراءتها الدار ج ّن ٌة للخلو ِد/ كبيان لطوباوية الخلود( :هذه ُ معت للنعيم بها موا�صل و�سعودُ /ج ْ في �سرورٍ َ فنون /من ظ�لال تندى وع��ذب َب ��رود) .و(ه��ذه ٌ جنة النعيم تج ّل ْت /لي�س عنها ل�ساكن من براح/ فنقو�شي تبدو كزهر ريا�ضي /وبيا�ضي يحكي حيا ال�صباح)( .دي��وان ابن زمرك ،للنق�ش في ُم ّ طاقتين للرواق الجنوبي في باحة الرياحين). وف��ي �أك��ب��ر ت�صوير �شعري معماري لمفهوم الحديقة /الجنة الإ�سالمي بالأندل�س� ،أال وهو (الريا�ض ال�سعيد) (ق�صر الأ�سود) للغني باهلل، ع��اد (اب��ن زم��رك) �إل��ى م�صطلح (جنة خلدها) لالحتفاء بحجرات الق�صر� .أما الأ�شعار الجدارية الأخرى للحمراء ،فتدعو �أغلبيتها لبقاء الإمام مقر الإ�سالم في الأندل�س ،كما تومئ وداره ب�صفة ّ النقو�ش �إذاً ،عبر �سعي ال�ص ّناع وبت� ٍ ّأن لتنفيذ �صنعة متقنة وح�سنة ،عارفين �أن المادة فانية ولكنها قابلة لإح��راز ح�صة الكمال المتاحة للحذق والتجربة والعلم. حركية المياه في الحدائق ت�صوغ معماري ًا �صو ُر فكرة ا�ستمرارية الحياة ،و�صفحات الب َِرك ُت ِّ ت�أمل العمارة /العرو�س نف�سها في المر�آة را�ضية بجمالها وكمالها .زراع��ة الحدائق وممار�سة الفالحة في الق�صور والبيوت� ،أعمال محكومة بالهالك ،ال محالة ،لكنها هي �أي�ض ًا احتفاء بالحياة والتمتع بها كما قال ابن حزم القرطبي، و�سوف تحل الحداثة من بعد لتغيير معادلة الوقت في فن ب�لاد الإ���س�لام ،مف�سح ًة المجال �أكثر ف�أكثر لتعبير الفنان /الفرد عن �أحالمه و�إح�سا�سه بالزمان بحرية تامة تجاه القوانين الفنية الما�ضية.
ق�صر الحمراء
ظلت هذه العنا�صر مت�صلة بالوقت الذي �أثيرت حوله الكثير من الدرا�سات الإ�سالمية
غر�ض العمل الفني االحتفال بالحياة والوجود برغم كل الظروف ال�صعبة
الق�صائد المنقو�شة في جدران الحمراء تدل على ا�ستقاللية الفن الإ�سالمي
أمكنة وشواهد واجهة بحرية ملدينة بور�سعيد
¯ بور�سعيد ..وعبقرية المكان ¯ �سال ..مدينة التاريخ والحا�ضر
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
19
عرو�س قناة ال�سوي�س
بور�سعيد
وعبقرية المكان بور�سعيد� ..إح��دى �أه��م ال ُ��م��دن ال�ساحلية الم�صرية ،والتي تتميز بعبقرية المكان والزمان ،فتاريخها �ضارب بجذوره منذ ع�صور الأُ���س��ر ف��ي الع�صر الفرعوني ،وق��د كتبت �شهادة بقائها و�صمودها بدماء �شُ هدائها عبر عمر �إبراهيم محمد والملقبة الع�صور .هي عرو�س قناة ال�سوي�س ُ بالمدينة البا�سلة التي ال تعرف اال�ست�سالم ،نظر ًا لتاريخها الن�ضالي الكبير من خالل المقاومة ال�شعبية عبر �سنوات ال ِمحن التي �ألمت بها ،منذ (ع��دوان 1956م م��رور ًا بنك�سة 1967م والتهجير)� ،إلى ن�صر �أكتوبر العظيم (1973م).
20
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
ينق�سم ا�سمها �إلى �شقين (بورت )BORT وتعني الميناء ،و(�سعيد )SAIDن�سبة �إلى والي م�صر الخديوي محمد �سعيد با�شا حاكم م�صر، الذي �أمر بت�شييدها بالتزامن مع بدء حفر قناة ال�سوي�س في (� 25أبريل 1859م). وكانت بور�سعيد قبل ذل��كُ ،ت�سمى �آن��ذاك (الفرما) ،ومنها بداية طريق ال�شرق (الفرما ـ العري�ش ـ رفح ـ غزة) المعروف حينها بالطريق الحربي. وقد ُذكرت في التوراة با�سم (�سين) ومعناها المدن في ُحكم قوة م�صر ،وقد كانت من �أعظم ُ الأُ���س��ر في الع�صر الفرعوني ،وت��ؤك��د بع�ض البرديات� ،أن (�ست) قد قتل �أخاه (�أوزوري�س) وعرفت في الع�صر الم�سيحي في تلك المنطقةُ ، با�سم (برما �أو برمون) ،وفي الع�صر العربي الإ�سالمي �أ�صبح ا�سمها (الفرما). وتقع مدينة (بور�سعيد) الحالية �شمال �شرقي م�صر ،و ُتطل على �ساحل البحر الأبي�ض المتو�سط عند مدخل قناة ال�سوي�س ،يحدها �شما ًال البحر المتو�سط ،وجنوب ًا محافظة الإ�سماعيلية ،و�شرق ًا محافظة �شمال �سيناء ،ومن الغرب محافظة دمياط،
مدن وتبلغ م�ساحتها نحو �أل��ف كيلو متر مربع، ويقطنها نحو مليون ون�صف المليون ن�سمة، يعمل �أغلبهم بالتجارة وبع�ضهم في مهنة ال�صيد. وت�ضم المدينة عدة �أحياء �إدارية هي :حي المناخ الذي ُيعد �أكثر الأحياء ازدحام ًا بال ُكتلة ال�سكانية بالمدينة ،وحي ال�شرق وكان ُيطلق ُ عليه �سابق ًا الحي (الإفرنجي) وي�ضم في دائرته ال�شهداء وال ُقن�صليات، الأ�سواق ال ُتجارية وميدان ُ وبع�ض ال ُكليات والمعاهد الدرا�سية ور�صيف وهناك حي العرب ،وه��و �أق��دم (ديلي�سب�س)ُ ، الأحياء ببور�سعيد ويتميز بالمباني الخ�شبية، وي�ضم الم�ساجد القديمة والمتحف الحربي وبع�ض الأ���س��واق ،وح��ي ال�ضواحي الحديث الذي تم �إن�شا�ؤه ُعمراني ًا نتيجة لزيادة ال ُكتلة ال�سكانية بالمدينة ،و�أي�ض ًا حي (ب��ورف��ؤاد) ُ و�سمي ن�سبة للملك ف�ؤاد بور�سعيد، �شرق ويقع ُ الأول ،وهو عبارة عن جزيرة ُمثلثة ال�شكل، وقد ُ�شيد لخدمة العاملين بمرفق هيئة قناة ال�سوي�س ،وقد �أ�صبح (بورف�ؤاد) الآن مدينة تتبع وهناك �أحياء الزهور �إداري ًا لمدينة بور�سعيدُ ، والجنوب وغرب والإماراتي.
مبنى هيئة قناة ال�سوي�س
المميزة وت�ضم بور�سعيد حالي ًا من المعالم ُ الكثير منها( :ميناء بور�سعيد) بوابة العبور بين ال�شرق والغرب ،وقد �أُن�شئ عام (1869م) على المدخل ال�شمالي لقناة ال�سوي�س ،من جهة البحر الأبي�ض المتو�سط ،وهو ذو طابع خا�ص حيث يربط بين ثالث قارات؛ �آ�سيا ،و�أوروب��ا ،و�إفريقيا. و(م��ب��ن��ى هيئة ق��ن��اة ال�سوي�س)
تعد من �أهم المدن ال�ساحلية الم�صرية لجغرافية مكانها وتاريخه
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
21
عازف �سم�سمية بور�سعيدي
الذي ُ�شيد مع افتتاح القناة لخدمة المالحة العالمية ،و�أي�ض ًا (متحف بور�سعيد القومي للآثار) والذي ي�ضم �أكثر من �ستة �آالف قطعة من �شتى الع�صور ،منها الفرعوني واليوناني والروماني والقبطي والإ�سالمي ،و�أخيراً الع�صر وه��ن��اك (المتحف ال��ح��رب��ي) ال��ذي ال��ح��دي��ثُ ، ي�ضم ثالث قاعات للعر�ض؛ الأولى ُمخ�ص�صة لعر�ض تاريخ م�صر الفرعوني والإ�سالمي، والقاعة الثانية لعر�ض وتوثيق كفاح �شعب بور�سعيد �ضد العدوان ال ُثالثي عامة(1956م)، والثالثة ُمخ�ص�صة لعر�ض وت�سجيل انت�صارات
ملعب بور�سعيد
الم�سلحة في (� 6أكتوبر 1973م). ال��ق��وات ُ ويوجد �أي�ض ًا (الفنار القديم) ال��ذي ُ�شيد عام (1869م) في عهد الخديوي �إ�سماعيل ال�سفن ،وليكون نواة للبدء لكي تهتدي بنوره ُ في �إن�شاء ميناء بور�سعيد ويبلغ ارتفاعه ()56 متراً ،وهو �أول مبنى ُي�شيد بالخر�سانة في م�صر وم�صمم على �شكل ُمثمن الأ�ضالع ،ومن معالم ُ المدينة �أي�ض ًا (مقابر الكومونولث) الموجودة بحي ال��زه��ور وال��ت��ي ت�ضم ُرف���ات �ضحايا الحربين العالميتين الأول���ى والثانية من وهناك ميدان الم�سلة ومم�شى ُمختلف الدولُ ، ديلي�سب�س والحدائق العامة و�شواطئ المدينة والم�ساجد والكنائ�س العريقة. ولمدينة بور�سعيد تاريخ كبير في الثورات والمعارك الحربية ،التي خا�ضتها م�صر ،ولقد اكت�سب �شعب بور�سعيد ال�صمود والب�سالة والت�ضحية ،منذ بواكير الحياة وخ�صو�ص ًا �إب��ان ال��ع��دوان الثالثي ع��ام (1956م) ،وقد ون�ساء �أبهر ال�شعب العالم كفدائيين رج��ا ًال ً م��ن خ�لال المقاومة ال�شعبية التي �سطرت مالحم خالدة ،مازالت تتناقلها الأجيال جي ًال بعد جيل ،وت�ضم مدينة بور�سعيد العديد من الأندية الريا�ضية �أ�شهرها النادي ( الم�صري البور�سعيدي) الذي ت�أ�س�س عام (1920م) �أي منذ مئة ع��ام ،وي�شجعه �شعب بور�سعيد وال ير�ضون عنه بدي ًال.
ميناء بور�سعيد البحري
ميدان ال�شهداء ببور�سعيد ال�شهير با�سم «الم�سلة» �أحد �أ�شهر ميادين المدينة
22
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
بورف�ؤاد وبور�سعيد متجاوران منذ ال ِقدم
مثلت بداية طريق ال�شرق وكانت من �أعظم المدن في الع�صر الفرعوني
مدن
االنتقال من بور �سعيد وبور ف�ؤاد ذهاب ًا و�إياب ًا
ومن م�شاهير تلك المدينة عبر الع�صور :ال��ك��ب��ي��ر ال ��ب ��دري ف��رغ��ل��ي ،وغ��ي��ره��م كثير. من فدائيي (1956م) ال�سيد ع�سران الذي �ألقى وتحتفل بور�سعيد في ( 23دي�سمبر) من ُكل ال ُقنبلة اليدوية على الميجور(وليامز) رئي�س عام بعيدها القومي المجيد ،الذي يتزامن مع المخابرات البريطانية وقتها وهو يتجول في ذكرى ب�سالة �شعبها ،و�صمودها وانت�صارها ُ �شوارع بور�سعيد فيلقى حتفه ،ومحمد مهران على العدوان ال ُثالثي (فرن�سا و�إنجلترا و�إ�سرائيل وهناك تم 1956م) ،وقد �أ�ضحت بور�سعيد الآن مدينة الذي تم �أ�سره وترحيله لبريطانية ُ تعذيبه وفقء عينيه بعد �أن رف�ض الك�شف عن ُحرة ،وذات مكانة ُمتميزة ،من خالل مينائها ُزمالئه ،وعلي زنجير ،وزينب الكفراوي ،وعلية البحري الذي جعل المدينة من خالل موقعها ال�شطوي �أول من حملتا ال�سالح من الفدائيات ..اال�ستراتيجيُ ،نقطة ج��ذب ل�شركات النقل و�أي�����ض � ًا م��ن م��وال��ي��د المدينة وم�شاهيرها ال ُكبرى ،وت�ضم عدة مناطق �صناعية ،ومركز ًا الكاتب ال�صحافي الكبير م�صطفى �شردي ،ل�صيد الأ�سماك وت�سويقها وت�صديرها للخارج. ال��ذي عمل في جريدة (االت��ح��اد )الإماراتية وقد �أ�شاد بها قديم ًا الأدي��ب الإنجليزي مع بع�ض ُرفقائه ،والفنان محمود يا�سين( ،روديارد كبلينغ) حين قال� :إذا �أردتم ُمالقاة ونجم ن��ادي الم�صري البور�سعيدي م�سعد �شخ�ص ما عرفتموه وهو كثير ال�سفر والترحال، نور ،ورجل الأعمال ال�سيد متولي ،وال�سيا�سي فهناك مكانان على ال ُكرة الأر�ضية ُيتيحان ُ لكم ذل ��ك ،حيث عليكم الجلو�س وانتظار و�صوله �إن عاج ًال �أو �آج ًال، وهما( :لندن وبور�سعيد). وق ��ال عنها الرئي�س الأ�سبق ج��م��ال ع��ب��دال��ن��ا���ص��ر :بور�سعيد ت�ساوي وزنها ما�س ًا وياقوت ًا وذهب ًا ومرجان ًا ،م�ضروب ًا في مئة مرة. ُ ومدحها الرئي�س الجزائري الأ�سبق م�صطفى �شردي محمود يا�سين �أحمد بن بيال قائ ًال :بور�سعيد قبلة الن�ضال العالمي .وقال عنها الثائر جيفارا :لقد ا�ستمددنا القوة من بور�سعيد ،ومنحتنا العزيمة لتحرير المنا�ضلة الجزائرية كوبا .و�سطرت ُ جميلة بوحيرد كلماتها قائلة :و�أنا في بور�سعيد� ،أ�شعر وك ��أن ر�أ�سي يتجاوز ال�سحاب ،لأنني �أ�سير على الخديوي محمد �سعيد با�شا جميلة بوحيرد �أر�ض الأبطال.
ين�سب ا�سمها �إلى الخديوي محمد �سعيد با�شا حاكم م�صر الذي �أمر بت�شييدها مع حفر قناة ال�سوي�س
�شهدت عبر تاريخها الطويل مواقف �شعبها و�صموده �ضد العدوان واالحتالل
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
23
مقاالت
الغربة ..والمثقف العربي ح�سونة الم�صباحي
ب ��د� ْأت هجرتي الطوعية انطالق ًا من مطلع الثمانينيات من القرن الما�ضي.. ح��دث ذل��ك بعد �أن ا�ستعدت ج��واز �سفري المحجوز منذ منت�صف ال�سبعينيات .وبعد �أن �أم�ضيت خم�س �سنوات متنق ًال بين بلدان �أوروبية متعددة ،وا�ستقر بي المقام في مدينة ميونيخ الألمانية ،وذل��ك عام (1986م) .وفي البداية� ،أ�صبت باالرتباك والخوف ب�سبب جهلي بلغة (غوته) ،وبنمط ال��ح��ي��اة ف��ي ب�لاد ال��ج��رم��ان .لكن �شيئ ًا ف�شيئ ًا� ،ألفت الحياة في ميونيخ ،واكت�سبت �أ�صدقاء رائعين �أزاح��وا من ذهني �صورة (الألماني البارد الثقيل) ،وفتحوا عيني على عوالم و�أج ��واء بديعة خل�صتني من الخوف ومن االرتباك .عندئ ٍذ كتبت روايتي الأول��ى (هلو�سات تر�شي�ش) التي �صدرت عن دار (توبقال) المغربية عام (1995م)، وفيها �أروي ق�صة مهاجر يعود �إلى وطنه ليكت�شف خيبات جيله وفواجعه و�أمرا�ضه. بعدها قر�أت بعمق �أعمال المنفيين الكبار في الع�صر الحديث� ،أمثال جيم�س جوي�س، و�صاموئيل بيكت ،وفيتولد غومروفيت�ش، وفالديمير نابكوف .كما �أعدت قراءة كتاب كنت قد اقتنيته من مكتبة قديمة بمدينة �سو�سة التون�سية �أواخ��ر ال�سبعينيات .وهو بعنوان (الجيل الخائب) ،وفيه يروي م�ؤلفه (�ألفون�س كار) حياة المنفيين الرو�س في كل من باري�س ولندن وجنيف في العهد القي�صري ،وتحديداً في الن�صف الثاني من القرن التا�سع ع�شر ..و�أعترف ب�أني ا�ستفدت 24
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
كثيراً من ذلك الكتاب بخ�صو�ص جوانب مختلفة وم��ت��ع��ددة م��ن ح��ي��اة المنفيين. وخ �ل�ال ت����رددي ال��م��ت��وا���ص��ل ع��ل��ى م��دن �أوروبية مثل :برلين ،وكولونيا ،ومدريد، و�أم�ستردام ،تعرفت �إلى العديد من المثقفين والمبدعين والفنانين العرب الذين �أجبرتهم الأو�ضاع ال�صعبة في بلدانهم على الهجرة �إلى المنافي الأوروبية ..معهم كنت �أق�ضي �أوق��ات�� ًا طويلة ف��ي الحديث ع��ن ق�ضايا مختلفة ،ومعهم تقا�سمت �أوج��اع الغربة، وبرفقتهم ع�شت �أحالم الأر�صفة الباردة، والأركان المعتمة ،وتيه ليالي الت�شرد التي قد تنتهي ب��والدة ق�صيدة تعك�س �آالمنا الدفينة .و�شيئ ًا ف�شيئ ًا ،تمكنت من النفاذ �إل��ى �أ�سرار حياة بع�ضهم .واعتماداً على ذلك ،واعتماداً �أي�ض ًا على معا�شرتي الطويلة لهم ،كتبت رواي��ت��ي الثانية (الآخ� ��رون) التي �صورت من خاللها �أو�ضاع مثقفين من الجن�سين ،ومن بلدان عربية مختلفة، كانوا يكابدون مرارة الغربة و�إحباطاتها المدمرة .وكانت جميع ال�شخ�صيات التي حفلت بها روايتي (الآخرون) معروفة ..لذا لم �أغير �أ�سماء بع�ضها� ،إذ �إنني كنت �أبتغي �أن �أزيح الحواجز بين الواقع والخيال بحيث ال ن�ستطيع في النهاية التفريق بينهما. خالل العقود الثالثة الأخيرة ،ات�سعت الرقعة الجغرافية لهجرة المثقفين العرب لت�شمل كل البلدان الأوروبية ،و�أي�ض ًا كندا والواليات المتحدة الأمريكية ،و�أ�ستراليا. والآن ن��ح��ن ن��ع��اي��ن �أع�����داداً ك��ث��ي��رة من
الكتاب ،وال�شعراء ،والنقاد ،والر�سامين، وال�سينمائيين ،والم�سرحيين المنتمين �إل��ى بلدان عربية من الم�شرق والمغرب، يقيمون في هذه البلدان ،ومنهم من تح�صل على جن�سياتها ،وب��ات مواطن ًا فرن�سي ًا، �أو بريطاني ًا� ،أو هولندي ًا� ،أو �ألماني ًا� ،أو �سويدي ًا� ،أو �إيطالي ًا� ،أو �إ�سباني ًا� ،أو غير ذل��ك ...وه��ذه ظاهرة جديدة لم ي�سبق لها مثيل في التاريخ العربي المعا�صر� ،إذ �إن وجهات هجرة المثقفين العرب في البداية، �أي منت�صف القرن التا�سع ع�شر ،كانت باري�س .وهذا ما يتجلى من خالل (تخلي�ص الإبريز في تلخي�ص باريز) للم�صري رفاعة الطهطاوي ،و�أي�ض ًا في (ال�ساق على ال�ساق فيما هو الفارياق) للبناني �أحمد فار�س ال�شدياق ،الذي كان قد �ساح �أي�ض ًا في لندن، وفي مالطة .وفي مطلع القرن الع�شرين ،قطع المثقفون العرب المحيط الأطل�سي ليكون لهم ح�ضور م�شرق في الأمريكيتين .مع ذلك ظلت باري�س الوجهة المف�ضلة لأغلب المثقفين العرب الذين �سيلعبون دوراً مهم ًا في تطوير الثقافة على جميع الم�ستويات، نا�شرين �أفكار التحديث والإ�صالح ،وداعين ل�صحوة فكرية وثقافية تنهي ع�صور الركود واالنحطاط .وجل ه�ؤالء المثقفين انطلقوا �إل��ى الغرب �ضمن بعثات درا�سية كان الهدف منها االنفتاح على الح�ضارة الجديدة التي كانت قد ب�سطت نفوذها على العالم ب�أ�سره� ،أو دفعتهم ظروف العي�ش �إلى ترك بلدانهم بحث ًا عن حياة �أف�ضل مثلما
نافذة ك��ان ح��ال مثقفي المهجر في الأمريكيتين. لكن انطالق ًا من منت�صف ال�سبعينيات من القرن الما�ضي� ،أخذت هجرة المثقفين العرب تت�سم بموا�صفات وخ�صائ�ص تختلف عن الهجرات ال�سابقة؛ ففي هذه المرة �أ�صبحت الهجرة �إج��ب��اري��ة ب�سبب ال��ح��روب ،وتعاظم نفوذ الحركات الأ�صولية ،وتدهور الأو�ضاع االقت�صادية واالجتماعية ،وغير ذلك ..ومقارنة بالهجرات الأول��ى التي ول��دت حركات �أدبية وفنية مهمة ،وفجرت �أف��ك��اراً ج��دي��دة ،تبدو الهجرة الراهنة بائ�سة ،ومو�سومة ب�سلبيات كثيرة ومختلفة .و�أن��ا الذي �أم�ضيت �أزي��د من رب��ع ق��رن في �أوروب ��ا ،وف��ي �ألمانيا تحديداً، عاينت م��ن خ�لال تجربتي ال�شخ�صية� ،أن كثيرين من المثقفين العرب الذين يعي�شون في المهاجر يعانون ُعقداً ،و�أمرا�ض ًا نف�سية خطيرة. وقد وج��دت بين ه ��ؤالء من يت�صرفون وك�أن الهجرة ال تعني بالن�سبة �إليهم �سوى الح�صول على جن�سية البلد ال��ذي ا�ست�ضافهم ،وعلى جواز �سفرها ،مظهرين ال مباالة تجاه الم�آ�سي والأزمات التي تتخبط فيها بلدانهم ،واحتقاراً لهويتهم الوطنية .بل قد يتنكرون لهذه الهوية تنكراً كام ًال �إذا ما اقت�ضت م�صالحهم الآنية ذلك .لذلك؛ ال ينتج �أمثال ه�ؤالء �سوى �أعمال �سطحية مبتذلة� ،سواء كانت نثراً� ،أم �شعراً� ،أم فن ًا من الفنون الأخرى .وهناك مثقفون م ْغتربون يعانون ت�ضخم الذات ،متوهمين �أنهم الأف�ضل على جميع الم�ستويات .لذلك ال يتحملون النقد، وال ي�سعون �إلى تطوير تجاربهم� ،أو اال�ستفادة من تجارب �أخرى ،لت�صبح الهجرة لديهم زنزانة فردية فيها يعي�شون ،ويختنقون بغاز ذواتهم المري�ضة .وقد تعرفت �إلى مثقفين عرب يعانون االنف�صام ،وال�شعور الدائم بالحيف والظلم، متيقنين �أنهم �أنتجوا وينتجون �أعما ًال مهمة ال يدرك معانيها العميقة �آخرون غيرهم .بل قد يحاولون اختالق �أكاذيب لإثبات �أن هناك من يعمل في الخفاء لحرمانهم من المجد وال�شهرة. والحقيقة �أن �أعمال ه��ؤالء ال تعدو �أن تكون مجرد ركام من الحماقات والهذيانات .وتنت�شر بين المهاجرين العرب �أمرا�ض �أخ��رى؛ مثل الح�سد والغيرة ،وقد تدفع مثل هذه الأمرا�ض �أ�صحابها �إلى ارتكاب �أفعال غاية في الدناءة والخ�سا�سة تجاه �أقرب النا�س �إليهم .وهناك مهاجرون ين�سبون �إلى �أنف�سهم بطوالت وهمية، مروجين ،خ�صو�ص ًا لدى الغربيين� ،أنهم من �ضحايا القمع واال�ستبداد في بلدانهم .لكن عند
التثبت في �سيرهم ،نتبين �أن ما يروجونه ال �صلة له بالواقع... وب�سبب متاعب الهجرة وم�صاعبها ،تكثر الخ�صومات بين المثقفين ،فتندلع معارك حامية ال تكاد تختلف عن معارك القبائل، لتنتفي كل مظاهر الت�آزر والت�ضامن والثقة، ولتتحول الهجرة �إل��ى جحيم ال يطاق .وقد ال يهتم المثقفون العرب بثقافة البلد الذي ا�ست�ضافهم ،ومنحهم الجن�سية والإق��ام��ة، وال يتابعون ما يحدث فيه من �أن�شطة فنية و�أدب��ي��ة ون ��دوات فكرية ،بل يتقوقعون على �أنف�سهم لت�صبح هجرتهم (غيتو) مرعب ًا يعطل طاقة الخيال والإبداع .وقد تت�شكل في الهجرة (مافيات) ت�سهم في تعميق الخالفات بين المثقفين العرب في مهاجرهم .وكل مجموعة م��ن ه ��ذه (ال��م��اف��ي��ات) ت�سعى ب��ك��ل ال��ط��رق والو�سائل �إلى الح�صول على ما تبتغيه حتى ولو دفعها ذلك �إلى الدو�س على �أب�سط المبادئ الأخالقية والإن�سانية. ومعنى ه��ذا� ،أن هجرة المثقفين العرب هجرة قا�صرة ومعطوبة ال ترتقي �إلى م�ستوى الهجرات الكبيرة الخالقة ،لأنها ناتجة عن كوابي�س التاريخ وجراحه الم�ؤلمة .وفي هجرة كهذه ،ي�صبح الأدب والفن مجرد (�سفر ليلي �أعمى) بح�سب تعبير الأرمني �أرمين لوبين، ودخو ًال في �صحراء تكون فيها الكلمات �سابقة للأ�شياء ،ومعمقة لالنبتات ،ولالنف�صال عن الهوية ،وعن الوطن .ولعل كل هذا يف�سر غياب �أع��م��ال �أدب��ي��ة وفنية عالية القيمة ورفيعة الم�ستوى ،مثل تلك التي �أنتجها المهاجرون العرب القدماء� ،أم��ث��ال :طه ح�سين ،وتوفيق الحكيم ،وجبران خليل جبران ،والطيب �صالح، وميخائيل نعيمة ،وه�شام �شرابي ،ويحيى حقي ،وغيرهم... وخ�شية �أن (�أتعفن) في غربتي ،تخيرت ال��ع��ودة �إل��ى وطني ع��ام (2004م) .وبرغم ال�صعوبات التي واجهتها ومازلت �أواجهها، ف�إنني تمكنت م��ن �أن �أن��ج��ز �أع��م��ا ًال تعك�س �أو�ضاع وطني ،ومجتمعي .ولكي �أزداد توغ ًال في غربتي الداخلية ،تركت مدينة الحمامات التي �أق��م��ت فيها بعد ع��ودت��ي م��ن �ألمانيا، لأ�ستقر نهائي ًا في م�سقط ر�أ�سي وال جيران لي غير الزيتون واللوز ،وال رفيق لي �سوى قطين ،وع�شر دجاجات وكتب كثيرة في جميع مجاالت المعرفة .وفي هذه العزلة المختارة، �أ�شعر ب�أني �أولد من جديد كاتب ًا و�إن�سان ًا..
تعج المدن الغربية بقوافل المثقفين والمبدعين العرب وهم يكابدون مرارة الغربة
�سجلت حياتي واغترابي في رواياتي (هلو�سات تر�شي�ش -والآخرون)
ات�سمت هجرات المثقفين العرب مع �سبعينيات القرن الفائت ب�أنها �إجبارية لأ�سباب متعددة
ظهرت �أمرا�ض عديدة لدى المثقفين العرب جعلت من �إبداعهم مجرد (�سفر ليلي �أعمى)
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
25
لكن ،قبل ذل��ك� ،سيثير انتباهك ما تعاقب عليها الموريون والفينيقيون والرومان ي�شبه القلعة الكبرى ،ب�أ�سوارها ال�ضخمة وبواباتها الفارهة ،ال�ستيطانها جانب ًا من ربوة عالية ،وهي ت�شرف على �أعظم �أنهار المغرب� .إنها ق�صبة �شالة؛ من هنا �أتى ا�سم مدينة �سال� ،ستدخل �إليها عبر بوابة ُبرجِ ية عاتية بتذكرة �أو من دون تذكرة، �أن��ت الآن ف��ي العا�صمة ،ف��ي �صومعة (ح�����س��ان)� ،أو في لت�سلم نف�سك �إل��ى ِ�سحر التاريخ القديم، �ضريح محمد ال��خ��ام�����س ،وت��ري��د ال��ع��ب��ور �إل���ى ال�ضفة ال ��ذي يرجعه ال��م ��ؤرخ��ون �إل ��ى الع�صور الأخ���رى� ،إل��ى �سال� ،إل��ى نهر �أب��ي رق���راق� ،سوف تجتاز الحجرية ،هنا حيث تحكي الم�آثر والأطالل النهر �إل��ى ال�ضفة ال�شمالية ،ع��ن طريق ق��ارب �صغير و�أع�شا�ش اللقالق ف��وق القمم عن وجود حياة زاخرة ،ون�شاط �إن�ساني فعال �سبقنا بمجذافين� ،أنت ومجموعة من الزوار ،م�ستمتع ًا من دون الطريبق إليا�س � بما يقرب (� )1500سنة قبل الميالد .حيث ت�أكيد بن�سائم ال��غ��روب وه��ي ت ُه ُّب على �ضفاف النهر، كانت (�سال) مدينة �صغيرة تعاقب عليها وكذا بم�شهد النوار�س ،وهي تخيط �شراك لحظات من الجمال ال تن�سى. الموريون والفينيقيون والرومان.
�سال ..مدينة التاريخ والحا�ضر
26
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
�أماكن �ستخرج من (�شالة) التاريخ ،لتدخل (�سال) الحا�ضر ،وفور عبور النهر� ،ست�ستقبلك طالئع المدينة (العدوة ال�سالوية) في تقابل لطيف مع (العدوة الرباطية) ،ن�سبة �إلى �سكان رباط الفتح� ،ستحار من �أي باب َت ِل ُج ف�ضاء المدينة العتيقة ل�سال؛ فها هو باب المر�سى ،يغريك باقتحام عالم النهر والبحر ،وها هو باب دار ال�صناعة يجثم عليك ب�شكله الهند�سي الجبروتي الفريد ،وها هو باب �سبتة �أي�ض ًا ،حيث كانت �سفن الجهاد تخرج باتجاه الأندل�س ،فت�ضطر �أخيراً �إلى �أن ت�سلم نف�سك ل�سور المدينة البالغ ثالثة �أمتار ون�صف المتر ،قبل �أن تيمم خطاك المثقلة بالهواء والريح نحو الجامع الأعظم، لت�أخذ فكرة عن فن العمارة والزخرفة المغربية الأ�صيلة في العهد المريني ،وكذلك المدر�سة
المرينية التي �أمر ال�سلطان �أبو الح�سن علي بن �أب��ي �سعيد ببنائها في ( )1330هجرية. هنا �أ�ضمن لك �أن �ستقف م�شدوه ًا لدقائق ،بل ل�ساعات قبل �أن تقرر الرحيل ممتلئ ًا ومفعم ًا ب��روح التراث والفن الجميل ،لأن عالم ًا من الألوان والأ�شكال �سوف ي�أخذ بتالبيب نظراتك وحيرتك ،نا�صح ًا �إي��اك �أال ت�صطحب جهاز كاميرا معك ،لأن تخليد ال�صورة ها هنا لن ت�سعفه �إال عين باحثة عن مواطن الده�شة والجمال. ن�سيت �أن �أق���ول ل��ك� ،إن ظ��اه��رة �أخ��رى �سوف تلفت نظرك وت��وج��ه اهتمامك ،وهي عد كثرة المزارات الدينية والأ�ضرحة ،فلقد َّ العادون �أزيد من مئة �ضريح لولي ،من الأولياء ال�صالحين ،الذين مروا �أو ا�ستوطنوا المدينة،
�أبوابها و�أطاللها تحكي ق�صتها التاريخية قبل (� )١٥٠٠سنة
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
27
�أماكن و�ستجد �أن �أ�شهرهم على الإطالق �ضريح عبداهلل بن ح�سون ،الذي ي�شهد موكب ال�شموع ،و�أي�ض ًا �ضريح �سيدي �أحمد بن عا�شر. �سال حا�ضرة ،ولي�ست مدينة فح�سب ،ولو تحظ يوم ًا بلقب المدينة ال�سلطانية، �أنها لم َ كما هو الحال مع فا�س �أو مراك�ش� ،إال �أنك تكاد تطلق عليها هذا اال�سم لأ�سباب عدة؛ لقد ظلت نقطة و�صل بين ال�شمال والجنوب �أيام ال�سعديين ،الذين ك��ان المغرب في عهدهم مملكتين؛ مملكة فا�س ،ومملكة مراك�ش ،وظلت �إلى جانب رباط الفتح الذي �أ�س�سه الموحدون نقطة جذب وموقع ًا �آمن ًا للأندل�سيين القادمين من ع��دوة الأندل�س ،فا�ستقرت بها مجموعة مهمة من العائالت الأندل�سية و�أ�سهموا في �إثراء المدينة بح�ضارتهم وثقافتهم ،كما ظلت تلعب �أدواراً مختلفة ح�سب كل حقبة من حقب تتوان يوم ًا في خدمة ربوع هذه التاريخ ،ولم َ الأر����ض ،من منطلق �سخائها ووقوفها في عوادي الزمن. �إن كنت مهتم ًا بتاريخ المغرب الأق�صى، �سوف �آخذ بيدك �إلى حيث بيت �أحد رجاالت العلم والثقافة ،في القرن التا�سع ع�شر الميالدي، ال��م ��ؤرخ الكبير �أح��م��د ب��ن خالد النا�صري، �صاحب �أ�شهر مرجع في تاريخ المغرب ،وهو (اال�ستق�صا في �أخبار دول المغرب الأق�صى)، والذي ال يمكن لأي م�ؤرخ مغربي �أو متخ�ص�ص في تاريخ المغرب ،بعده �أال يعتمد عليه .و�إن كنت مولع ًا بالكتب والمخطوطات� ،سوف تكون الخزانة العلمية ال�صبيحية وجهتنا من دون ا�ستئذان وعلى وجه ال�سرعة .وقبل �أن تتعرف
مراد القادري
28
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
�إلى �شاعرها ،رئي�س بيت ال�شعر في المغرب مراد القادري� ،سوف ت�سمح لنف�سك ب�أخذ فكرة عن المتحف البحري ل�سال ،لت�أخذ في الح�سبان �أنك في بالد تمتلك تاريخ ًا عريق ًا ومجيداً في علم المالحة ال ي�ستهان به ،لتتعرف �إلى ما كان ي�سمى قديم ًا بجمهورية (�أبي رقراق) التي �أ�س�سها القرا�صنة وتعر�ض نماذج من ال�سفن، ومدافع بحرية من البرونز الت��زال �شاخ�صة فوهاتها في وجه المحيط ،تحكي زمن ًا طوي ًال من ال�صراع والمناف�سة وال�شد والجذب. وللقيام ب�إطاللة على �صور من �صور الفن والثقافة بالمدينة ،هنالك متحف دار بلغازي ال�شهير؛ لتتعرف �إلى مو�سيقا المدينة وطربها، وكثير من فنونها و�صناعاتها وتراثها الغني، ذي اللم�سة المغربية الأندل�سية. هي ذي (�سال) مدينة ال ت�ستطيع العبور دونها ،ت�ستوقفك �أنى كنت لتت�أملها ،وتدخلها، مدينة لتجتازها ال تطلب منك التعريف بنف�سك �أو م��ا �شابه ،مدينة تحتاج معها لأمتعة قليلة جداً ،خطوتان ونعل من ماء ،لت�ستطيع ال�سباحة ف��ي �أزق��ت��ه��ا المترفة بالزخارف والفنون ،ودروبها المعتقة وحواريها الم�شتبكة و�أ�سواقها الفتانة. وبعد الخروج من �أحد �أبوابها ،قبل الدخول في نهر (�أبي رقراق) مجدداً للعبور �إلى ال�ضفة الأخ����رى� ،ستجد نف�سك ،وق��د نف�ضت غبار الأزمنة ال�سحيقة الموغلة في النعومة والقدم، قد ا�ستهوتك ذائقتك ،وتاقت نف�سك المتعبة، وخطاك المترهلة من كثرة الم�شي ،قادتك �إلى منتجع مارينا الجديد� ،سنجل�س مع ًا على طاولة ت�شارف على الماء ،و�ستحط النوار�س عن قرب فوق �أكتاف الوقت ،لتخيط ثوب الم�ساء و�أنغامه على �إيقاعات �سفر جديد.
نظرة بانورامية لحي بطانة بـ «�سال»
تعبق بروح التراث والحداثة ومواطن الده�شة والجمال
ظلت نقطة توا�صل بين ال�شمال والجنوب منذ �أيام ال�سعديين
تمتلك تاريخ ًا في علم المالحة توثقه نماذج ال�سفن و�أ�سلحتها
إبداعات من معامل بور�سعيد
�شعر -ق�صة -ترجمة
¯ �أدبيات ¯ يحكى �أن ¯ قا�ص وناقد ¯ نخلة في الهواء -ق�صة ق�صيرة ¯ فرادة الفراغ -ق�صة ق�صيرة ¯ بيوليتا -ق�صة مترجمة
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
29
جمال ّيات ال ّلغة
بال�شي ِء ُ�صور ًة وهيئ ًة، ات على ُ�ض ٍ ال�شي ِء َّ روب ُم ْختل َف ٍةَ ،ف ِم ْن َهاَ :ت ْ�شبي ُه َّ ِيه ُ ال َّت ْ�شب َ َك َق ْول ْامرِئ ال َق ْي�س:
ُ��وب ال��طَّ �� ْي��رِ َرطْ ��ب�� ًا َو َي��ابِ�����س�� ًا َك����� َّأن ُق��ل َ
�إعداد :فواز ال�شعار
َ والح�ش ُف ال َبالي اب َ لد َى َوكْرِ َها ال ُع َّن ُ
والح�ش ُف الر ْط َبة، �شبه ب ِه َ ثمر �أَ ْح َمر ل�شجرة الع ّناب ،وقد َّ ّ الم�شبه بهما :ا ْل ُع َّن ُ َ القلوب َّ اب :وهو ٌ وك ُّل خي ٍر فيه ،وقد َ�ش َّبه به القلوب الياب�سة. هب ما�ؤه ُ ياب�س ال َت ْم ِر الذي َذ َ البالي :وهو ُ الر َقاع: وقول َع ِد ِّي بن ِّ
������ن ،ك َ ������ر َة َر ْو ِق ِ �����ه ت ْ ُ���زجِ ���ي َ�أغَ َّ ������أ َّن �إِ ْب َ
���دا َد َه���ا ���ن ال�����د َوا ِة ِم َ ���اب ِم َ َّ ����ص َ َق��ل ٌَ��م �أَ َ
ولد الظبي ِة بالقلم. الر�شا ،وهو ُ ّ �شب َه قرن ّ
وادي عبقر وقفتني على الأ�سى
�أبو فرا�س الحمداني (بحر الخفيف)
���ب َو َق���فَ��� ْت���ن���ي َع���ل���ى الأَ�����س����ى َوال��� َّن���ح���ي ِ ال���������س����لُ���� ُّو َرم����ان����ي كُ ����لَّ����م����ا ع������ا َدن������ي ُ ٍ ٍ �����ن�����ات ���������رات َق���������وا ِت���������لٍ ف�����ا ِت ف���������ا ِت ��������ن ُم���ع���ي���نٍ ����ب ُم�����تَ����� َّي ٍ �����م ِم ْ ���������ص ٍّ َه������ل ِل َ ����ب َح���تّ���ى ����م����ع����ا ِت ُ ال�����م�����ذْ ِن ُ �����ب ال ُ �أَ ُّي�����ه�����ا ُ ����ج����رٍ كُ ْ �����ن كَ���م���ا � ِ���ش���ئْ���تَ ِم����ن وِ�����ص����الٍ َو َه ْ ل َ ْ����ر الأَق���اح���ي �������س ُ ���م ال��� َه���وى َوثَ����غ ُ َ�����ك جِ ْ ����ح����دتَ ال���� َه����وى َولَ���� ِك����ن �أَ َق�������� َّرتْ َق ْ �����د َج َ ����ج����ري َ���ي وِ����ص���ال���ي َو َه ْ �أَن������ا ف���ي ح���الَ���ت ْ ِ���������ص ٍ ����دود �����ن ُق ���������رب ُم����نَ����غ ٍ ٍ َب����� ْي َ َّ���������ص ب ُ َ����ي خَ ����لِّ����ي����ان����ي َو َد ْم������ع������ي ي�����ا خَ ����ل����ي����ل َّ م�����ا تَ�������ق�������والنِ ف�����ي جِ ������ه������ا ِد ُم ِ �����ب �����ح ٍّ �����ص���� ْب����ري لَ���� ّم����ا َت�������أَ َّم������لَ طَ ���رف���ي َ ب������ان َ 30
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
َ ����ب ُم���ق���لَ���ت���ا َذ ِل ����������ك ال�������غَ�������زالِ ال���� َّرب����ي ِ ����ن����ج �أَ ل�����ح�����اظ ِ ِ غَ �����ص��ي��ب ���ه���م ُم ِ ِ�������س ٍ ُ �����ه ب َ �����ك�����ات ِ ٍ ����وب ف�����ا ِت ����س���ه���ا ُم���ه���ا ف�����ي ال����قُ����ل ِ ���������ن طَ ���ب���ي���ب ِ َو ِل���������������داءٍ ُم�����خ�����ا ِم�����رٍ ِم ْ ن������وب ك����انَ����ت ذُن���وب���ي ال������ذ ْ����ت َ�أ َّن ُّ ِخ����ل ُ َ �����ر َق���ل���ب���ي َع���� َل����ي َ َ��ئ��ي��ب �����ر ك ِ غَ ����� ْي َ ����ك غَ ����� ْي ُ َ�������س���ي���م ِّ َ�����ض��ي��ب ��������د ال��ق َون ِ ال�������ص���ب���ا َو َق ُّ ُ َ�����ح ُ ���ب ���م���ري ِ ��ي��اء ال���� َه����وى َول ْ �����ظ ال ُ ���س��ي�� ِم ُ ���ب ����ب ف���ي َع �������ذاب ُم���ذي ِ ٍ ِم ْ �����ن �أَذى ال ُ ����ح ِّ ق�����ي�����ب ِ�����ر َووِ�����������ص����������الٍ ُم�����نَ�����غ ٍ ِ َّ�����������ص ب َ راح َ ����روب �إ َِّن ف����ي َّ ��������ة ال���� َم���� ْك ِ ال������د ْم������ ِع َ ��ب َو َق َ ��ح��ب��ي ِ ْ���ب ف���ي َ���س��ب��ي��لِ ال َ �������ف ال���قَ���ل َ ب���ي���ب ����ي َر ِ َ ����ص��� ْب���ري بِ���� َب���� ْي����نِ ظَ ���� ْب ٍ ب������ان َ
�أدبيات
ق�صائد مغنّاة يا ُغ ْ�ص َن َن َقا
مو�شحات ابن زهر الأندل�سي .غ ّناها �صباح فخري وفيروز. من ّ (مقام الهزام)
����ن نَ����قَ����ا ُم����كَ����ل َ ً ����ب َّ��ل�ا بِ����ال����ذَّ َه ِ ���������ص َ ي����ا غُ ْ ����م �أ َدب����ي �إ ِْن كُ ��� ْن ُ ���ت َ�أ َ ������س������أْتُ ِف���ي َه���� َواكُ ْ ي����ا َم������ا ِل َ ب����اهلل ّ������ق َ������رف ْ ْ ������ك م��ه��ج��ت��ي ت َ ����ت وم���ه���ج���ت���ي ف����ي ع���لّ���ةْ روح�������ي تَ����ل����ف ْ ���دا ���ن �إذا ر� َآك ُم��� ْق��� ِب���ل َ����س���ج َ ُ�������ص ُ الْ���غ ْ ِ����و�����ص����ا ِل ِ ����ه ُي���������داوِي ال��ك��ب��دا ي����ا ْ م�����ن ب َ م���ن ���س���أل��ك َع����نِ الْ���� َه���� َوى كُ ���ن َع�����ا ِدلْ ي���ا ْ ا����س��� َم��� ْع َم���ث َ ً ����ن ُم�� ْن��تَ�� ِب��ه َل غَ ���ا ِف���لْ َ�ل�ا َم ْ َو ْ
�أَف ِ َ������د َ �����ن ال�������� َّر َدى ِب�����أُم����ي َو�أَبِ�������ي ي������ك ِم َ َ�����ون �إال ِل���نَ��� ِب���ي �������ص��� َم���ةُ َل تَ�����ك ُ فَ���الْ��� ِع ْ َل �������ن َزلَّ�������ةْ ّ ب������د ِل�����كُ�����لِّ َع�����ا� ِ�����ش�����قٍ ِم ْ هلل َل َح����������� ْولَ َو َل ُق����������� َّو َة �إال ب�����ا ْ ���ن �إذا َر�أَت َ ْ��������ك َت��خْ ��� َ��ش��ى ال��رم��دا َوالْ��� َع��� ْي ُ �����دا َم�����ا تَ��� ْف��� َع ُ ���ل���ه الْ������ َي������ ْو َم تَ����لْ����قَ����ا ُه غَ َ ع��ق��ل��ك َع ِ َ ِا ْح���������ذَ ْر ت��� ْب��� َل���ى َوخَ �������لِّ ���اق���لْ ���م َق���ا ِت���لْ ال ُ ����ب �أذى َوالْ���� ِع����� ْ����ش����قَ ُ����س ٌّ ْ����ح ُّ
فقه لغة
الج ِّيدِ مِ ْن � ْأ�ش َي َاء ُم ْخ َتل َِفةٍ في َ
نقولَ :م َط ٌر َج ْو ٌدَ .ف َر ٌ�س َج َو ٌادِ .د ْر َه ٌم َج ِّي ٌدَ .ث ْو ٌب َف ِ ي�سُ .غ َال ٌم َفار ٌِه�َ .س ْي ٌف ُج َرا ٌزِ .د ْر ٌع اخ ٌرَ .م َت ٌ اع َن ِف ٌ الم ْن ِ بت بعيد ًة عن الأَ ْح َ�سا ِء وال ُّن ُزوزِ)َ .نا َق ٌة َح ْ�ص َد ُاء� .أَ ْر ٌ �ض َع َذا ٌة (�إذا َكا َن ْت َط ِّي َب َة التربة كريم َة َ َع ْي َط ٌل (�إذا كا َن ْت َطوِي َل ًة في ُح ْ�سنِ َم ْن َظ ٍر ِ و�س َمنٍ ). الط ْيرَِ .ل َه ِ ات ال َّن ِ يم اق َّ الخ ْيلِ ِ .ع َت ُ اد َ ا�سُ .ح ْم ُر ال َّن َع ِم .جِ َي ُ وفي ِخ َيا ِر ال ْأ�ش َيا ِء نقول�َ :س َر َو ُ ام ُ الرجالَ .ح َما ِئ ُم الإبِلِ ِ �ص ِم ْن ارَ : ميمة)ْ � .أح َر ُار ُ الخا ِل ُ َ الب ُقولِ َ .ع ِقي َل ُة َ (واح ُدهاَ :ح َ المالِ .ال ُّن َ�ض ُ ِ ِ ِ ِ ِ ِ يق: الرح ُ ال�س َي َر ُاءَ : بابَ : َج َواه ِر ال ِّت ْب ِر َ �ص من ُ الخال ُ الخال ُ والخ َ�ش ِب .ال ُّل ُ الب ُرودَ . �ص من ُك ِّل َ�ش ْي ٍءِّ . ال�سمن. ال�ش َر ِ الخا ِل�ص ِم َن َّ َ اب .الأثر :الخال�ص من ّ
�أخطاء
الم ِ�س ّنة ،بالمعنى ال�سلبي ،وك�أ ّنها �شتيمة، بع�ضهم و�صف «العجوز َّ َ ي�ستخدم ُ ال�ش ْمطاء» للمر�أ ِة ُ ِ �سواد مطاء ،هي التي اختالط ال�ش َم ُط في اللغة: ُ َ بال�سوا ِدَّ ، وهي خط�أ؛ ّ اختلط ُ وال�ش ُ البيا�ض َّ ِ �شي ُب ببيا�ض ِه ،وقد ال �شعرِها تكون ُم�س ّنةَّ . َ وال�ش َم ُط في الرجلِ �َ :ش ْي ُب ال ّل ْحي ِة ،وفي المر�أ ِة ْ باء ،ويقال للرجل� :أَ ْ�ش َيب .وكل لونين اختلطا ،فهما الر� ِأ�س ،ال يقال للمر�أ ِة َ�ش ْي ُ ّ ِ ِ ببيا�ض ال ّنهار. الختالط �سوا ِد الليل ال�شميط، َ�ش ِم ٌ يط .و� ُ �سمىَّ : أول ال�صبح ُي ّ القائل فيها: ال�ص ّم ِة ،وهو ُ وال�شم ُ ْ ر�س ُدري ٍد بنِ ّ طاءَ :ف ُ
بان �صاحبـي َعللت ت ُ بال�شمطاءِ �إ ْذ َ ْ
بان �صاح ُبه بان �أو َ وكلّ امرئٍ قد َ
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
31
�أدبيات
ينابي ُع ال ُّل َغ ِة طه ح�سين
�صريُ ،ي َع ُّد َع َلم ًا من �أعالم أديب ومف ِّك ٌر ِم ٌّ طه ح�سينٌ � .. التنوير والحركة الأدبية الحديثة ،امت َل َك َب ِ�صير ًة نافذ ًة و� ْإن لقب فكري ًا �شام ًال، َّ ُحرِم الب�صر ،وقاد م�شروع ًا ّ ا�ستحق به َ وتحم َل في �سبيله �أ�شكا ًال من النقد (عميد الأدب العربي)، َّ �صادرة. والم َ ُ ِ ُولد طه ح�سين علي �سالمة ،في نوفمبر (١٨٨٩م)، ب�صره في الرابعة بقرية (الكيلو) بمحافظة المنياَ .ف َق َد َ لكن ذلك َل ْم َي ْثنِ وا ِل َده عن بالر َمدَّ ، من عمره � َ إثر �إ�صابته ّ فاج�أَ �شيخه محمد ال�صغير َ �إلحاقه ب ُك َّتاب القرية؛ حيث َ ُ ٍ ٍ حافظة وذكا ٍء متو ِّقد ،م َّك َناه من تع ُّلم بذاكرة جادالرب، اللغة والح�ساب والقر�آن الكريم في فترة وجيزة. وتابع م�سيرته الدرا�سية بخطوات وا�سعة؛ حيث َ ِ المنت�سبين �إلى التحق بالتعليم الأزهري ،ثم كان �أول الجامعة الم�صرية عام (١٩٠٨م) ،وح�صل على الدكتوراه عام (١٩١٤م) ،لتبد�أ �أولى معاركه مع الفكر التقليدي؛ َ أثار ْت �أطروح ُته (ذكرى �أبي العالء) َموج ًة عالية حيث � َ أوفد ْته الجامعة الم�صرية �إلى فرن�سا، من االنتقاد .ثم � َ وهناك �أَ َع َّد �أُطروح َة الدكتوراه الثانية (فل�سفة ابن خلدون االجتماعية) .واجتاز دبلوم الدرا�سات العليا في القانون الروماني .وكان لزواجه بال�سيدة الفرن�سية �سوزان بري�سو، ُّ عظيم الأثر في م�سيرته العلمية والأدبية؛ حيث قامت له دعم ْته بدور القارئ ،كما كانت الرفيقة المخ ِل�صة التي َ ثابرة ،وقد ُر ِز َقا اثنين من والم َ و�شج َع ْته على العطاء ُ َّ الأبناء� :أمينة وم�ؤن�س. وبعد عودته من فرن�سا ،خا�ض ِغمار الحياة العملية والعامة بقوة واقتدار؛ حيث عمل �أ�ستاذاً للتاريخ اليوناني والروماني بالجامعة الم�صرية ،ثم
32
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
�أ�ستاذاً لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب ،ثم عميداً للكلية. وفي (١٩٤٢م)ُ ،ع ِّين م�ست�شاراً لوزير المعارف ،ثم مديراً لجامعة الإ�سكندرية .وفي (١٩٥٠م)� ،أ�صبح وزيراً للمعارف ،وقاد الدعوة لمجانية التعليم و�إلزاميته ،وكان له الف�ضل في ت�أ�سي�س ٍ عدد من الجامعات الم�صرية .وفي متفرغ)، (١٩٥٩م) ،عاد �إلى الجامعة ب�صفة (�أ�ستاذ غير ِّ وت�س َّل َم رئا�سة تحرير جريدة (الجمهورية). �أثرى المكتب َة العربية بكثير من الم�ؤ َّلفات والترجمات، للتحرر واالنفتاح الثقافي ،مع يكر�س �أعما َله وكان ِّ ُّ القيمة؛ عربي ًة وم�صري ًة. االعتزاز بالموروثات الح�ضارية ِّ وبطبيعة الحال ،ا�صطدمت تجديدي ُة �أطروحاته وحداثي ُتها ِ الن�صيب ببع�ض الأفكار ال�سائدة ،فح�صدت كبرى ُم�ؤ َّلفاته َ حد رفع الدعاوى الأكبر من الهجوم الذي و�صل �إلى ِّ الق�ضائية عليه. من م�ؤ ّلفاته( :على هام�ش ال�سيرة .م�ستقبل الثقافة في م�صر .مر�آة الإ�سالم .فل�سفة ابن خلدون االجتماعية. حديث الم�ساء .في ال�شعر الجاهلي .في الأدب الجاهلي. حديث الأربعاء .حافظ و�شوقي ،مع �أبي العالء في �سجنه) وغيرها الكثير.. رحل طه ح�سين عن ُدنيانا في �أكتوبر (١٩٧٣م) عن ناه َز ( )٨٤عام ًا ،ق�ضاها معلِّم ًا وم�ؤ ِّلف ًا و�صانع ًا من عم ٍر َ �ص َّناع النور.
يحكى �أن..
النبل يغلب نداء الث�أر
عبدالرزاق �إ�سماعيل
ع��رف العرب عبر تاريخهم الموغل في القدم بف�ضائل قلما اجتمعت ل�شعب �آخر ،تتربع في �صدارتها ف�ضيلة المروءة. وتتجلى م��روءة العربي في �صور عدة �أنبلها �إغ��اث��ة الملهوف ،وح��م��اي��ة من ي�ستجير به ،ولو كلفه ذلك حياته. �إن مروءة العربي مكون �أ�سا�سي من مكونات �شخ�صيته ،وبالتالي ف�إن ق�ص�ص ه��ذه ال��م��روءة ت�ستع�صي على �أي تعداد
يح�صرها في رقم محدد ،كما �أنها �أكبر من �أن نن�سبها �إلى ع�صر معين ،ومنها هذه الق�صة بالغة الداللة. بعد �أن �آلت الخالفة �إلى بني العبا�س، كان �أن تو�سط �أحد المقربين لأبي العبا�س لل�شفاعة في �إبراهيم بن �سليمان ،فقبل �أب��و العبا�س و�ساطته و�أع��ط��ى الأم��ان لإبراهيم ،و�أكرمه وجعله �أحد جل�سائه، وذات يوم قال له �أبوالعبا�س :حدثني يا �إبراهيم عن �أغرب ما مر بك �أيام اختفائك، فقال :كنت متخفي ًا في الحيرة بمنزل م�شرف على ال�صحراء ،فبينما كنت يوم ًا على ظهر ذل��ك البيت� ،أب�صرت �أع�لام� ًا �سوداً قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، ف�أوج�ست منها خيفة �إذ ح�سبتها تق�صدني،
فخرجت م�سرع ًا من ال��دار متنكراً حتى �أتيت الكوفة ،و�أن��ا ال �أع��رف من �أختفي عنده ،فبقيت متحيراً في �أم��ري ،فنظرت ف��إذا �أنا بباب كبير فدخلته ،فر�أيت في الرحبة رج ًال و�سيم ًا لطيف الهيئة نظيف الب َّزة ،فقال لي :من �أنت وما حاجتك؟ قلت: رجل خائف على حياته ،وجاء ي�ستجير بك ،ف�أدخلني منزله ،و�آوان��ي في حجرة تلي حجرة حرمه ،ف�أقمت عنده ولي كل ما �أحب من طعام و�شراب ولبا�س وهو ال ي�س�ألني عن �شيء من حالي� ،إال �أنه كان يركب في كل يوم من الفجر وال يرجع �إال قبيل الظهر. فقلت له يوم ًا� :أراك تدمن الركوب ،ففيم ذلك ،قال لي� :إن �إبراهيم بن �سليمان بن ٍ مختف عبدالملك قتل �أبي ،وقد بلغني �أنه في الحيرة ،ف�أنا �أطلبه لعلي �أجده و�أدرك منه ث�أري. لما �سمعت ذلك يا �أمير الم�ؤمنين عظم خوفي ،و�ضاقت الدنيا في عيني ،وقلت �إني قد �سقت نف�سي �إلى حتفي. ثم �س�ألت الرجل عن ا�سمه وا�سم �أبيه، ف�أخبرني عن ذلك ،فعلمت �أن كالمه حق، فقلت له :يا هذا� ،إنه قد وجب علي حقك، وج��زاء لمعروفك لي �أري��د �أن �أدل��ك على �ضالتك ،فقال :و�أين هو؟ قلت� :أنا بغيتك �إبراهيم بن �سليمان بن عبدالملك فخذ بث�أرك ،فتب�سم وقال :هل �أ�ضجرك االختفاء والبعد عن دارك و�أهلك ف�أحببت الموت؟ قلت :ال واهلل ،ولكني �أقول لك الحق ،و�إني قتلت �أباك في يوم كذا من �أجل كذا وكذا. لما �سمع ال��رج��ل كالمي ه��ذا وعلم �صدقي تغير لونه ،واحمرت عيناه ،ثم فكر طوي ًال ،والتفت �إلي وقال� :أما �أنت ف�سوف تلقى �أبي عند حاكم عادل في�أخذ بث�أره منك ،و�أما �أنا فال �أخفر ذمتي (ال �أنق�ص عهدي) ،ولكني �أرغب في �أن تبتعد عني، ف�إني ل�ست ب�آمن عليك من نف�سي ،ثم قدم لي �ألف دينار ،ف�أبيت �أخذها ،وان�صرفت عنه .فهذه الحادثة هي �أغرب ما مر بي، وه��ذا الرجل هو �أنبل من ر�أي��ت و�سمعت بعدك ،يا �أمير الم�ؤمنين.
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
33
ق�صة
عندما غاب البدرعن ليلتها �ضو �سليم
غ��اب البدر عن �سماه ليلتها ،الدنيا مظلمة وال�شوارع مقفرة وال�سكون مطبق على الأرج���اء ،كفرا�شة ربيعية� ،أ�سرعت ت��غ��ادر مكتبها ف��ي خفة معهودة فيها، تقفز درج��ات ال�س ّلم ،تطفئ �ضوء الممر، ت��وارب الباب وتحكم �إغالقه ،ت�ضع بقايا الطعام ال��ذي تركه الموظفون على قطعة من الكرتون بمحاذاة حاوية الف�ضالت، فتهرول نحوها القطط التي �ألفتها منذ ٍ مدة .ت�سير بين �شوارع و�أنهج ومنعطفات مظلمة تكاد تخلو من المارة ..اعتادت �أن تقطعها كل م�سا ٍء على متن دراجتها الهوائية في وق��ت �أبكر من ه��ذا.. ك��ان��ت تهم ب��م��غ��ادرة مكتبها عندما تلقت ذاك االت�صال من �إح ��دى �ضحايا العنف ال��زوج��ي، و�صلها �صوتها متقطع ًا باكي ًا ناحب ًا تطلب العون ،مكثت في لتقدم لها مكتبها تنتظرها َّ الم�ساعدة والإح��اط��ة الالزمتين ،اللتين اع��ت��ادت الجمعية ت��ق��دي��م��ه��م��ا لكل �ضحايا العنف، �أذن��ت لزمالئها في ال��م��ك��ت��ب ب��ال��م��غ��ادرة، وطلبت م��ن �أح��ده��م �أن ي�أخذ دراجتها بعد �أن تعطلت �سيارته ،فبيتها ق��ري��ب ،وظ��ف��ره ب�سيارة تاك�سي ف��ي مثل ه��ذا الوقت �أمر �صعب ...كفرا�شة ربيعية انطلقت خفيفة 34
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
مرتاحة البال بعد �أن قي�ض لها م�ساعدة كل من طرق بابها؛ زميلها في المكتب ،عاملة التنظيف التي ترغب في �سلفة عن المرتب، المر�أة التي عنفها زوجها ،حتى القطط، كانت ت�شملها بعطفها وحنوها... ك��ان��ت ال��رائ��ح��ة ق��وي��ة ..عطنة ،تكتم الأنفا�س ،روائح كريهة ت�شبه العفن ،كلما وقربت تقدمت ازدادت حدتها ،لم تبالِ بها ّ ك��م معطفها م��ن �أن��ف��ه��ا� ..أث���ارت ريبتها �أ���ص��وات محمومة ت�شبه فحيح الأف��اع��ي تقطع ال�صمت المطبق على
المكان� ،ساورتها الهواج�س والظنون ..زاد من خوفها ت�سارع وقع �أقدام قريب منها، اختلط وقعها مع دقات قلبها ..قررت �أن تخرج لل�شارع الرئي�سي ،فبع�ض المحالت فيه مازالت مفتوحة الأب��واب ،وال�سير فيه �أ�سلم من هذه الأنهج المهجورة ،انعطفت ي�سرة عند �إح��دى الممرات الفرعية ،من �أح��د �أب��واب العمارات القديمة المتهالكة خرج عليها ب�سواده المعتم ،يقطع طريقها، التفتت خلفها ترغب في تغيير طريقها، فيفاجئها �ضبع ثانٍ قاتم ال�سواد� ،سدد لها لكمة �أطاحت بها �أر�ض ًا و�أ�سالت الدم من �أنفها ،وانهال عليها الثاني رك ًال ي�سدده في �أماكن متفرقة من ج�سدها بمقدمة غريب ت�شف حذائه ال�صلد في ٍ ٍّ حتى �صدر منها �صوت ي�شبه نزيب ظبية �سقطت فري�سة بين �أي��دي ال�سباع ...ب�صق عليها الأول وال��ت��ف��ت �إل��ى مرافقه قائ ًال :دعها ملقا ًة هكذا كي تكون عبر ًة لكل من ت�سول له نف�سه التطاول على النظام. ج��ث��ة م��ل��ق��اة ه��ام��دة ت��رك��ت ت��ن��زف دم���� ًا على الأ�سفلت ال��ب��ارد ،ال ذنب لها �إال لأنها كانت كفرا�شة ربيعية الحياة في عينيها ربيع مت�صل ت�أمل في عالم �أف�����ض��ل ،ولأن ال��دن��ي��ا مظلمة وال�سماء مقفرة ،لأن البدر غاب عن �سماه ليلتها.
قا�ص وناقد نقد
«عندما غاب البدر عن ليلتها» د� .سمر روحي الفي�صل
ق�صة �ضو �سليم (عندما غاب البدر عن �سماه ليلتها) تجذب المتلقي �إليها بب�ساطتها التي ال تجافي العمق .فهي تتحدث عن امر�أة ال ت�سميها ،مكتفية ب�صفاتها الإيجابية، و�أبرزها عملها في جمعية ت�ساعد الن�ساء اللواتي يتعر�ضن للعنف من �أزواج��ه��ن. والوا�ضح �أن �سارد الق�صة رغب في تر�سيخ �إيجابية هذه المر�أة ،فجعلها تراعي زمالءها في الجمعية ،فتتركهم ين�صرفون في موعد االن�صراف ،وتبقى وحدها لمعالجة ات�صال مـت�أخر ورد �إلى الجمعية من زوجة باكية تطلب الم�ساعدة .كما �أنها �أع��ارت زمي ًال لها دراجتها؛ لأن �سيارته تعطلت ،وبيتها قريب يمكن �أن تذهب �إليه �سيراً على الأقدام. وو�ضعت بقايا طعام الموظفين على قطعة كرتون قرب حاوية النفايات ،كعادتها التي �ألفتها القطط .رغبت الق�صة ،باخت�صار ،في القول �إن هذه المر�أة ودود ،مخل�صة في عملها المفيد اجتماعي ًا ،ذات ح�س �إن�ساني. راح �سارد الق�صة بعد تقديمة ال�صورة الإيجابية للمر�أة يطرح الحدث ال��ذي يعد نقي�ض ًا لل�صورة الإيجابية ،فقد ت�أخرت م�ساء لتعالج ق�ضية ال��م��ر�أة ف��ي عملها ً زوجة طلبت العون من الجمعية ،وعندما انتهت من المعالجة غادرت الجمعية وقد حل الظالم لغياب البدر� .سارت في طريق فرعية ،فلحق بها رجل ،واعتر�ض �سيرها رجل �آخر ،و�أوحى ال�سياق �أن الرجلين كانا ينتظران قدومها .لكمها الأول فوقعت �أر�ض ًا و�سال الدم من �أنفها ،وراح الثاني يركلها بت�شف غريب) في (بمقدمة حذائه ال�صلد ٍّ �أماكن مختلفة من ج�سدها ،وهي ت�صرخ مـت�ألمة .ثم طلب �أحدهما من رفيقه �أن
والن�سيج ال�شفاف
يتركها على هذه الحال (كي تكون عبر ًة لكل من ت�سول له نف�سه التطاول على النظام). ق�صة ���ض��و �سليم ،ك��م��ا ه��و وا���ض��ح، ق�سمان؛ قدم ال�سياق في الق�سم الأول �صورة �إيجابية للمر�أة ،يطمح المجتمع في �أن تملك ن�سا�ؤه �صفاتها كلها �أو بع�ضها ،فهي تعمل في جمعية تعين الن�ساء الم�ضطهدات ال��ل��وات��ي ت��ع��ر�ْ��ض��ن للعنف ف��ي بيوتهن، وت�ساعد زم�لاءه��ا ف��ي ال��ع��م��ل ،فتراعي �أحوالهم فال تطلب منهم �أن يت�أخروا عن موعد ان�صرافهم ،وتعير �أحدهم دراجتها حين تعطلت �سيارته ،وتملك ح�س ًا �إن�ساني ًا، فتطعم القطط بقايا طعام الموظفين بد ًال من �أن ترميها في حاوية القمامة .يقول الق�سم الأول باخت�صار :هذه المر�أة نموذج اجتماعي �إيجابي ي�ستحق التقدير .ثم ي�أتي الق�سم الثاني ليكون نقي�ض الأول على �سبيل المفارقة ،فعمل هذه المر�أة في جمعية تقدم العون للن�ساء الم�ضطهدات يخالف نظام المجتمع القديم القائم على حرية الرجل في معاملة المر�أة؛ لذلك تراه يدافع عن هذا النظام ،فيناه�ض الجمعية التي تدافع عن المر�أة ،وت�سعى �إلى �إلغاء �سيطرته عليها في �صورة العنف ال��ذي يوجهه لها ،ويعاقب ال��م��ر�أة التي �أوح��ت الق�صة ب�أنها مديرة الجمعية كي تكون عبرة لمن ي�سعى �إلى تقوي�ض النظام القديم الذي جعله م�سيطراً. وم��ن ث��م �أ�صبحت المفارقة ف��ي الق�صة وا�ضحة بين الإخ�لا���ص والعقوبة .فقد نذرت المر�أة نف�سها لم�ساعدة بنات جن�سها، ولكن الرجلين اللذين جعلهما �سياق الق�صة فعلهما غير ال�سليم ،لم �أ�سودين للداللة على ْ يرغبا في التنازل عن �سيطرة الرجل ،فندبا
نف�سيهما للقيام بمعاقبة المر�أة ب��د ًال من الرجال جميع ًا .هذا هو المجتمع ،وهذه هي مفارقة من مفارقاته. حكاية هذه الق�صة ذات ن�سيج �شفاف، فهي غير غام�ضة وال مبا�شرة ،ب��ل بين بين .قدمت حكاية لي�س فيها ت�سميات لل�شخ�صيات؛ لتمنح ال�سياق وال��ح��دث ق��دراً من التعميم ،وجعلت المر�أة �إيجابية والرجلين �أ�سودين؛ لتوحي بالتناق�ض بين الخير وال�شر� ،أو بين قوى التغيير والقوى المناه�ضة لها �إن جاز التعبير .والظن �أن �ضو �سليم لج�أ �إل��ى ن�سيج حكائي �شفاف ليجعل ق�صته م��ق��روءة؛ وك��ي يعلن هدفه وهو االنت�صار لحركة الدفاع عن المر�أة .وال يقلل من قيمته الإن�سانية �أن نقول �إنه قدم ق�صة ن�سوية ،تر�ضى عنها المر�أة ،وتهلل لها الحركات الن�سوية التي تناه�ض العنف، وتحارب القائمين به .والم�شكلة في هذه الق�صة كامنة في التعميم ،فعدم ت�سمية ال��م��ر�أة ي�سمح بتعميم الحدث على جن�س الن�ساء ،وو�صف المر�أة بالإيجابية يعزى في هذه الحال �إلى جن�س الن�ساء دون تمييز �أو تخ�صي�ص .وفي مقابل ذلك جعل ال�سياق الرجلين �أ�سودين ،ولم يمنحهما ت�سميتين. وهذا التعميم على جن�س الرجال يعني �أن الرجال كلهم يعنفون المر�أة ،ويناه�ضون �أية محاولة للدفاع عنها .هل هذا �صحيح؟ ال �أعتقد �أن �ضو �سليم تعمد التعميم لي�صل �إلى هذه النتيجة ،ولكن ذلك ال يعفيه من النتيجة الفنية ال�سلبية لهذا التعميم .لعل الن�سيج الحكائي ال�شفاف ،والترميز ال��ذي ير�سخ داللة (غياب البدر) على ال�شرخ في المجتمع، ي�شفعان له ،ويعفيانه من جريرة التعميم.
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
35
ق�صة ق�صيرة
نخلة في الهواء مراد ناجح عزيز
وجبة ع�شاء فاخرة ال تخلو من لحم ،و�صحبة تتجاذب �أطراف الحديث في كل �شيء ،ال �صوت يعلو فوق �صوت مزاحنا ،نفت�ش في كل �أوكار القلب ،عن �أية ابت�سامة تحيل وجه الحياة العبو�س �إلى �شجرة ي�ستظل تحتها عا�شقان� ..شلة من الأ�صدقاء بد�أنا في ا�ستح�ضار قدراتنا والبحث لها عن وظيفة �أخرى� ،أ�شار �أحدنا بلعبة التحدي ،فمن منا ي�ستطيع �أن يعبر النهر مث ًال �أو ي�صعد �إلى �أعلى النخلة المجاورة وي�سقط لنا بلحاً. ولأني كنت من هواة التحدي ،وافقت على ت�سلق �أعلى النخلة ،ربطت حب ًال بيني وبين جذع النخلة كما يفعل مت�سلقو النخل ،بد�أت في الت�سلق خطوة تلو الأخرى ،وبحذر �شديد كان الأ�صدقاء ما بين م�شجع وقلق ،و�أنا �أتابع ت�سلقي بخطوات ثابتة� ،أنظر من حين لآخر �إلى �أعلى لأجدني لم �أزل بعيداً عن مبتغاي ،ولكني كنت �أ�سبح في هذا الف�ضاء كغيمة تحلق في ال�سماء ال تعلم على �أي وطن ت�ستقر ،وال تعلم �أنها ب�شير خير �أو تعب، �إذا ما ت�صدعت من �شدة الرياح و�أ�سقطت م��ط��راً ،و�إذا م��ا حجبت �ضوء ال�شم�س و�أرخ��ت �ستائر ليل في غير موعده، ولكني مازلت ق ��ادراً على التحدي وال�صعود �إل��ى �أبعد من ذل��ك� ،أع��اود الت�سلق حتى �أ�صبحت بالفعل قريب ًا من هدفي ،مددت يدي لأقطف بع�ض البلح و�أعلن انت�صاري ،تعثرت قدمي وانزلقت� ،صرخ الأ�صدقاء ،ا�ستيقظت فوجدتني نائم ًا تحت ج��ذع نخلة �أمام البيت ،و�إذا بها زوجتي تكاد تموت �ضحك ًا بالقرب مني ،وقد �أح�ضرت لي طعام الجبن القديم ور�أ�س من الب�صل الغداء (قطعة من ُ الأخ�ضر).
36
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
ق�صة ق�صيرة
فرادة الفراغ ثريا عبدالبديع
�أح�ضر النادل قطعة (الجاتوه) ،و�ضعها فوق الطاولة برفق ،وابتعد� ،شاب مهذب، اعتاد �أن ي�ستقبلني بترحيب و�أدب �شديدين ،منذ دخ��ول��ي م��ن ب��واب��ة الكافيه ،حتى يجل�سني في مكاني على طاولتي المحببة بجوار النافذة ،منظر مده�ش ،والخ�ضرة على امتداد الب�صر �..أ�سرح� ..أرطب خيالي بطق�س ينا�سب بهجتي واحتفالي بلم�ساتي الأخ��ي��رة ل��رواي��ت��ي (ف��ي مديح ال��وح��دة).. الرواية التي �أخذت من روحي. فتحت ال�شا�شة الزرقاء كطق�س يومي.. فيديوهات لطبيب ومر�شد نف�سي �أو مدربة ف��ي التنمية ال��ذات��ي��ة ..ن�صائح وعناوين الفتة ..كيف تجعلينه يندم على فراقك.. و�أ�شياء �أخ ��رى! ال �أري��د �أن يعكر مزاجي �شيء ،وال �أحب �أن �أعي و�أفتح عقلي لكل هذا ال�صراخ� ،إذ �أ�ؤمن ب�أن الألم الحقيقي مكانه القلب ،وهل �أ�سمح لكل ذاك �أن يعكر �صفو اجتماعي بال�شوكوالتة ،وطق�سي االحتفالي، ينا�سب حفل تتويج!؟ التقطت �صوراً لجل�ستي ،لأ�ضعها على الفي�سبوك ،ورب��م��ا اخ��ت��رت منها غالف ًا لروايتى�..صوراً لل�شوكوالتة ،وكانت �أمامي غارقة في نف�سها ،وال�سائل منها ،يدعو �إلى الراحة ،بقربها كوب وحيد من ال�شاي الأحمر ،وكر�سي خال ،يزينه �شالي الأ�صفر الذهبي .كتبت عبارة على (�صفحتي) يمكنك �أن تتمتعي بالوحدة ،وتجدي لها طعم ًا غني ًا ،كتلك (ال�شوكوالتة) ..ت�أملت اللوحة، الكر�سي الفارغ ..يزين بهاءه فرادة الفراغ، و�شالي الذهبي. انتبهت ل�ضجيج يملأ المكان ..قفزات �صغار ،عائلة �صغيرة ،رب �أ�سرة جل�س وقد �أعطاني ظهره ،و�إل��ى ج��واره جل�ست �سيدة
كبيرة .كان ال�صغار على الطرف الآخر من الطاولة؛ في مواجهتي ،تجاورهم ام��ر�أة �صغيرة ..ثالثينية� ..شقراء .لم �أرفع عيني عن �أوراقي ،لكني �أح�س�ست بنظراتها تخترقني.. غبت لحظة نحو الما�ضي ،متذكرة طفولة �أبنائي الذين كبروا� ،شقوا طريقهم بعيد ًا عني ،وهاجروا �إلى �أوروب��ا ،واليوم ت�أكل ر�أ���س��ي الحيات قلق ًا عليهم ،بينما هم يتنزهون بين ميادين فرن�سا ،ومتاحف �إيطاليا! ..كيف �أخبر تلك المر�أة �أني ال �أرى �أحداً .ابت�سمت ،هل علي �أن �أطمئنها؟! �أغير من جل�ستي ،ف�أوليهم ظهري مث ًال؟! ،لكنني لم �أكترث عدت �ألتقط �أفكاري� ..صوته يغزو الأجواء ،وراح يطلق النكات ..رفعت ال�سيدة الكبيرة يدها رافعة نظارة ..راحت تنادي على ال��ن��ادل ،قالت له �إنهم وج��دوا هذه النظارة على الأر�ض .انتبهت! لأن نظارتي عيني! �أ�شرت لها، لي�ست على َّ ب��أن��ه��ا ل��ي ،ول��م��ا كان الرجل هو الأق��رب لي؛ كان من المفتر�ض� ،أن يناولني �إياها.. ف��ي ه��ذه اللحظة ،هبت المر�أة الثالثينية من جل�ستها، وطارت بخفة ،ملتقطة النظارة، لتقدمها لي بحركة خفيفة، تح�سد عليها ..ابت�سمت في نف�سي لمنظرها ،وهي تقفز كالنمر تخطف فري�سة ،وتطير كن�سر� ..ضحكت وارتفع �صوت �ضحكتي للمنظر ..جل�ست �أق ّلب �أوراق���ي ���ش��اردة ال��ذه��ن ،فقد خطفوا تركيزي ،وتال�شت تفا�صيل روايتي ،لتت�ضح تفا�صيل �أخرى ،وانتبهت �أن ال ��رج ��ل ،ال ي��ق��ر له ق����رار ..ي��ق��وم وي��ق��ع��د.. ي�سارع لي�أتي بطلبات الأ�سرة بنف�سه ،كم�ساعد للنادل ..في النهاية ،ا�ستبدل
مكانه م��ع ابنه ليجل�س ف��ي مواجهتي!! تذكرت �أي��ام ال�شباب؟! ال��م��ر�أة لم تخطئ فى ريبتها ،البهجة التي ي�شيعها وجوده الطفولي ،والفرحة التي ينثرها على من حوله .كم هي محظوظة ب��ه ..عدت �أعبث بالموبايل ،محاولة ا�ستعادة جل�ستي الأول ��ى� ..أفتح ال�شا�شة ال��زرق��اء� ،أ�شارك، و�أتعاطف مع ال�صارخات ،بكثير من الحب، واالهتمام ،فهن يبحثن ب�صراخهن عمن ي�شاركهن الأل��م ..ع��دت لخيوط روايتي، محاولة �أن �أخط نهاية ،كنت قد �أعددتها لها ،لتقفز �أمامي �صوري التي التقطتها في �أول النهار ،لل�شوكوالتة ،والمقعد الفارغ، و�شالي الأ�صفر فوق المقعد ،لكن ،كيف لم �أنتبه للونه الباهت؟!
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
37
ق�صة مترجمة
بيوليتا
ترجمة :رفعت عطفة ق�صة� :ألمو ِدنا غراند�س*
�أح��ي��ان� ًا ،تكون الحياة ع��ادل��ة ،لكن ال يحدث هذا مراراً. التقت المر�أتان منذ وق� ٍ�ت طويل �أثناء تعاونهما في م�شروع م�شترك .العالقة التي ن�ش�أت بينهما لم تكن بال�ضبط زمالة عمل، لأنهما ال تعي�شان في المكان نف�سه ،وال تلتقيان �إال حين ت�سافر �إحداهما �إلى مدينة الأخرى ،غير � ّأن لحظ ًة بعينها حافظت على ودية بينهما. عالقة ّ منذ �أربعة ع�شر عام ًا ،التقتا في ظروف خا�صة لكلتيهما ،وفي ذلك الم�ساء ،كانت للتو �أنها حامل، المر�أة ّ المدريدية قد علمت ّ ودفعتها حالة الفرح �إل��ى �إخ��ب��ار الجميع البر�شلونية الخبر بحزن بالأمر .تلقت المر�أة ّ �شديد �أف�ضى بها �إلى �أن تخبر رفيقتها بق�صة مختلفة تمام ًا. كانت ق��د ق��ررت الحمل �أخ��ي��راً ،وظنت �أنها نجحت من �أول مرة ،ولأنها في الرابعة والثالثين من عمرها ،لم ت�ستطع ت�صور � ّأي �شيء �آخر� .أجرت اختبار حمل وكانت النتيجة �سلبية ،ك��ررت االختبار ،ودون ج��دوى ،ثم �أجرت تحلي ًال تقليدي ًا ،ولم يكن هناك حمل. وعندما �أو�ضح لها الطبيب �أن حالتها نادرة، لم ت�صدق الأمر وكذلك زميلتها المدريدية. يمر يوم تقريب ًا انق�ضى الوقت دون �أن ّ ال تتذكر فيه ال��م��ر�أة المدريدية رفيقتها البر�شلونية� ،إلى �أن �أنجبت طفلة �صغيرة �سليمة ومتوردة ،بعد فترة وجيزة ،جاء خبر �سار: في بر�شلونة كان هناك زوجان على قائمة انتظار تبني طفلة بلغارية ،لم تكن طفلة مدريد قد م�شت بعد ،حين و�صلت ال�صغيرة ِ غراند�س ،روائية �إ�سبانية (-1960 * �ألمو ِدنا 2021م) من الم�ؤيدات للق�ضايا العربية وبخا�صة للق�ضية الفل�سطينية
38
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
البلغارية �إلى ق�شتالة ،لك ّل من المر�أ َتين ابنة؛ كلتاهما تبكيان ،وتق�ضيان ليالي وت�ستلطفان وتنعمان بمحبة �أميهما ،لكن يبدو �أن هذه الق�صة قد و�صلت �إل��ى نهايتها ،فاهلل حين ي�شاء ،ال راد لم�شيئته؛ ففي ( ٢٠٠٢م) ،عندما كانت طفلة مدريد بلغت من العمر خم�س �سنوات ،علمت والد ُتها من �صديقة م�شتركة ٍ بفاجعة اعت�صرت قلبها �ألم ًا ،ماتت طفلة بر�شلونة نتيجة �إ�صابتها المفاجِ ئة بحمى �شديدة لم يكن لها �سبب مفهوم .حالة نادرة وتذوقت ثانية رهيبة تدعى التهاب ال�سحاياّ . الأم البر�شلونية مرارة �أن ترى ابنتها تموت بين ذراعيها على باب الم�ست�شفى. ي�����ص��ع��ب و���ص��ف الأ�سى الذي �سببته هذه المدريدية. الفاجعة للأم ّ ولم تقدر �أن تتخيل حجم ألم الم�أ�ساة والظلم الذي � ّ بتلك الطفلة التي كانت ت�ستحق ق����دراً وح� ّ�ظ � ًا �أف�����ض��ل .وح��ي��ن ع��ادت �شق لتلتقي بزميلتهاَّ ، عليها �أكثر �أن تخبرها ب��م��دى �أل��م��ه��ا وقربها منها برغم البعد ،غير �أن ��ه ال ح�� ّل م��ع الموت الذي هو دوم ًا قاهر. م���ر ال����زم����ن ...في ّ م��دري��د� ،شاهدت ام��ر�أة اب��ن��ت��ه��ا ت��ك��ب��ر بينما كانت ت�سافر بين الفينة والأخرى �إلى بر�شلونة، ك��ي تلتقي ب��ام��ر�أة لم تعد �أب��داً تتبادل معها الحديث ع��ن الأم��ه��ات، وال ع��ن ال��ح��ظ �أو �سوء الحظ� ،إلى �أن التقتا ذات م���رة ،حيث ب ��د�أ ف�صل ّ جديد في هذه الق�صة... ال �أدري ما �إذا علمت � ّأن ل��دي اب��ن��ة ثانية...
�أخبرتها المر�أة البر�شلونية بابت�سامة عري�ضة. �سمعت الأم المدريدية الخبر بفرح عارم وطاهر� .إذ ق ّلما تكون الحياة عادل ًة ،لكنها بد من �أن نبحث تكون كذلك �أحيان ًا ،ولذا ال ّ عن الحظ بالجر�أة وال�شجاعة والعزيمة التي ملأت بها المر�أة البر�شلونية �أوراق معاملة جديدة انتهت في كازاخ�ستان ،حيث تبنت ر�ضيعة و�صلت �إلى بر�شلونة وعمرها ع�شرة �أ�شهر ،كبرت �إلى �أن �صارت الآن في ال�ساد�سة من عمرها. البهية ُتدعى بيوليتا ،وكما هو الطفل ُة ّ حال الأمور ،ف�إنها ت�شبه �أمها كثيراً.
أدب وأدباء جانب من مدينة بور�سعيد
¯ عدنان مردم بك ..من رواد ال�شعر العربي ¯ د .بومدين بلكبير� :أن تكتب ف�أنت تبحث عن �إن�سانيتك ¯ رواية «الغمي�ضة» م�سرحة ال�سرد لمقا�صد طموحة ¯ رواية «في انتظار القطار» ملحمة من العبث والإن�سانية ¯ محمود غنيم� ..شب على حب العربية وبالغتها ¯ فاروق جويدة :الطبيعة �أول معلم في الفن
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
39
من كبار كتاب الأدب الفرن�سي
الطاهر بن جلون:
�أعبر عن هويتي العربية بلغة �أجنبية يعد ال�شاعر والروائي والقا�ص وال�صحافي المغربي الطاهر بن جلون واح��د ًا من كبار كتاب الأدب الفرن�سي من غير الأ�صول الفرن�سية .وقد تنوعت كتاباته وتوزعت ،ما بين مجاالت ال�شعر والق�صة والرواية والمقالة ،ولكنه كان �أكثر �إخال�ص ًا للرواية، فقد �صدر له في هذا المجال عدة روايات منها( :حرودة ،وموحا ثراء هاني المجنون -وموحا الحكيم ،وطفل الرمال ،والليلة المقد�سة، �أو ليلة القدر ،و�صالة الغائب ،والكاتب العمومي ،وعينان منك�سرتان) ،وغيرها.
40
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
توزعت كتاباته ما بين ال�شعر والق�صة والرواية والمقال
رواد
كذلك ل��ه ع��دة مجموعات �شعرية منها: (�شجرات اللوز ماتت من جروحها) ،وديوان (رج��ال تحت كفن ال�صمت) ودي ��وان (ن��دوب ال�شم�س) ،وغيرها ،وم�ؤلفات �أخرى .وترجمت �أعماله �إلى ثالث و�أربعين لغة �أجنبية .ن�شر له �أول كتاب عن العمال المهاجرين ،وذلك عام (1976م) تحت عنوان (�أق�صى درجات العزلة)، فا�ستطاع بعد ذلك �أن ينتزع له مكان ًا بين �أ�شهر �أدباء العالم في العقود الثالثة من القرن الع�شرين. يعد الطاهر ب��ن جلون �أك��ث��ر الروائيين المغاربة �إنتاج ًا باللغة الفرن�سية ،وحقق في �سنوات نجاح ًا كبيراً داخ��ل فرن�سا نف�سها، حيث ح�صل على جائزة (كونكور) ال�شهيرة عن رائعته الروائية (ليلة القدر �أو الليلة المقد�سة). وهذه الجائزة توفر ل�صاحبها ذيوع ال�صيت لدى الجمهور الفرن�سي .وكان �سابع �أديب غير فرن�سي ،يح�صل على تلك الجائزة الأدبية، وهذه الجائزة الرفيعة ،تعتبر �أعلى تقدير �أدبي يح�صل عليه الأدباء في فرن�سا. �إن ال�صورة الرا�سخة لدى القارئين الغربي والعربي ،على حد �سواء ،عن الكاتب والأديب المغربي الطاهر بن جلون هي كونه روائي ًا، وذل��ك على الرغم من تنوع تجربة الكتابة لديه .وقد �أ�سهم في تركيز هذا الو�صف تراكمه
الإبداعي في جن�س الرواية ،الذي ح�صل بف�ضله على جوائز �أدبية مهمة على ر�أ�سها جائزة (ك��ون��ك��ور) ،كما زك��ت ه��ذه ال�صورة مختلف الأبحاث والدرا�سات النقدية التي تم �إنجازها، �إم��ا ح��ول �أعماله خا�صة ،و�إم��ا ح��ول الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرن�سية عموم ًا، والتي غالب ًا ما ركزت على �إنجازاته الروائية. لكن الرا�صد لـلطاهر بن جلون �سرعان ما يكت�شف �أن ه��ذا الرجل قد �أنجز �إل��ى جانب �أعماله الروائية المعروفة �أبحاث ًا علمية، و�أ�صدر دواوين �شعرية ،وكتب �أنطولوجيا عن ال�شعر الحديث بالمغرب ،عالوة على �إ�سهامه في مجال الكتابة الم�سرحية ب�إ�صداره عام (1984م) ن�ص ًا بعنوان (عرو�س الماء). وف��ي ع��ام (1974م) ج��ذب االنتباه من خالل تقرير مف�صل ن�شر على ال�صفحة الأولى من جريدة (لوموند) الفرن�سية ،الذائعة ال�صيت عن رحلة الحج التي قام بها �إل��ى الأرا�ضي المقد�سة ،ثم تزايد االنتباه �إليه بعد ن�شره عدة م��ق��االت ،ت�ضمنت �آراءه في ق�ضايا ال�شرق الأو�سط ،و�أظهر ت�ضامنه مع ال�شعب الفل�سطيني. ول��د الطاهر ب��ن جلون ف��ي مدينة فا�س المغربية عام (1944م) ،وانتقل مع �أ�سرته �إلى مدينة طنجة عام (1955م) ،وقد كان لها �أبلغ الت�أثير فيه ،فالطبيعة والبيئة والظروف
من �أعماله
حقق العديد من النجاحات في فرن�سا توجت بح�صوله على جائزة (كونكور)
يرى �أن الكتاب المغاربة يكتبون الفرن�سية بذاكرة عربية
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
41
رواد ال�سيا�سية ،التي مرت بها هذه المنطقة ،جعلته يتجه �إلى درا�سة الفل�سفة � ،سواء في المغرب �أو في باري�س بعد ذلك ،حيث التحق في طنجة بمدر�سة فرن�سية ،ودر���س الفل�سفة في مدينة ال��رب��اط حتى ع��ام (1971م) ،ولما �أعلنت الحكومة المغربية عزمها على تعريب تعليم الفل�سفة ،هاجر في مطلع ال�سبعينيات من القرن الما�ضي �إلى فرن�سا ،وهو يحمل طموح ًا كبيراً ،فح�صل من هناك على �شهادة الدكتوراه في علم النف�س .وبد�أ م�سيرته في الكتابة بعد فترة من و�صوله �إلى باري�س ،فاتجه �إلى كتابة ال�شعر ،وعمل كاتب ًا في �صحيفة (لوموند) ،وبد�أ ين�شر �أعماله من ال�شعر والرواية. لقد تعلم الطاهر بن جلون اللغة الفرن�سية في الوقت الذي تعلم فيه العربية ،ومع مرور الوقت �صار تحدي ًا ،ف�شعر ب�أنه ا�ستولى على لغة الأجنبي الم�ستعمر ،ال��ذي ك��ان ي�ستعمر بالده ،قائ ًال�( :إن الفرن�سية التي نكتب بها نحن المغاربة ،فرن�سية تختلف قطع ًا عن فرن�سية مي�شال تورنييه ،ولي كلوزيو ،لغتنا الفرن�سية (م�سكونة) بذاكرة عربية ،وبا�ستحياء عربي، لغة �أدخلناها في متاهة دواخلنا ،وفي ثنايا ال وعينا ،بمعنى من المعاني بتنا نحن الذين ن�ست�ضيف هذه اللغة ،ال هي التي ت�ست�ضيفنا، وذل��ك لأننا ندخلها في عالم وفي خيال لم يكن بو�سعها �أبداً �أن ت�صل �إليهما من دوننا، نحن نعبر بها ،وهي تتبدل ،وتتطور ،بل وربما ت�ستعيد لنا �شبابها) .ويقول �أي�ض ًا( :الكتاب الذين لي�سوا بفرن�سيين ويكتبون بالفرن�سية يدخلون ب�شيء جديد من ثقافتهم ،وي�ضيفونه �إلى التجربة التي هم ب�صددها ،وهذا هو الذي خلق خ�صو�صية للأدب العربي بالفرن�سية). ينتمي ال��ط��اه��ر ب��ن ج��ل��ون �إل���ى الجيل الثاني من الكتاب المغاربة ،الذين يكتبون بالفرن�سية ،فالجيل الأول ،جيل ال��رواد ،الذي
�أحمد ال�صفريوي
42
كاتب يا�سين
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
م�شهد من مدينة فا�س
يمثله �أحمد ال�صفريوي ،وكاتب يا�سين ،وعمرو�ش وغيرهم ،وذلك ا�ستجابة لرغبتهم ف��ي التعبير عن ذوات��ه��م داخ��ل مجال ثقافة الم�ستعمر ،وتقديم ���ص��ورة عن مجتمعهم .وي�صف الطاهر بن جلون الم�سكون بوجع الحا�ضر، وال��م��م��ت��ل��ئ ح��ت��ى ال��خ��ا���ص��رة بمخزون الما�ضي ،جيله قائ ًال: (كانت قناعتنا تطلع من �ضميرنا المعذب� ،إنما كنا نعبر عن ذواتنا بلغة ،ال يمكن لل�شعب قراءتها �أو �سماعها� ،أم��ا الهوة التي راحت تف�صل بين المثقف وال�شعب ،فلم تكف عن االت�ساع .لقد كنا كتاب ًا مزيفين مقتلعين ،ال نملك ،للتعبير عن �أحالمنا و�شكوكنا وغ�ضبنا، �سوى لغة اال�ستعمار .كانت الديماغوجية تهزنا ،وكنا نريد لأنف�سنا �أن نكون حديثين ومخل�صين وملتزمين� ،أي �أن نكون �شهوداً على ع�صرنا ،قريبين ،خا�صة ،من هموم �شعبنا، لذلك لكي نبرز �أنف�سنا ،رحنا نن�صب خيمتنا في المقابر ،التي كان علينا �أن نتوجه �إليها ب�شعرنا وكتاباتنا� ..أنا لم �أ�شك لحظة ف��ي حياتي ف��ي �صدق ه��وي��ت��ي ال��ع��رب��ي��ة ،ح��ت��ى ول��و كنت �أعبر عن هذه الهوية بلغة �أجنبية) .وفي مجمل الخطاب الروائي ،يعمل الطاهر بن جلون في النظام ال�سردي ،على محورة �أحداث الرواية في نقطة واحدة (نقطة مركزية) ت�شكل حبكة الرواية بمفهومها الكال�سيكي.
الطاهر بن جلون
يعتبر من الجيل الثاني من الك ّتاب المغاربة الذين يكتبون بالفرن�سية
مقاالت في العمق
المثقف العربي والهوية كلمة ثقافة تثير كثيراً من الت�سا�ؤالت! والكلمة تتردد كثيراً وك�أنها بال ثمن ..مثلما الواقع مع كلمة مثقف ..والبع�ض ينظر للمثقف على �أنه �إن�سان متعلم ..يقر�أ ويكتب ..ويمتلك �شهادة ..ولكن الكلمة لم ت��أت من ف��راغ ..لأن المثقفين هم الطبقة الواعية الم�صقولة بكثير من معارف الحياة اطالع ًا وقراءة وبحث ًا ومجال�سة.. واكت�سبت من هذه المعارف ما يفيدها لتوظيفه.. مثل حال ال�شجرة ،التي �أخذت الماء وال�سماد.. فاكت�سبت كل �شيء ،لتمتد جذورها �ضاربة في الأر�ض و�أغ�صانها حاملة �أ�شهى الثمار. والثقافة كمفهوم ،تمثل مجمل الأفكار والقيم والمثل العليا والمعتقدات التي يعبر عنها في الآداب والفنون على مختلف �أ�شكالها و�أنواعها ..وفي العادات والتقاليد والأمثال والحكم ال�شعبية وال��ن��وادر ..والثقافة حياة متحركة متفاعلة تدفع المثقف لي�س لالطمئنان �إلى الواقع وح�سب ..بل �إلى ما يجب �أن تكون عليه حركة المجتمع وعالمه ..وهنا تكون الثقافة المعتقد الذي ي�شمل المعرفة واالعتقاد والفن والقانون والأخالق والعرف و�أية قدرات وع��ادات يكت�سبها الإن�سان بو�صفه ف��رداً في المجتمع ..وق��ري��ب� ًا م��ن االت��ج��اه��ات والقيم ال�سائدة في المجتمع ..كما تعبر عنها الرموز اللغوية والأ�ساطير والطقو�س و�أ�ساليب الحياة وم�ؤ�س�سات المجتمع. والثقافة بمعناها الإن�ساني الرفيع �صقل للذهن والذوق وال�سلوك ،وتنقيته وتهذيبه� ،أو ما ينتجه العقل �أو الخيال الب�شري لتحقيق هذا الهدف ..لأن الثقافة بجانبها اللغوي تحمل معنى التهذيب وال�صقل والإعداد ..وبذلك يمكننا القول �إن الثقافة ك�سب و�إك�ساب وعطاء وتفاعل.. ومع تحديد مفهوم المثقف؛ ف�إننا نرى لقب المثقف �أو و�سام الثقافة ال يقال بتلك ال�سهولة.. لأن المثقف رج��ل االخ��ت��ب��ار ور���س��م البدائل لمجتمعه و�أمته ..والثقافة تعتمد على التوارث واالكت�ساب ..ومن ثم التفاعل وال�سعي الدائم، وهذا الأمر المهم ال يدركه �إال المثقف الواعي
المثقف �إن�سان مبدع لديه اال�ستعداد لن�شر مفاهيمه وطرح �آرائه وقدرته على الإبداع
الملم بجوانب الحياة ومقت�ضيات الع�صر. والثقافة تذوب وتن�سجم ب�شخ�صية المثقف وت�صب في حركة المجتمع ....وتدفعه للتعيير المنا�سب ..هنا نجد المثقف ب�أنه العين المتفتحة والعقل اليقظ بين �صفوف المجتمع ..لأن��ه ي�ستخدم ملكاته العقلية مع خياله وقدرته على الإبداع.. والمثقف �إن�سان مبدع لديه اال�ستعداد لن�شر �إبداعه وطرح �آرائه وقدرته على الإبداع، وم��ن مهام المثقف العربي تميزه بالقدرة المعرفية العلمية والمحاكاة العقلية والقدرة على و�صل الما�ضي بالحا�ضر و�إمكانية الت�صور الم�ستقبلي ..وهذا ما يحمله مهام ج�سيمة ..وهي بمثابة الأم��ان��ة وواج��ب عليه الحفاظ عليها ب�إخال�ص و�صبر ..والمثقف العربي تقع عليه مهام كبيرة ..وكلما ا�شتدت الأزمات المجتمعية.. يقع عليه عبء الحفاظ على الهوية ..ومد الج�سور بين الما�ضي والحا�ضر ..لأن الثقافة وعاء يحمل االنتماء للهوية ..والهوية العربية م�ستهدفة منذ القديم والت ��زال ..وه��دف الأخ��ر طم�س الهوية العربية بمحاوالت االختراق ..و�إ�ضعاف ثقافة العرب لقلب المفاهيم والت�شكيك في قدرتها وفعاليتها ..وقطع ال�صلة بين القديم والحا�ضر.. وت�شجيع الثقافات الإقليمية ..وتزييف الطابع القومي للثقافة العربية ..وهناك محاوالت جادة ومدرو�سة لت�شويه الثقافة العربية و�إ�ضعافها لأنهم يدركون �أهمية الثقافة ودورها.. وتلك الممار�سات تتطلب من المثقف العربي �أن يكون واعي ًا و�أمين ًا على مثله ومبادئه التي اكت�سبها وحملها وورثها عن �أجداده ..ومن مهام المثقف الوقوف بقوة و�صالبة �أمام كل ما يم�س �إ�ضعاف الهوية ..والوقوف في وجه تيارات التغريب التي تدعو ال�ستبدال الثقافة العربية بالنمط الفكري الغربي ..ونحن ندرك التمييز بين الح�ضارة والثقافة ..فالح�ضارة بناء مادي وعمراني� ..أما الثقافة فتعامل روحي نف�سي.. والح�ضارة ف��رع م��ن الثقافة ..ول��ذل��ك وهج الح�ضارة الغربية يجب �أال يبعدنا عن انتمائنا ويلغي معالم �شخ�صيتنا. والمثقفون وق ��ود ال�شعب ..ه��ذا ال��وق��ود عليه �أن يتحمل نف�سه ..لأن �شبابنا العربي يعاني الفجوات الكثيرة التي تباعد بينه وبين نف�سه ،وبينه وبين المجتمع ..ويعاني �أمرا�ض ًا اجتماعية م��وروث��ة ..ويتعر�ض لل�ضياع ..وال يعرف الطريق �إلى الحقيقة ..وال�شباب العربي
يحيى ال�سيد النجار يطلق �صرخة غ�ضب للكبار ..و�إنهم عاجزون عن فهمه وال�شباب حيوية وم�ستقبل ..وال�شيوخ حكمة وح�صانة ..والحياة ما�ض وحا�ضر وم�ستقبل� ..إذاً المعادلة �صعبة والمهمة �أ�صعب، وتدعو ب�إلحاح ل�سد الفجوة بين حركة الأجيال والتي يخ�شى ات�ساعها ..وهذا ي�شكل �إ�ضعاف ًا للهوية ..وت�شتت ًا لثقافة المجتمع ..ونحن �أمام محاور الأ�صالة والمعا�صرة ..والتحديث والتغريب ..والتراث له ر�ؤي��ة وال يف�صل بين الحا�ضر والما�ضي.. والمثقف العربي مطالب بر�سم الطريق، واالبتعاد عن المفاهيم الخط�أ ،وتر�سيخ الفكر الإيجابي ،وحركة الحياة لها لغة تطور ،وبحاجة �إلى جهود مدرو�سة وواعية ،وجهده يحمل �إيقاظ الوعي ،لأن الثقافة بال خ�صو�صية ال قيمة لها.. والمجتمع العربي بحاجة �إل��ى تعبئة ثقافية للحفاظ على وح��دت��ه وت��اري��خ��ه ..والمجتمع هنا يمتلك ر�ؤى الو�ضوح وفيه من م�ستجدات علمية ..والثقافة نهر الحياة المتجدد دائم ًا.. ونراها حركة م�ستمرة ودائبة ..ودور المثقف �أنه يمح�ص ويت�أمل ..وي�أخذ ما يفيد المجتمع ويحقق تقدمه ..والقطار ال ي�ستطيع ال�سير بال ق�ضبان ..والمثقف ير�سم معالم طريق م�ستقبلية لأنه يعي طبيعة ع�صره فيفهمه من كل جوانبه.. ويوظف ما اكت�سبه من معارف وعلوم وتجربة في حياته ،لت�أ�سي�س وعي مجتمعي. الثقافة معركة ح�ضارية بين ما هو كائن، وما هو موجود وما �سوف يكون� .أي معركة بين عدة تيارات ومعتقدات ومثل وقيم ،وهذا �أمر طبيعي في حركة �أي مجتمع ،ومن �أبرز �أزمات الثقافة العربية المعا�صرة ،فقدان العقل المثقف هويته الخا�صة التي هي روحه الح�ضارية ،التي تبرز �شخ�صيته وتكوينه ،وتتج�سد في ا�ستعداده لممار�سة دوره التنويري وقابليته للدفاع عن ق�ضايا مجتمعه.
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
43
ولد في كنف �أ�سرة عريقة في العلم والأدب
عدنان مردم بك من رواد ال�شعر العربي
�إن ال��ول��وج �إل���ى ع��ال��م ال�����ش��اع��ر (ع��دن��ان م���ردم ب��ك)، واكت�شاف المجاهيل التي يزخر بها ب�ستان هذا ال�شاعر المبدع في مجال الم�سرح ال�شعري ،وال��ذي يعد ثالث ثالثة من العمالقة ممن كتبوا الم�سرحية ال�شعرية في الوطن العربي ،وه��م�( :أحمد �شوقي ،وعزيز �أباظة) اللذان ي�شكالن مع ال�شاعر عدنان م��ردم ب��ك ،الأ�ضالع الثالثة في مثلث الم�سرح ال�شعري الكال�سيكي العربي.
44
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
�أميرة الخ�ضري المليجي
ولد ال�شاعر عدنان م��ردم بك في حي �سوق الحميدية بدم�شق ع��ام (1917م) في كنف �أ�سرة عريقة بالعلم والأدب ،فهو �سليل مدر�سة و�أ���س��رة �شاعرة ،عريقة في الفن ،مغرقة في �أ�صالتها� .إذاً فهو ينحدر م��ن �شجرة عريقة ال��ج��ذور ف��ي الإب���داع، فوالده ال�شاعر الكبير (خليل م��ردم بك)، �شاعر ال�شام و�صاحب مدر�سة الو�صف في ال�شعر المعا�صر ،ووزير المعارف ،ورئي�س المجمع العلمي العربي بدم�شق ،ورئي�س �أول رابطة �أدبية في �سوريا ،والتي �ضمت في ع�ضويتها نخبة من مبدعي �سوريا ،منهم: �سليم الجندي ،ونجيب الري�س ،وخيرالدين الزركلي ،وعبداهلل النجار ،وحليم دمو�س، وغيرهم ..حيث كانوا يتحلقون حول ال�شاعر خليل م��ردم بك في مجل�سه ،ويتبادلون �أحاديث الأدب والفن ،وال�شاعر (عدنان)، الذي كان اليزال �صغيراً ،ي�ستمع �إلى تلك الأحاديث ،ويت�شوق �إلى تلك االجتماعات، ثم يجد مكتبة �ضخمة ،جمعها والده كتاب ًا �إث��ر كتاب ط��وع يديه ،فيتناول منها ما تتلهف نف�سه �إلى قراءته في مرحلة الطفولة، ويقر�أ منها ما ي�شاء برغبة ونهم �شديدين، فقر�أ وهو �صغير� :شعر المعلقات ،وديوان المتنبي ،والطائي والبحتري ،ويقول�( :إن هذا الر�صيد من التراث ال�شعري العربي، كان خير زاد وعون له). في ه��ذا الجو العلمي الأدب ��ي؛ ترعرع ون�ش�أ ال�شاعر عدنان مردم بك ،ولما كبر قلي ًال ،التحق بمدر�سة الملك الظاهر ،لينهي المرحلة االبتدائية ،ثم انتقل �إلى التجهيز الر�سمية ،ثم الكلية العلمية الوطنية ،التي كان والده فيها مديراً للدرا�سات العربية، وبعد ح�صوله على ال�شهادة الثانوية ،التحق بكلية الحقوق في جامعة دم�شق وتخرج فيها ع��ام (1940م) ،ومار�س المحاماة لفترة من الزمن ،ثم عمل بالق�ضاء ،حتى �شغل من�صب م�ست�شار محكمة النق�ض.
مبدعون
خير الدين الزركلي
خليل مطران
عزيز �أباظة
نجيب الري�س
�أحمد �شوقي
�أبو فرا�س الحمداني
را�سين
د .محمد عبدالمنعم خفاجي
البحتري
عبدالرحمن الداخل
ا�شتهر ال�شاعر عدنان مردم بك بم�سرحياته ال�شعرية ،ونال على م�سرحيته (رابعة العدوية) الجائزة العالمية الثالثة في مهرجان (الكتاب ال�صوفي العالمي) ال��ذي �أقيم في (بوين�س �أير�س) عام (1972م) ،ومنح على �إثر ذلك لقب بروفي�سور من اليون�سكو ولجنة الكتاب ال�صوفي العالمي .وتم �إدراج ا�سمه في مو�سوعة الأعالم البريطانية عام (1981م) بين عداد ال�شعراء الم�سرحيين المرموقين في العالم. يقول ال�شاعر عدنان م��ردم بك ( :تعود تجربتي في معالجة نظم الم�سرحية ال�شعرية، �إلى بداية عام (1933م) ،حينما كنت تلميذاً في الكلية العلمية الوطنية بدم�شق ،في ال�صف الثالث الإع��دادي ،و�أنا في ال�سابعة ع�شرة من عمري ،ومما �أذكر �أن مدر�س الأدب الفرن�سي �إذ ذاك لوي�س �سيكارا ،كان يقوم ب�شرح ن�ص �أدبي لل�شاعر الم�سرحي الكبير «را�سين» ،وذلك من م�سرحية �أندروماك ،نظر �إلي وقال :هذا نوع من الأدب تفتقرون �إليه �أنتم معا�شر العرب، وهو جليل و�صعب .وك��ان يعلم �أن��ي �أتعاطى نظم ال�شعر ،و�أني من ال�شعراء ال�شباب النابهين، وك�أنه كان يحر�ضني على االلتفات لهذا النوع م��ن ال�شعر .و���ص��ادف �أن وقعت عيناي في مكتبة المرحوم وال��دي خليل مردم بك ،على م�سرحيتين �شعريتين لل�شاعر خالد الذكر �أحمد �شوقي ،وهما «م�صرع كليوباترا» ،وم�سرحية
«مجنون ليلى» ،فانكببت على مطالعتهما، ول�شدة ما فتنت بهما ،طر�أ خاطر على فكري: لم ال �أجرب نظم الم�سرحية ال�شعرية� ،ش�أن حال ال�شعراء الفرن�سيين ،وهذا ال�شاعر �أحمد �شوقي، حاول ونجح في تجربته؟ فر�أيت �أن �أتوكل على اهلل ،و�أدلي بدلوي في هذا الخ�ضم الوا�سع ،و�أن �أختار مو�ضوع ًا من ن�ص التاريخ العربي ،فكان �أن وق��ع اختياري على واقعة عمورية التي �شنها الخليفة العبا�سي المعت�صم ،وفتح على �إثرها البلدة .وكان �أن نظمت الواقعة المظفرة في �سبعمئة بيت من ال�شعر ،ون�شرت ق�سم ًا من هذه الم�سرحية في مجلة ال�شام ..وظللت مثابراً على نظم الم�سرحية ال�شعرية بهمة ال تعرف الكلل ،وكنت �أطالع المزيد من الم�سرحيات الفرن�سية من خالل الن�ص الفرن�سي ،و�أحيان ًا �أط��ال��ع م�سرحيات �شك�سبير المترجمة بقلم الأ�ستاذ خليل مطران ،و�أعود حين ًا �إلى قراءة الم�سرحيات اليونانية ترجمة الدكتور طه ح�سين .وك��ان �أن نظمت في ع��ام (1934م) م�سرحية عبدالرحمن الداخل ،ون�شرت منها ف�صلين في مجلة العرفان ،وقد القت م�سرحيتي ه��ذه القبول والر�ضا من ال��ق��راء ،وتناقلتها بع�ض المجالت وال�صحف ،ومنها جريدة الأيام الدم�شقية ...ثم مازالت م�سرحياتي تترى كل عام حتى كان عام (1981م)� ،إذ ظهرت لي م�سرحية �أبي بكر ال�شبلي ،وهي ق�صة �إن�سانية
انحدر من �شجرة عريقة الجذور في الإبداع فوالده خليل مردم بك �شاعر ال�شام
قر�أ وهو �صغير �شعر المعلقات وديوان المتنبي والطائي والبحتري ..فكان ذلك له خير زاد
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
45
مبدعون لأمير من الجيو�ش في الع�صر العبا�سي ،قام بمحاربة الزنج ،والفتك في جموعهم ،الأمر ال��ذي دع��ا ه��ذا الأم��ي��ر� ،أب��ا بكر� ،إل��ى التفكير م��ع نف�سه ،م��اذا ح�صل م��ن ه��ذه المجازر؟ ولح�ساب من تزهق الأرواح البريئة ،فكان �أن زهدت نف�سه في الإمارة ،و�أخذ يرتاد م�ساكن المت�صوفة للراحة النف�سية ،ما دعاه �إلى اعتزال الإمارة ،وعتق جواريه و�إمائه وتفريق �أمواله بين المحتاجين .وهذا ما دعا لجنة ال�سالم في الكونجر�س النتخابي م�ست�شاراً لرئي�س لجنة ال�سالم في مجل�س الكونجر�س عام (1983م) في الكتاب الموجه �إل��ي ،مكبرين م�شاعري الإن�سانية .و�أن جامعة وار�سو كلفت الطالبة في كلية الآداب (�إيفا لورن�س) لإع��داد درا�سة عن م�سرحياتي ال�شعرية لنيل الدكتوراه .وقد قابلتني �أكثر من مرة لال�ستي�ضاح والتف�سير عما �أغلق عليها) .وقد و�صفه الدكتور ن�سيب ن�شاوي في كتابه (المدار�س الأدبية في البلدان العربية) ،ب�أنه رائ��د الم�سرحية ال�شعرية في البلدان العربية. وعد النقاد �شعر عدنان مردم بك نموذج ًا لل�شعر ال�صافي ،المتحرر م��ن �أ���س��ر التكلف والت�صنع ،فيه هذه العبارات المبا�شرة التي وفي للأر�ض ت�أتي عفو الخاطر ،وهو في �شعره ٌّ التي يعي�ش عليها ،و�صورة �صادقة للبيئة الدم�شقية التي خطر بين �أفيائها ..عر�ض فيه �صاحبه �صوراً للطبيعة والفن والإن�سان والكثير من الت�أمالت ،والبوح النف�سي المت�صل بالقلب والت�أثر بالحوادث التاريخية القديمة والمعا�صرة ..وله �أربعة دواوي��ن �شعرية هي: (نجوى ،و�صفحة ذك��رى ،وعبير من دم�شق،
ونفحات �شامية) .وفى �شعر عدنان مردم بك الكثير من الت�أمالت في �ش�ؤون الكون والإن�سان والحياة ،والعودة �إلى التاريخ العربي ال�شعري، �إل��ى الموروث ال�شعري ..ا�ستلهام ًا و�إ�سقاط ًا وا�ستنباط ِعبر. �أما في ميدان الم�سرح ال�شعري ،فقد �أجمع النقاد الذين در�سوا م�سرحياته على �أنه �أحد رواد ال�شعر الم�سرحي في الوطن العربي ،و�أنه تجاوز المرحلة التجريبية ،التي بد�أها ال�شاعر �أحمد �شوقي وغيره� ،إلى مرحلة الن�ضج .وقد و�صفه الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي ب�أنه (رائد الم�سرح ال�شعري الحديث). ومن �أعماله الم�سرحية ،م�سرحيات: (فتح عمورية) و(عبدالرحمن الداخل) و(م�صرع الح�سين) و(جميل بثينة) و(غ��ادة �أفاميا) و(العبا�سة) و(الملكة زنوبيا) و(الحالج) و(رابعة العدوية) و(م�صرع غرناطة) و(فل�سطين الثائرة) و(فاجعة مايرلينج) و(ديوجين الحكيم) و(دي��ر يا�سين) و(الأتلنيد) و(�أبوبكر ال�شبلى) و(يو�سف وزليخة) .و�سد بذلك ف��راغ� ًا في الأدب الم�سرحي ال�شعري الذي �أحجم عن ولوجه الكثيرون ،ولعله ال�شاعر الوحيد الذي ُعرف بممار�سة هذا الفن في �سوريا.
غالف «الأعمال الكاملة للم�سرحيات ال�شعرية» لـ خليل مردم بك
46
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
جانب من �أغلفة دواوينه
منح لقب بروفي�سور من اليون�سكو و�أدرج ا�سمه في مو�سوعة الأعالم البريطانية
له �أربعة دواوين �شعرية هي« :نجوى» و«�صفحة ذكرى» و«عبير من دم�شق» و«نفحات �شامية»
مقاالت متون
مع� ..شوقي بغدادي ال�شعراء �شوقي بغدادي ..هو �أح��د �أه� ّ�م ّ ال�سوريين الكبار �شعراً ،و�أح�سب �أ ّن��ه الآن �أكبرهم عمراً ،فقد ولد في ( 26يوليو /تموز ع��ام 1926م) ،وكانت والدت��ه في مدينة بانيا�س ال�ساحل ،حيث ك��ان وال��ده يعمل موظف ًا �أيام االنتداب الفرن�سي على �سوريا.. ّ وقد مال منذ يفاعته �إلى الريا�ضة ،ثم �إلى كتابة الق�صة الق�صيرة والمقالة والم�سرحية مدر�س ًا وال�شعر ،وحين ا�ستقر في دم�شق ّ ّ �شاب ًا� ،شارك في ت�أ�سي�س رابطة الك ّتاب ّ العرب في دم�شق عام (1954م) ،ثم �أ�صبح رئي�س ًا لها بعد ذلك. �ضمتها دواوينه، التي ق�صائده وقد كانت ّ تتميز والتي قاربت الع�شرين الآن �أو �أق ّل قلي ًالّ ، ال�سال�سة والعمق ،وبالعذوبة التي بالكثير من ّ ق ّل مثيلها عند �سواه ..وقد �أر�سل لي �أحد ع�شر كتاب ًا من كتبه هدي ًة قبل نحو ثالثة �أعوام.. مر ٍة حتى ف�أده�شني ما قر�أته منها �أكثر من ّ الآن ،برغم � ّأن بع�ضها كنت قد قر�أته قب ًال، �إ ّنما لي�س بالقدر الموازي من ال ّتركيز الراهن. يحق لي �أن �أن�ساه هو �أ ّنني كنت ومما ال ّ ّ الظهيرة� ،أو بعدها قد رافقته يوم ًا وق��ت ّ كلية الآداب بجامعة دم�شق ،حيث بقليلٍ � ،إلى ّ الكلية قد دعاه �إلى كان (ا ّتحاد الطلبة) في ّ لكن �أحدهم وقف معه.. للطلبة لقا ٍء مفتوح ّ ٍ ّ غ�ص بهم المكان واقترح على زمالئه الذين ّ يحب هو ما ب�سماع على ا ّت�ساعه� ،أن يكتفوا ّ �أن ي�سمعوه من �آخر ما كتبه من �شعر ..فوافقوا جميع ًا بال ا�ستثناء ..فابت�سمت له ظا ّن ًا �أ ّنهم ربما قد �أحرجوه بذلك االقتراح ،لك ّنه ابت�سم ّ لي بدوره ثم قال لهم� :سيكون لكم ما تريدون. وقد �سعد الطلبة جميع ًا بما �ألقاه على قلب) مدى ما يقارب ال�ساعة؛ حين ًا عن (ظهر ٍ كما يقال ،وحين ًا من �أوراقٍ كان يحملها في جيبه ..وقد طالبه بع�ضهم بالمزيد لك ّنه اعتذر لهم بلطفّ � .أما �أنا؛ فكنت مبهوراً بما ر�أيت وبما �سمعت. وح��ي��ن ���ص��رن��ا خ���ارج ح ��رم الجامعة أقدر � ّأن ه�ؤالء قال :ال تف ّكر كثيراً� ..أنا كنت � ّ
يعد من �أهم ال�شعراء ال�سوريين المعا�صرين و�أكثرهم تميزاً
الطلبة �سيكونون منهكين من يبا�س �أ�سلوب ّ فهي�أت نف�سي �سلف ًا لإلقاء ما المحا�ضراتّ ، �ألقيت بالطريقة التي �سمعتها و�أنع�شتهم. ثم تو ّقف وتابع مكم ًال :هل عرفت الآن ّ حيويين و�سعداء؟ لماذا كان ه�ؤالء الطالب ّ أحب �أن �أ�سمع التف�صيل في الإجابة قلتّ � : منك.. ٍ ق�صيدة، يوم �ستقر�أ الإجابة في قال :ذات ٍ وربما في ديوان. ّ ٍ جداً� ،أجدها في والآن ،وبعد �سنين طويلة ّ (دي��وان الفرح) من �صفحته ال�سابعة ،حيث المقدمة /لماذا الفرح؟) �إلى كتب له (ماي�شبه ّ ختام ق�صائده من الديوان ،وهو من القطع حي ٍز من نحو الو�سط .ولم �أر � ّأن في �إمكاني ،في ّ �ألف ٍ أقدم عر�ض ًا وافي ًا لما جاء في كلمة� ،أن � ّ عرية لما المقدمة التي هي �أنموذج عالي ّ ّ ال�ش ّ الديوان من عمقٍ في المبنى والمعنى يحويه ّ الم ّت�صل بوح�شة الإن�سان وبانت�صاره عليها يعدلها بتقريبها من االنتماء �إلى في ٍ حلم ّ الوجود في كينونة الكون الك ّلية التي هي بالحدود. نموذج واح ٍد �أو في و�أعتقد هنا � ّأن ما في ٍ �شعري) في ق�صيدتين (حلم نموذجين منه من ٍ ٍّ متخي ٍلة يكاد يفي بما يرمي �إليه عن �أنثى ّ ٍ مفرح �اد � �ح � ت ا من ه ل ك �وان � �دي � ال في ال�شاعر ّ ٍ ّ الكوني فال يفنى.. متخيلٍ بالمطلق ّ ّ في النموذج ال ّأول يقول ال�شاعر: (خذي بيدي� ،أغلقي الباب �إن �شئت.. �أرخي ال�ستائر ،ر ّدي عليك الحجاب وال تظهري، �سوف يكفي نداك ..ورائحة ال تخ ّيب ظنّي وبع�ض الكالم الخفيف ،وبع�ض النّعا�س، ال�سرير). ون�صف ّ وه��ذا المقطع من ه��ذه الق�صيدة ي�شير بو�ضوح �إل��ى حاجته ال�ستح�ضار الأنثى ٍ المتخيلة كي يكون فرحه ناجزاً. ّ ٍ ق�صيدة �أخرى تحمل عنوان (ال ّذكرى وفي ترمم الأطالل): ّ ال�سقف بدبكة جيرانٍ �سكنوا فوقي (ذكّرت ّ كف في كفّي فنه�ضت بال ٍّ �أدبك دبكتهم و�أر ّد على الق�صف الهابط من �أعلى بالطّ بل وبالزّ مر).. تخيله ي�ستح�ضر حبيب ًة كانت.. يروح مع ّ
�أحمد يو�سف داوود يتخيل ك�أ ّنما انت�شلها من العدم.. في�سعد بما ّ فتم الفرح.. ّ ب��ع��د ه��ذي��ن ال � ّن��م��وذج��ي��ن وم ��ا فيهما بت �أعتقد و�أمثالهما من �شع ٍر � ّأخ ٍاذ غير قليلّ ، الآن �أ ّنه من الم�ؤلم � ّأل يكون �شعر هذا ال�شاعر قدي بع�ض ًا المتميز قد لقي من االهتمام ال ّن ّ ّ مما ي�ستح ّقه ،كما لم يلق ،هو ال�شاعر ،من ّ �سوي ًة ممن هم �أدنى ّ ال ّتكريم ما لقيه بع�ض ّ منه بكثي ٍر في الإبداع ..فهو مث ًال لم ينل ح ّتى حد ما �أعلم ،ما ي�ستح ّقه �شعره من الآن ،على ّ نقدي ،كما لم يلق من ال ّتكريم مالقيه ٍ اهتمام ٍّ �سواه :ال في ال�شعر وال في بقية ما كتب.. أ�سباب ل�سنا هنا في مجال البحث وذل��ك ل ٍ ممن ُي��ع� ّ�دون، �رى � ن بينما وتفنيدها. فيها ّ ال�سوريين في مجاالت ر�سمي ًا ،من المبدعين ّ ّ الآداب والفنون ،يحظون بالتقدير وال ّتكريم اللذين قد ي�ستح ّقهما بع�ضهم وال ي�ستح ّقهما وربما لم ينل �شاعرنا �شوقي فعلي ًا �آخرونّ ... ما هو ح ّقه ،لأ ّن��ه ال يجامل وال يحابي وال يتردد في �أن يقول ما يراه يتز ّلف ..كما ال ّ ٍ جائزة وربما � ّأن �أعلى (ح ّق ًا) ولو على نف�سهّ ... نالها في مجال الآداب كانت جائزة اتحاد الك ّتاب العرب بدم�شق عام (1981م) لأف�ضل ٍ �شعرية.. مجموعة ّ معمم بالقوة، ثمة موقف ّ عام �إذاً� ،أو �أ ّنه ّ ّ تردد ه ن � أ أظن � ال الذي الكبير من هذا ال�شاعر ّ ّ ّ يوم ًا في �أمر قولٍ ر�أى � ّأن من واجبه قوله في ٍ ظاهرة �أو في �أح ٍد حاد عن االلتزام بما يرى ال�صحيح. ال�صواب �أو ّ �أ ّنه هو ّ ول��ك� ّ�ن الأ���س��ت��اذ ال�شاعر الكبير �شوقي بغدادي ،لي�س مع�صوم ًا ب��دوره عن الخط�أ، ٍ ب�سرعة �إلى لكن �إحدى ف�ضائله هي �أ ّنه يبادر ّ ت�صحيح خطئه ،في حين � ّأن �أغلبية النا�س ال يفعلون .وهذه م�أثرة من م�آثره ال ي�صح �أبداً ّ �أن تن�سى..
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
47
تحتمي بعطر الحبر والكتابة
فتحية النمر :الكتابة لحظة �سالم نف�سي بالطبع الق�صة الق�صيرة �أ�صعب منالرواية في �أمرين ،الأول هو التزامك التكثيف والتقطير بالدرجة الأول��ى ،ففيها ال مجال للإ�سهاب ،بل عليك �أن تقول كل ما تريده في �أقل قدر من الكلمات ..هذا ال يعني �أن الرواية مجال لقول كل �شيء دونما �ضوابط وحدود، ب��ل حتى ف��ي ال��رواي��ة التكثيف مطلوب، لكن فيها الم�ساحة الزمانية والف�ضاءات المكانية وعدد ال�شخ�صيات وتطور الأحداث قد يروي ظم�أ الكاتب للقول والبوح الكبير ول�شهوة الكالم.
الكتابة والإب���داع لحظات مغامرة �شاقة ..عذبة في الآن ..فرح وط��رب روح وخال�ص وم�س�ؤولية في الآن.. وكل حالة �إبداعية تجربة مريرة مع �شخو�ص و�أبطال، ال و�سيلة للتخل�ص من م�ضايقاتهم و�إزعاجاتهم الدائمة �إ ّال بالكتابة ..والكتابة عند الأدي��ب��ة فتحية النمر لحظة تحرر وتطهير ..وعالج ونزهة وفكر وحلم معاً! ٍ بيقظة � ٍ آ�سرة المتلو غذا�ؤها القراءة ،الحلم ّ �أو ًال ..وتحتمي بعطر الحبر لحظة الإيحاء والكتابة ثاني ًا ..وكمبدعة ال �شيء تخافه على الإطالق!
عذاب الركابي
الأول����ى ،ال��ت��ي �صعدت عليها نحو عوالم الأدب والإب��داع ،ثم ت�أتي الق�صة الق�صيرة، التي �أحببتها كثيراً وق��ررت تجربتها ،لكن ق�ص�صي الق�صيرة لي�ست من النوع الق�صير، بل هي غالب ًا ما تكون �أقرب للرواية الق�صيرة (النوفيال).
الق�صة الق�صيرة (كال�سهم في الهدف)، ¯ من ّ �إلى الرواية (�أ�شبه بو�ضع قوالب الطوب في البناية) ،ح�سب تعريف ماركيز لهذين الفنين، الق�صة ن � أ والمبدعين، اب ت الك بع�ض يرى ¯ ّ ّ ّ َمن الأقرب �إليك؟ �أعني َمن يجيب �أكثر عن الق�صيرة هي الأ�صعب ،لماذا؟ هل لأنها ق�صة �أ�سئلتك؟ اللقطة الزمنية ال�سريعة ،واللغة المقت�صدة؟ -ال��رواي��ة ه��ي الأق���رب وه��ي ال�س ّلمة �أم ماذا؟
48
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
¯ �أكثر من ع�شر رواي��ات ،و�أربع مجموعات ق�ص�صية ،والواقع االجتماعي بطلك الأمثل! ّ كيف هي العالقة مع �شخ�صياتك الورقية؟ هل هم بورتريهات متقنة ل�شخ�صيات في الواقع� ،سبق و�أن التقيت بهم وتعرفينهم؟ �أم �أ ّن للخيال دوراً في تج�سيد �شخ�صياتك؟ في الروايات الثالث الأولى (ال�سقوط�إل ��ى �أع��ل��ى) و(للقمر ج��ان��ب �آخ ��ر) و(ط��ائ��ر الجمال) ،كانت ال�شخ�صيات الرئي�سة هي بورتريهات �شخ�صية لب�شر �أعرفهم وعا�شرتهم يق�ضون م�ضجعي ،كانوا وكرهتهم ،كانوا ّ يلتهمون �سالمي النف�سي ،وك��ان��وا دائمي ال�ضجيج في �أعماقي ،لدرجة �أنني فكرت �أن أحررهم من داخلي حتى يرتاحوا �أبد�أ بهم و� ّ و�أرتاح �أنا ،وبالفعل عندما ر�سمتهم و�سكبتهم على الورق ارتحت منهم ب�شكل غريب ،حتى الكراهية التي كنت �أحملها لهم في داخلي تال�شت ،و�صاروا �شخ�صيات عادية عندي، بل �إنهم كانوا في بع�ض الأحيان ي�ستدرون تعاطفي معهم. �أما ال�شخ�صيات الأخرى؛ ف�إن كان فيهم �شيء م ّني وم��ن �آخرين �أعرفهم ،لكن �أغلب جوانبهم هي من ابتكار خيالي �أنا ،مث ًال في (ك��والج) هناك �شخ�صيات كثيرة ال �أعرفها، هي مح�ض اختالق .وفي (النافذة والحجاب) ال�شخ�صيتان الرئي�ستان (م��زن��ة) و(غ��ان��م) �أعرفهما ،لكن الإ�ضافات التي جاءا بها هي من ابتكاري �أنا ،كذلك في (�سيف) ال�شخ�صية الرئي�سة �أعرف �شيئ ًا عنها ،والباقي كله اختالق.
مداد ¯ ح�صلت على جوائز �إبداعية عديدة ،وهو الكاتب خائن ًا لأنا�سه ،من ناحية �أن��ه يف�شي ا�ستحقاق بال �شك ..كيف ترين الجائزة؟ �أهي �أ�سرارهم ،لكن بالطبع لن يكون الإف�شاء حرفي ًا، م�س�ؤولية مرعبة وخوف من الآتي؟ �أم �أنها الحافز ولكن نحن ن�ستغل الأ�سرار ونغلفها ونقدمها على المزيد من الإبداع الجاد والمثير والهادف؟ ك�أنها �أ�سرارنا. الجائزة هي االثنان مع ًا ،هي حافز ودافعمم ومن�شط للمزيد من الإب��داع ،وال�شك �أنها ت�سعد ¯ الخوف لحظة تطهير ،و�أنت �أعلم بذلكّ .. المبدع وت�شعره ب�أن جهده مقدر ومقروء ،وهي تخاف الكاتبة فتحية النمر؟ من الكتابة؟ من مخيفة وتحمل المبدع م�س�ؤولية� ،أن يقدم �أعما ًال الموت؟ ما الذي يخيفك في الحياة ومن قوانين ّ في م�ستواها �أو �أح�سن منها ،و�أال ينحدر بجديده الوجود كمبدعة و�أ�ستاذة فل�سفة؟ والقادم من �أعماله نحو الأقل قيمة. �أنا بطبيعتي وبحكم تكويني ال�شخ�صيأعرف نف�سي � ما ا وكثير و�صادمة، قوية أة � امر ً ّ ¯ بماذا ت�شعرين لحظة الإيحاء والكتابة؟ �أي بالعنقاء ،فكثيراً ما خرجت من رم��ادي مثل ٍ �أعمالك ال�سردية خلق حالة من الطرب الروحي العنقاءٍ ، علي وح�سبتني فيها مرات ومرات ّ مرت ّ انتهيت ،لكن بعد زمن �أتعذب فيه �أخ��رج من لديك؟ ت��ق��ول �آن �إن ��راي ��ت( :ه��ن��اك ج��ان��ب من جديد واحدة �أقوى ،ولكنني �أي�ض ًا �أكثر ه�شا�شةالمرح �أ�شعر به عندما �أق��ول تلك الكلمات) ،من ال�ضعف �أحيان ًا .و�أكثر �شيء يخيفني هو وعندي كتاب تحت الطبع بعنوان (حكايات المر�ض ،لكن لي�س �أي مر�ض� ،إنما هو �سيئ حي النباعة) ،وهو ا�سم الحي الذي ن�ش�أت فيه الأ�سقام ذلك المر�ض ،الذي لم يتم �إلى اليوم و�أن��ا �صغيرة بين ال�سابعة والرابعة ع�شرة� ،إيجاد عالج �شاف له ،برغم �أنه ح�صد الكثير غيرنا �أكثر من حي ،الكثير من الأرواح ،ومنها روح �أغلى الب�شر وبرغم �أننا في ال�شارقة ّ روحي �أبي و�أمي. لكن لهذا الحي �أهمية و�سحر ال ي�ضاهى ،لقد عنديَ ، مم�ض و�شوقٍ �شعرت في الآونة الأخيرة بحنينٍ ٍّ عارم لتفا�صيل ذلك المكان ،لتفا�صيل الرفاق ٍ الأول ،وكنت في ليالٍ كثيرة �أتخبط في �أحالمي في ذلك الف�ضاء وحزن عميق ينفجر في قلبي لفراقه برغم �أنني فارقته منذ زمن بعيد ،وحتى الحب والهوى ه��ذا �أزي��ل عن بكرة �أبيه، بيت ّ فلماذا كل هذا ال�شوق؟ هنا �أح�س�ست ب ��أن ك��ل الما�ضي الجميل معر�ض لل�ضياع ،ففكرت حينها ال بد و�أن �أخلد البيت القديم ،و�أن �أ�ستعيد معالم البيت ،وكل ما ك��ان له عالقة به من ب�شر و�شجر وحجر، وه��ذا ما ك��ان ..الكتابة عالج ودواء والتقاط وعي وتوعية الكتابة �سحر و�شغف يتمكن منك هم. ك�أجمل ّ �آن �إنرايت ي�سميه �أرن�ست همنجواي (الم�س�ؤولية ¯ َ هناك ما ّ ي�سميه �صموئيل بيكيت وما للكتابة).. المرعبة ّ (الهو�س ال�سيكلوجي للكتابة) ما تعليقك على ومن منهما الأقرب �إلى ر�ؤاك ككاتبة العبارتين؟ َ لها ح�ضورها في الف�ضاء الثقافي والإبداعي العربي؟ ال��ك��ت��اب��ة م�����س��ؤول��ي��ة وال��ك��ت��اب��ة هو�سوالكتابة �شغف والكتابة دواء ،وعلى فكرة فكل من تجل�س معه ويخطر في بالك ،ي�صبح م�شروع كتابة عندك ،حتى �إنني �أوافق على من يعتبر
�أعتبر الكتابة م�س�ؤولية و�شغف ًا مع ًا وال �شيء يخيفني لأنني امر�أة قوية
بع�ض �أبطال رواياتي �أ�شخا�ص عرفتهم وبع�ضهم من وحي خيالي
�أرن�ست همنجواي
من �أعمالها الق�ص�صية و الروائية العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
49
مقاالت
تتـ�شـابــك ال�سـيـرة الـذاتـيـة
نبيل �سليمان
للكتابة ال�سيرية �أل���وان و�أف��ن��ان ،منها المذكرات والرحالت ،وفي �صدارتها ال�سيرة الذاتية ،التي قد ت�شتبك ب��ال��رواي��ة ،فيجري الحديث عن ال�سيرة الروائية وع��ن الرواية ال�سيرية .وقد ت�شتبك ال�سيرة الذاتية بالفكرية، فيجري الحديث عن ال�سيرة الذاتية الفكرية، �ض اال�شتباك ،جرى الحديث عن حتى �إذا ُف َّ ال�سيرة الفكرية .و�إذا م��ا ا�شتبكت الفكرية بالرواية ،ي�أتي الحديث عن الرواية الفل�سفية مث ًال .ومن ال�شهير ما قد تت�أذى به الرواية، التي يكتبها المفكر من ج��راء �ضغط الفكري على الفني ،وفي بع�ض روايات عبداهلل العروي، وعبدالإله بلقزيز مثال على ذلك. ف��ي ه��ذا ال�سياق التمهيدي �أ���ش��ي��ر �إل��ى (�سيرة الكتابة) ،ومن �أمثلتها النادرة البديعة كتاب �إبراهيم عبدالمجيد (ما وراء الكتابة.. تجربتي مع الإبداع) ،وفيه ر�سم الكاتب المناخ واالجتماعي والروحي ،الذي اكتنف كتابته الروائية .ولي�س الأمر وقف ًا على الرواية ،بل قد يكون �أي�ض ًا للنقد ،كما في كتاب �صالح ف�ضل (عين النقد وع�شق التميز2019 -م) ،الذي تحدث عما �ش ّكل ذائقة �صاحبه النقدية ،وعن والدة �أفكار كتبه النقدية. ينبه و���ص��ف ال�سيرة بالفكرية �إل ��ى �أن �صاحبها �سوف يجعل وكده على ما له عالقة بعمله الفكري ،ولي�س على حياته الخا�صة، كما �أ�شار بول ريكور .ولن تغيب �إذاً الذاتية عن
50
- ٢٠٢١ - ٢٠٢٢ أغ�سط�س فبراير والخم�سون � - الثامن وال�ستون - العدد الرابع
والفكرية للكاتب العربي
ال�سيرة الفكرية تمام ًا �إال ن��ادراً .وقد ازدانت المدونة ال�سيرية العربية بالكثير الذي كتبه المفكرون. فمن الأعمال الرائدة �أذكر (تربية �سالمة مو�سى) ،التي �أ�صدرها عام (1947م) �سالمة مو�سى (1958 -1887م) ،وكذلك (�سبعون) لميخائيل نعيمة (1988 -1889م) .و�أقرب �إل��ى زمننا تبرز �سيرة زك��ي نجيب محمود (1993 -1902م) التي ج��اءت ف��ي ثالثة �أج ��زاء ،يتعلق �أول��ه��ا (ق�صة نف�س) بالذاتي، وثانيها (ق�صة عقل) بالفكري ،وفيه تحدث الكاتب عن تكوينه الفكري في �أوروبا وتبنيه فل�سفة الو�ضعية المنطقية ،وتجربته في مجلة (الفكر المعا�صر) ،وانتقاله من (القبلة) الثقافية الغربية �إلى التفاعل مع التراث العربي الإ�سالمي .ولم يفته غياب (الفكرية) عن الجزء الأول من �سيرته ،لذلك كتب الجزء الثاني ،وهو من و�صفه عبا�س محمود العقاد بفيل�سوف الأدباء و�أديب الفال�سفة. وتت�ألق بخا�صة �سيرة عبدالوهاب الم�سيري (2008 -1938م) وع��ن��وان��ه��ا( :رحلتي الفكرية -في البذور والجذور والثمار) وتتمة العنوان هي�( :سيرة غير ذاتية وغير مو�ضوعية)، بين ،فيها من ال�سيرة فقد �أرادها �صاحبها َ بين ْ الذاتية في الجزء الأول (التكوين) ،ومن ال�سيرة الفكرية في الجزء الثاني (عالم الفكر) .و�إذا ك��ان الم�سيري يتحدث �أي�ض ًا ع��ن تحوالته
تبرز �سيرة زكي نجيب محمود حيث تحدث عن تكوينه الفكري في �أوروبا وتجربته في مجلة (الفكر المعا�صر)
�شظايا
الفكرية وعن كتاباته الأول��ى ،فهو يورد في �سيرته اقتبا�سات مما كتب ،كما يتحدث عن ن�سيج مميز و�ضخم من الحياة الأدب والفن في ٍ ال�شخ�صية والحياة الفكرية .ومن م�صر هي ذي �أي�ض ًا �سيرة جالل �أمين (2018 -1935م) التي �سردت في (ماذا علمتني الحياة) تحوالته الفكرية �إلى التفاعل الإيجابي مع الدين بعامة، ومع الإ�سالم بخا�صة. من ال�سير الفكرية العربية الحديثة ما كتب حازم �صاغية تحت عنوان (هذه لي�ست �سيرة) ،وهي التي كتب �أمجد نا�صر �أنها لي�ست �سيرة حياة ،بل �سيرة �أفكار .ومن الطريف �أن �صاغية تحدث عن جدته مثلما فعل �إدوارد �سعيد ،فت�ساءل �أمجد نا�صر( �شو ق�صتكم مع جداتكم؟) .وكان �سمير �أمين �صاحب م�صطلح �سباق ًا المركزية الأوروبية (2018 -1931م) ّ �إل��ى هذا اللون من ال�سيرة ،فقدم هذا القادم من االقت�صاد ،كما �سيلي مع ج�لال �أمين، فق�ص كتابه (�سيرة ذاتية فكرية1993 -م)، ّ ق�صة تطور �أطروحاته .وكما راجع �أفكاره في هذه ال�سيرة� ،سيراجع �إدوارد �سعيد (-1935 2003م) �أفكاره في كتابه ال�سيري (خارج المكان1999 -م)� .أم��ا ال��رائ��د لهذا اللون ال�سيري فهو �إليا�س مرق�ص (1991 -1927م) في كتابه ال�ضخم (ال�سيرة الفكرية) .لكن ن�شر هذا الكتاب ت�أخر حتى �سنة (2012م) ،وهو ح�صيلة � 64شريط ًا �سجلها �أ�صدقا�ؤه �أثناء �إ�صابته ب�سرطان الكبد ،بذاكرة عجيبة وذهن و ّقاد .وقد غلب الفكري على الذاتي ،وتجلى ذلك بخا�صة في ال�سجالية والنقدية اللتين و�سمتا �إنتاج مرق�ص الفكري كله. �أم����ا م��ا ه��و الأح������دث ،ورب��م��ا الأم��ت��ع والأ�صدق والأعمق ،فلعله كتاب (وتحملني حيرتي وظنوني� :سيرة التكوين2021 -م) ل�شيخ ال�سيميائيين العرب �سعيد بنكراد ،الذي �أث��رى المكتبة العربية بت�سعة ع�شر م�ؤلف ًا، وترجم خم�سة ع�شر كتاب ًا ،تركز �أغلبها في ال�سيميائيات .و�إذا كان الأكاديمي والناقد والمفكر اال�ستثنائي قد �أف�سح للذاتي ق��دراً من �سيرته ،فقد ت��رك للفكري ح�صة كبرى،
وبخا�صة في �سنوات التكون الباري�سية وفي ال�سنوات المهنية الأكاديمية .ومن الكثير من (فكريته) ،مما يتكثف في محارق /ب�ؤر حياتنا المعا�صرة ،ما يتعلق بالمثقفين �أ�سرى وهم ال�شهرة ،الذين لم يعودوا مالكين للغة الأمة ،فلم تعد الثقافة على �أيديهم رديف ًا لالنعتاق .كذلك هو الراهن المتعنون بالرقمنة ،حيث انفجرت النرج�سية ،وت�ضخمت الأنا ،و�سقطت م�شاريع الفكر والفل�سفة ،كما علمتنا الرقمية الجديدة كيف نبيع �أنف�سنا( :لقد �ضاعت الإن�سانية فينا. فقدنا الذاكرة ،فكل �شيء مخ ّزن في الخادوم). ومن هذه (الكابو�سية) �أننا فقدنا الأحالم ،ولم تعد اللغة �سبيلنا المف�ضل �إلى الآخر ،بل حلت ال�صورة محل اللغة ،و�صارت �أهم من الج�سد، ولم تعد الحداثة ر�ؤية كونية ،كما �أنها جاءتنا من فوق ،ولم ن�ستطع ا�ستنباتها في تفا�صيل الحياة اليومية .وباللغة ال�سيرية ،يكتب �سعيد بنكراد �أن��ه لم ي�ستطع التكيف مع الموجة الجديدة من �أ�شكال الت�أ�صيل ،وال يمكن له �أن يرتاح في �شبكة مظلمة يبحث فيها عن �شبيهه( ،لذلك ال �أ�صدقاء لي خ��ارج الحياة الواقعية) ،و(الواقعي ناق�ص وتلك طبيعته، والإن�سان ناق�ص وتلك عظمته ،والنق�صان في ويعد بنكراد الحالتين ال يعو�ض باالفترا�ض). ّ عمله في الترجمة محاولة ال�ستنبات معرفة حديثة �ضمن ممكنات اللغة العربية وطريقتها في بناء الفكر و�إ�شاعته ،وه��و ،كما يكتب، من انخرط بحما�سة في معركة الدفاع عن اللغة العربية في المغرب ،في مواجهة دعاة اللهجات (التلهيج). أن��داد من المفكرين � تقدموا بالطبع ،لمن ٌ العرب الذين �أبدعوا في �سيرهم الفكرية ،مثل ه�شام �شرابي ،وعلي ح��رب ،و�سالم حمي�ش، المدونة وح�سن حنفي و ..ويظهر ف��ي ه��ذه ّ المتنامية �أهمية المراجعة ،ومواجهة الذات ووعيها فردي ًا ومجتمعي ًا ،كما تظهر التحوالت الفكرية والثقافية ،وهذا كله قد يندغم في ال�سيرة الذاتية ،لكنه يظل متمايزاً عنها وعن الذكريات والمذكرات ،كما ير�سم العالقة المعقدة والوثيقة بين المفكر والفكر والمجتمع والتاريخ.
تحدث عبدالوهاب الم�سيري عن تحوالته الفكرية و�أورد في �سيرته الذاتية اقتبا�سات مما كتب
جالل �أمين �سرد في (ماذا علمتني الحياة) تفاعله وتحوالته الفكرية
كتب حازم �صاغية �سيرة �أفكاره وتحدث عن جدته مثلما فعل �إدوارد �سعيد
- ٢٠٢٢ فبراير ٢٠٢١ أغ�سط�س وال�ستون� - والخم�سون - الرابع الثامن العددالعدد
51
ال�شخ�صيات التاريخية في الرواية
ما بين التخـ ُّيـل والـواقـع �إن ظاهرة ا�ستخدام الرواية التاريخية في الأدب والرواية خ�صو�صاً ،لي�ست جديدة ،بل هي حالة �أدبية ،ين ّوع فيها الكاتب طرق بنائه للرواية ،ويغير اتجاه الأح��داث نحو الخلف ،بغر�ض �إعطاء وجهة نظر مختلفة ،عن ال�شخ�صيات �أو �إ�سقاط �أحداث الرواية على الواقع المعا�صر� ،أو ت�سليط ال�ضوء �أك��ث��ر على الأح���داث التاريخية ب�شكل �أو���ض��ح. وهنا يندرج هذا المو�ضوع ،تحت عنوان الرواية التاريخية ب�شكل عام ،ولكن يجب، �أن نميز هنا بين ا�ستخدام التاريخ كخلفية وبيئة للأحداث فقط ،ومن ثم يقوم الكاتب بتخييل ال�شخ�صيات والأح��داث �ضمن هذه البيئة التاريخية ،كما فعل (فلوبير) في (�سالمبو) ،و�ألك�سندر دوما في معظم رواياته من (الفر�سان الثالثة) ،و(الملكة مارغو)، �إل��ى (ق�لادة الملكة) ،و(خم�سة و�أربعون)، وحتى فيكتور هوغو في (�أحدب نوتردام)، وف��ي رواي��ة (البيت الأندل�سي) لوا�سيني 52
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
د .محمد �صبيح
الأع���رج ،وبين ال��رواي��ة التي تقوم ب�سرد الأح ��داث التاريخية وحياة ال�شخ�صيات التاريخية الحقيقية ،ب�أ�سلوب ت�شويقي ي�شد القارئ ،ولكن قد يت�ضمن ذلك تغييرات في ال�شخ�صية� ،سواء على م�ستوى الت�صرف� ،أو على م�ستوى ما قالته ،فيقوم الكاتب بذلك بت�شويه الحقائق التاريخية. �إن �أ���س��ل��وب ا���س��ت��خ��دام ال�شخ�صيات التاريخية للمقارنة مع الواقع المعا�صر، ال يمكن �أن يكون �صائب ًا من ناحية اثبات ج��دي��ة ال��ق��دي��م و���س��وء الت�صرف بالواقع
الجديد ،ب�سبب �أن البيئة التاريخية التي عا�شت فيه ال�شخ�صية التاريخية ،تختلف عن الواقع المعا�صر ،بتكوين منظوماته ال�سيا�سية واالقت�صادية والمجتمعية وما يتبع ذل��ك م��ن منظومة �أخ�لاق��ي��ة ،فهذا الواقع هو نتيجة تطبيق �سيا�سات ل�سلطة ما ،لم ت�ستطع تحقيق متطلبات التطور �أو االزده��ار المن�شود ،فالبنية االقت�صادية المتردية ينتج عنها مجتمع يلهث للعي�ش، وفي ظل هكذا ظروف� ،ستوجد مجموعات تنحو باتجاه ا�ستخدام �أ�ساليب ملتوية وغير قانونية بهدف الإثراء غير الم�شروع ،وهذا الو�ضع االقت�صادي المتردي ينتج عن واقع �سيا�سي فا�سد ،تكون له م�صلحة مع الأفراد المتنفذين ،لذلك ف�إن �إقحام �أي �شخ�صية تاريخية في عالقة تفاعلية مع الواقع الحالي ،ال يمكن �أن يعطي الدقة المطلوبة ال تاريخي ًا ،وال مجتمعي ًا ،وبالتالي �سيكون الأمر �أدبي ًا غير ناجح ،فبد ًال من �أن يخلق الكاتب �شخ�صية معا�صرة ليبين من خاللها
مداخلة �آراءه ،يهرب نحو التاريخ ب�شكل غير مبرر �أحيان ًا ،وثاني ًا قد تكون رغبة الكاتب �إبراز الجانب الإيجابي في هذه ال�شخ�صيات وت�سليط ال�ضوء عليها ،وه��ذه �أي�ض ًا لها محاذيرها، فظروف ال�شخ�صيات التاريخية مختلف كلي ًا عن الواقع الحالي ،بكل حموالته (المجتمعية فلوبير والتر �سكوت وال�سيا�سية واالقت�صادية وحتى الدينية) ،لأن الواقع القديم غالب ًا ما قد يخ�ضع ل�سلطة �أمر واقع ،وهذه ال�سلطة �إما ان تكون بجزء منها فاع ًال على تطوير المجتمع �أو غير فاعل ،وهنا ال �أحد قادر على �أن يفعل معها �شيئ ًا ،وهنا خلقت �شخ�صيات تاريخية كانت م�ساهمة في لوكا�ش محمد ح�سن علوان هذه ال�سلطة� ،أو كانت ب�شكل ما جزءاً منها. لذلك فقد ذهب جورج لوكات�ش في كتابه لها ،ولكن في حالة ال�شخ�صية التاريخية، (الرواية التاريخية)؛ �إلى اعتبار التاريخ بنية ف�إن الم�س�ألة تتحول �إلى نقل �صفات و�أفكار يكيفه ،ويجعله ال�شخ�صية التاريخية ،وهنا ينتفي التخيل تحتية لهذا الجن�س ،فهو الذي ّ في عالقة م�ضاعفة مع الواقع التاريخي� ،إذا تمام ًا كفعل �أدبي �أ�سا�سي للرواية وي�صبح مدون بمو�ضوعية ،فهو دور الكاتب ت�أريخي ًا ووثائقي ًا فقط. افتر�ضنا ب�أن التاريخ ّ من ناحية ينقل جزءاً منه ،ومن ناحية �أخرى •�إذا ح ��اول ال��ك��ات��ب تغيير م��ج��رى �أح ��داث يبتكر �شخ�صياته ويربطها بالواقع المعا�صر ال�شخ�صية� ،أو نقل عنها �أفكاراً لم يقلها ،فهذا بق�صد �إ�سقاط الكثير من العبر ،وهنا ي�ستطيع �سيعتبر تحويراً وتناق�ض ًا ،قد يكون لأ�سباب الكاتب ابتكار الأح��داث وال�شخ�صيات �ضمن �أيديولوجية مث ًال ،وه��ذا �سيناق�ض الواقع هذه البيئة التاريخية المفتر�ضة. التاريخي ،و�سيقزم العمل الروائي. فالرواية التاريخية والتي �أ�س�سها والتر •ق��د يكون ال��ه��دف تب�سيط التاريخ وجعله �سكوت برواية (ويفرلي) عام ( 1814م) والتي مفهوم ًا �أكثر من قبل القراء ،كما حاولت ت�ستند �إلى التاريخ كبيئة حا�ضنة للأحداث� ،أن تفعله �إليف �شافاق في (قواعد الع�شق تم ّكن الكاتب من �أن يخلق �شخ�صياته تخيلي ًا ،الأرب��ع��ون) ،حيث وقعت الكاتبة �أي�ض ًا في و�أن يبتكر �أفكاره �ضمن هذا الإطار� ،أما مع�ضلة مطب النقل الوثائقي وفي مطب التخييل الذي ا�ستخدام �شخ�صيات تاريخية محددة وم�شهورة �سيكون مقت�صراً على بع�ض التفا�صيل التي في الرواية ،ف�ستخلق �إ�شكاليات عدة من �أهمها :ال تغني الرواية ،برغم بع�ض المحاوالت في •�أن كاتب ال��رواي��ة التاريخية يقوم بتخيل تخييل بع�ض الأحداث ،ف�إنها بقيت محاوالت الأح���داث وال�شخ�صيات ،وابتكار الأفكار م��ح��دودة� ،أم��ام الكم الكبير من المقوالت وال��ح��وارات التي �سوف يقومون بالإيحاء والأح����داث التاريخية ،التي ا�ستخدمتها
فيكتور هوجو
ح�سن �أوريد
�ألك�سندر توما�س
وا�سيني الأعرج
�أ�شهر من وظف الرواية التاريخية عالمي ًا فلوبير و�ألك�سندر توما�س وفيكتور هوجو
قاموا با�ستخدام التاريخ كخلفية وبيئة حا�ضنة وتخيلوا ال�شخ�صيات والأحداث
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
53
واتكلت عليها لتحقيق جماهيرية ،وبالتالي ن��رى �أن مخاطر هكذا مغامرة ،ق��د تكون االتكال على هذه ال�شخ�صيات التاريخية، ل�صنع جماهيرية مفتعلة على ح�ساب العمل الأدبي. وهنا ي�شترط (وال��ت��ر �سكوت) �أال تكون ال�شخ�صية التاريخية هي ال�شخ�صية المحورية، ب��ل ي�سند ذل��ك ال ��دور �إل��ى �شخ�صية متخيلة محايدة ،ت�سمح بو�ضع الم�صير الفردي والم�صير الجماعي في و�ضع مواجهة ،وي�ستح�سن �أال يكون البطل طرف ًا في نزاعات ال�شخ�صيات التاريخية ،بل يمكن �أن يكون فرداً عادي ًا من العامة ،وقد يكون ذلك ح ًال توافقي ًا لعدم �إقحام هذه ال�شخ�صيات ،في الجمود الروائي ،ولكنه يبقى عام ًال مقيداً للروائي في عملية تخيله الإبداعي ،وفي ابتكار �أفكار جديدة. فرواية (رباط المتنبي) لح�سن �أوريد ،والتي و�صلت �إل��ى القائمة الق�صيرة للبوكر ،تعتبر نموذج ًا للرواية التي �سيطرت فيها ال�شخ�صية التاريخية على ال��ح��دث م��ن خ�لال ربطها بالواقع المعا�صر ،وبالتالي لم تقدم تخي ًال �إبداعي ًا لل�شخ�صية� ،سوى بمحاولة محاورتها، و�إ�سقاط بع�ض مقوالتها على الواقع الذي بينا �أنه ال ي�صلح للمقارنة مع البيئة التاريخية، لذلك نعتبر الرواية �سقطت في مطب ال�شخ�صية
54
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
التاريخية الكبيرة ل�شاعر كبير مثل المتنبي، برغم �أن الكاتب� ،أراد �أن ي�أخذ من مقوالته ليقارنها مع الواقع المتردي حالي ًا ،ليبين كيف و�صلت حال المجتمعات ،كان الأجدى �أن يعر�ض ذلك من �شخ�صيات معا�صرة تعاني، بدل ا�ستخدام مقوالت و�شخ�صيات معروفة، تبعد الت�شويق والتخيل ،ربما يكون الكاتب نجح جماهيري ًا في ت�سليط ال�ضوء على المتنبي �شاغل النا�س ،ولكنه لم ينجح كعمل �أدب��ي روائ��ي تخيلي في تقديم �أي��ة فكرة مبتكرة، نظراً �إلى �صعوبة تحركه �ضمن هذه ال�شخ�صية المعروفة �سلف ًا ب�شعرها و�أفكارها �أو ًال ،ولعدم �صوابية المقارنة بكليتها ثاني ًا .فلقد ا�ستخدم الكاتب ال�شاعر ليعبر عن طبيعة الواقع العربي الحالي ،ولكن هذه الفكرة كان من الأف�ضل التعبير عنها ،من خالل �شخ�صيات معا�صرة وح��ي��ة ،ولي�س با�ستخدام �أ���س��ل��وب مقاربة ل�ل�أح��داث التاريخية مع المعا�صرة بطريقة ت�شبه التحقيقات ال�صحافية. �أما رواية محمد ح�سن علوان (موت �صغير) وال��ف��ائ��زة بجائزة البوكر العربية ،فقدمت �شخ�صية (اب��ن ع��رب��ي) وت��اري��خ حياته منذ والدت��ه حتى وفاته ،وهنا نجد �أنف�سنا �أمام منجز روائ��ي يحتمل �إ�شكاليتين ،الأول��ى هي التقيد بالأحداث التاريخية المعروفة للكاتب،
الكثير من الروائيين يقعون في مطب تغيير مجرى الأحداث و�أبعاد ال�شخ�صية التاريخية الحقيقية
مداخلة �سي�ضيق عملية التخيل وه ��ذا ّ الروائي للكاتب ،والثانية �إ�ضفاء الكثير من الأحداث المتخيلة عن �سيرة (ابن عربي) الذاتية ،وهذه �أي�ض ًا �ستخلق م�شاكل التوافق مع الوقائع� ،أو �إ�ضافة �أح��داث بق�صد �إب��راز جوانب ما لأ�سباب �أيديولوجية �أو فكرية ،علم ًا �أن الكاتب لم يتطرق كثيراً �إلى �أفكار (ابن عربي) ال�صوفية .وبذل جهداً بحثي ًا كبيرة ل�سبر الأحداث .وفي الحالتين لدينا �إ�شكالية موجودة، وهي التقليل من المتخيل الروائي لل�شخ�صية .وهذا ما نق�صده ،ب�إ�شكالية ا�ستخدام ال�شخ�صيات التاريخية في الرواية. وفي نف�س ال�سياق ت�أتي رواي��ة وا�سيني الأعرج (كتاب الأمير) ،فهي ت�سلط ال�ضوء على �سيرة حياة (الأمير عبدالقادر الجزائري) ،وهنا ندخل في نف�س المطب ،فرغم الجهد الكبير المقدم لجمع الأحداث والوقائع ،و�إن كنا نعتبر ذلك من عمل الم�ؤرخين ،ف�إن الرواية لم تخرج عن نطاق �سيرة ومقوالت الأمير ،رغم جمالية ال�سرد والت�شكيل الروائي ،وهذا ما ي�شكل توقف ًا للمتخيل ال�سردي الروائي ،على ح�ساب الوقائع التاريخية المعروفة ،و�إن كان الكاتب قد قدم في بع�ضها وجهات نظر �صحح من خاللها الكثير من المواقف حول الأمير ،ح�سب ر�أي الكاتب. يمكننا القول �إننا في رواي��ة ال�شخ�صية التاريخية ،نحن �أم��ام مع�ضلة كبيرة ،تتمثل في ت�ضييق هام�ش التخييل الإبداعي الروائي، مقابل التو�سع في مجال التوثيق والوقائع التاريخية ،فال�شخ�صية التاريخية ،تكون جاهزة ومعروفة لدى القراء والمثقفين على حد �سواء ،وه�ؤالء �سي�شكلون عنا�صر رقابية على ما يكتبه الروائي وي�ضيفه لهذه ال�شخ�صيات
الجاهزة .ول��ن يكون للتخيل هنا �إال القليل فقط .وهنا تتبادر لدينا عدة �أ�سئلة مهمة ،هل قام الكاتب باالتكال على هذه ال�شخ�صيات لتحقيق جماهيرية ون��ج��اح م��ا؟ ول��م��اذا ال ي�ستخدم الكاتب �شخ�صيات معا�صرة من واقع المجتمعات الحالية ،فهل ه��ذا ه��روب نحو التاريخ؟ نرى �أن هذه الأ�سئلة محقة وتكمن الإجابة عنها في عمق الروايات التي ت�ستخدم ال�شخ�صيات التاريخية ،فالكثير م��ن هذه الروايات ،لم تقدم منجزاً تخيلي ًا �إبداعي ًا ،بقدر ما قدمت �سيرة معروفة و�أقوال معروفة ،و�إن قدم الكاتب �أية �أحداث متخيلة ،فقد ي�صطدم بالتعار�ض مع الوقائع التاريخية ،لذلك ال نرى �أن ا�ستخدام ال�شخ�صيات التاريخية في الرواية عمل فيه الكثير من ال�صواب� ،إنما هو مجال يعر�ض العمل الأدبي للترهل حذر و�شائك ،وقد ّ والجمود. تعتمد الرواية �إذاً ،على التاريخ كخلفية وبيئة البتكار ال�شخ�صيات والأحداث ،ولتقديم فكرة وح��دث يخدم مق�صد الكاتب نف�سه� ،إذ يمكن للروائي �سرد ما ال نهاية من الق�ص�ص والأح��داث ،العاطفية واالجتماعية المتخيلة في الرواية ،دون �أن يقترب من تغيير مجرى الأحداث التاريخية� ،أو يقع في مطب ال�شخ�صية التاريخية الجاهزة والمعروفة ،بعك�س الرواية التي تعتمد على �شخ�صيات تاريخية معروفة، كحامل �سردي وحكائي لها ،فقد تقع في عدة مطبات ،تقلل من قيمتها الأدبية كمنجز تخيلي �أو ًال ،وكمحاذير من تغيير الوقائع المعروفة ثاني ًا ،ولكن يمكن �أن يكون لها �إيجابية مهمة و�أ�سا�سية ،وهي �أنها ت�سهم بتب�سيط التاريخ وتقريبه من العامة.
من م�سل�سل «�أبوالطيب المتنبي»
في رواية ال�شخ�صية التاريخية ي�ضيق هام�ش التخيل الإبداعي
اختالف البيئة التاريخية لل�شخ�صية عن الواقع المعا�صر �أوقع بع�ض الروائيين في �إ�شكالية
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
55
مقاالت
د .عثمان المودن
عالقة الرواية بالتاريخ هو ال�س�ؤال الذي حاول الأديب التون�سي محمد القا�ضي الإجابة عنه م��ن خ�لال كتابه (ال��رواي��ة وال��ت��اري��خ: درا�سات في تخييل المرجعي) ،منطلق ًا من كون الرواية ،وخا�صة التاريخية ،جن�س ًا �أدبي ًا ينقل الما�ضي �إل��ى الحا�ضر ويك�سبه طاقة على الحركة والتجدد ،كما تعمل على �إعادة كتابة هذا الما�ضي وملء فراغاته والو�صول به �إلى تخوم لم يكن قادراً على ارتيادها� .إذاً كيف تف�صح الرواية بما هي خطاب تخييلي، عن �صلتها بهذا الخطاب المرجعي؟ وما هي الآليات التي تتو�سل بها لتعيد �صياغة هذا الخطاب وتزحزحه عن موقعه� ،أو قل لترده �إلى �أ�صله اللغوي ،وتعبث به كما يحلو لها ،وتو ّلد من �أجزائه عالم ًا ال ي�شذ عن المرجع وال يمتثل له؟ والتاريخ ،كما �أ�شار الكاتب في بداية عمله، �ش�أنه �ش�أن ال��رواي��ة؛ خطاب �سردي ،ومهما بالغنا في �إ�سباغ البعد المرجعي عليه ف�إنه يظل خطاب ًا منجزاً في مقام محدد تتحكم فيه اعتبارات �شتى توجهه وت�ضيء م�سالك قراءته. وكذا ال�ش�أن بالن�سبة �إلى الرواية؛ فهي و�إن بدت لنا خطاب ًا تخييلي ًا ،ال تنقطع �صلتها بالمرجع انقطاع ًا تام ًا ،وبالتالي يمكننا �أن نقول ب�أن التاريخ ي�شترك مع الرواية في كون كل واحد منهما خطاب ًا ،وه��ذا الخطاب في الحالتين مرتبط بالما�ضي ،يعلن فيه الم�ؤرخ �أنه مجرد ناقل مو�ضوعي لما وقع ،ويعلن الروائي �أنه راوٍ لأحداث جرت و�إن �أهملها الم�ؤرخون. و�إذا كان الأمر كما ذكرنا �سلف ًا ،علينا �أن 56
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
العالقة بين الرواية والتاريخ نقر �أو ًال ب�أن الرواية والتاريخ و�إن اختلفا في عالقة كل منهما بالمرجع؛ �إذ الرواية تخييلية �أ�سا�س ًا والتاريخ مرجعي �أو ًال ،يجمع بينهما لا منهما خطاب ،وخطاب �سردي على �أن ك� ً وجه الخ�صو�ص .ومن ثم ف�إن �أو�سع الأبواب التي يمكن �أن تقود �إلى فهم ال�صلة بينهما هي التنا�ص ،باعتبار التاريخ ن�ص ًا �سابق ًا والرواية ّ ن�ص ًا الحق ًا .ومن هنا فال منا�ص للرواية �إذا اختارت الف�ضاء التاريخي المرجعي مجا ًال لها ،من �أن تقول التاريخ ،ولكنها تقوله على تحينه ،ولعل طريقتها� ،أي �أنها ال تكرره و�إنما ّ هذا ما يعنيه وا�سيني الأعرج في (كتاب الأمير) حين يذكر�( :أن ال��رواي��ة ت�ستند �إل��ى المادة التاريخية وتدفع بها �إلى قول ما ال ي�ستطيع التاريخ قوله). ولتحديد ال�صلة بين الرواية والتاريخ ،عمد الكاتب �إلى درا�سة عدد من الروايات العربية لكل من( :جمال الغيطاني ،ر�ضوى عا�شور ،الب�شير خريف ،عبدالواحد براهم ،ووا�سيني الأعرج). وه��ي رواي���ات ���ص��درت �أو كتبت ف��ي فترات متباعدة ،تكاد ت�شمل ن�صف قرن من الزمان؛ ف��أق��دم ه��ذه ال��رواي��ات (ب�ل�ارة) ،ك��ان الب�شير خريف فرغ من كتابتها �سنة (1959م) و�إن قدر لها �أن تن�شر محققة �إال �سنة (1992م)، لم ُي ّ وتليها زمني ًا رواية جمال الغيطاني (الزيني بركات) ال�صادرة �سنة (1989م) ،ثم ثالثية ر�ضوى عا�شور (غرناطة -مريم -الرحيل)، وكان ظهورها بين �سنتي ( 1994و 1995م)، و�صو ًال �إلى (كتاب الأمير :م�سالك �أبواب الحديد) لوا�سيني الأعرج ،وقد �صدرت �سنة (2005م)،
حوار الرواية مع التاريخ لم يفتر ولم يتكل�س بل بقي مجا ً ال خ�صب ًا للتجريب لإثبات مرونته
م�سارات
وانتهاء بـ(تغريبة �أحمد الحجري) لعبدالواحد براهم التي ن�شرت �سنة (2006م). وبعد درا�سة هذه الأعمال� ،أ�شار الم�ؤلف �إل��ى �أن كاتب ال��رواي��ة التاريخية ،و�إن غ ّلب الجانب المتخيل على الجانب المرجعي، مطالب ب�أن ينزل ال�شخ�صيات والأح��داث في �إطارها الزماني والمكاني ،حتى يتيح للقارئ �إدراك �أ�سباب ما وقع ما�ضي ًا ،وما ترتب عليه من نتائج ،وبذلك يتجاذب الرواية التاريخية هاج�سان؛ �أحدهما الأمانة التاريخية التي تفر�ض عليها عدم تجافي ما توا�ضعت عليه الم�صادر التاريخية ،من قيام الدول و�سقوطها واندالع الحروب والوقائع الم�أثورة وغيرها، والآخر مقت�ضيات الفن الروائي من قبيل نمط الق�ص المف�ضي �إل��ى االنفراج ،والتبئير على �شخ�صية �أو �أكثر ،و�إدراج العنا�صر في منظور واح ��د ،م��ا يحقق ل��ل��رواي��ة التاريخية �شرط االن�سجام الداخلي. �إن ال��رواي��ة التاريخية العربية ،ب�سبب عودتها �إلى ما�ضينا ،بخيباته وانت�صاراته، ومختلف �أحداثه ،ونهلها منه ،تغرينا بمراجعة عالقاتنا مع الآخ��ر والبحث فيها عن جذور هزائمنا ،و�إرها�صات انت�صاراتنا؛ فمع (الزيني بركات) للغيطاني؛ نجد مواجهة بين م�صر المملوكية والدولة العثمانية ،ومع (غرناطة) لر�ضوى عا�شور؛ نجد قراءة للتاريخ الدامي بين الموري�سكيين والإ�سبان ،ومع الب�شير خريف، نتقدم في ال��زم��ان في رواي��ت��ي (ب��رق الليل) و(بالرة) ،فنجد �صورة من �صور ال�صراع على تون�س بين الإ�سبان والعثمانيين ،ومع وا�سيني الأعرج ،في (كتاب الأمير) ،ندخل في تفا�صيل عالقة متعددة الأوج��ه بين الجزائر وفرن�سا خالل القرن التا�سع ع�شر .فالرواية التاريخية �إذاً ت�سعى �إل��ى مراجعة عالقاتنا مع الآخ��ر، غربي ًا كان �أو �شرقي ًا ،لإ�صالح ما ف�سد وتقويم اعوج. ما ّ وفي الإط��ار نف�سه �أي�ض ًا يرى الكاتب �أن ارت��داء الروائي العربي قناع التاريخ ،هدفه �إ���ص�لاح ال��واق��ع المعا�صر وم�ساءلته ،لكن بطريقة ت�ضمن نجاته� -أي ال��روائ��ي -من البط�ش� ،إ�ضافة �إل��ى امتالء وغنى التاريخ العربي والإ�سالمي بنماذج كثيرة متقاربة
مع الواقع في الع�صر الحديث ،وبالتالي لم تكن عودة الرواية �إلى التاريخ بغر�ض التاريخ ذاته ،و�إنما اتخذت منه �ستاراً وقناع ًا لمعالجة ق�ضايا الواقع المعا�صر. وعليه تكون الرواية التاريخية قد دخلت مرحل ًة جديد ًة تخطت فيها عر�ض التاريخ، بغر�ض التعليم �أو الت�سلية والترفيه ،مرحل ًة عملت فيها على توظيف هذا التراث ال�ضخم لدرا�سة الواقع ،حيث تناولت الق�ضايا الحياتية ومتغيراتها االجتماعية والثقافية ،وبينت ال�صراع الإن�ساني في جوهره الحقيقي ،في محاولة منها للبحث عن الأ�سباب والدوافع الحقيقية لل�سلوك الإن�ساني من منطلق تاريخي ي�شبه الواقع ويحاكيه ،وبهذا تكون الرواية التاريخية قد تجاوزت تلك النظرة الب�سيطة عبر عنها رواده��ا الأوائ��ل في التزامهم التي َّ بالتاريخ ،بحيث راحت تعمق �صلتها بالحا�ضر وال��واق��ع المعي�ش ،ول��م تعد تبدي االهتمام بالحادثة التاريخية ،بقدر اهتمامها بما تمنحه هذه الحادثة للوقت الراهن ،وبالتالي يمكن �أن نقول ب�أن الرواية التاريخية� ،أ�ضحت ن�ص ًا ي�ستلهم التاريخ ويوظفه وفق بنية فنية خا�صة ،تمزج بين ما ك��ان وم��ا هو كائن، لتعبر عن ر�ؤية الكاتب التي تتعر�ض لمعاناة الإن�سان ،في عالمه المعا�صر والحديث. يمكن �أن نقول �إن محمد القا�ضي� ،أراد من خالل درا�سته هذه� ،أن يثبت �أمرين اثنين: �أولهما �أن هاج�س التاريخ م�ستبد بالرواية طورها الأول ومتمكن منها ،ولعل العربية منذ ْ هذا التوا�شج بين التاريخي والروائي يتجاوز الرواية العربية ليكون �سمة مالزمة للخطاب الروائي ب�إجمال .وال غرابة �أن نجد عدداً من الدار�سين يعدون الرواية العربية �سليلة التاريخ ووريثته .وثاني الأمرين؛ �أن الرواية العربية �شهدت تطوراً متنوع الجوانب والمظاهر� ،شمل خ�صائ�صها الجمالية وعالقتها بالأنظمة الرمزية ،ومع ذلك ف�إن حوارها مع الخطاب التاريخي لم يفتر ولم يتكل�س ،بل كان على عك�س ذلك مجا ًال خ�صب ًا للتجريب ،ومدخ ًال من �أهم المداخل التي يتو�سل بها الجن�س الروائي لإثبات مرونته وقدرته الفائقة على المجاوزة والتجدد.
الرواية ت�ستند �إلى المادة التاريخية وتدفع بها �إلى قول ما ال ي�ستطيع التاريخ قوله
ارتداء الروائي العربي قناع التاريخ هدفه �إ�صالح الواقع المعا�صر
كاتب الرواية التاريخية مطالب ب�أن ينزل ال�شخ�صيات والأحداث في �إطارها الزماني والمكاني
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
57
د .بومدين بلكبير:
�أن تكتب ف�أنت تبحث عن �إن�سانيتك ب��وم��دي��ن بلكبير �أ���س��ت��اذ ج��ام��ع��ي ،وب���اح���ث ،وروائ�����ي م��ن ال��ج��زائ��ر ،ح�����ص��ل ع��ل��ى ���ش��ه��ادة ال��دك��ت��وراه ع��ام (2013م) ،ل��ه العديد م��ن الكتب المن�شورة م��ن �أه��م��ه��ا� :إدارة التغيير والأداء المتميز ف��ي المنظمات العربية ،ع�صر اقت�صاد المعرفة ،الثقافة التنظيمية ف��ي منظمات الأع���م���ال ،ق�ضايا معا�صرة ف��ي �إ�شكالية ت��ق��دم المجتمع ال��ع��رب��ي ،الربيع ال��ع��رب��ي ال��م���ؤج��ل ،ال��ط��ري��ق �إل���ى االب��ت��ك��ار وال��ري��ادي��ة .ك��م��ا ���ص��درت ل��ه رواي���ة ب��ع��ن��وان: ممدوح عبدال�ستار خ��راف��ة ال��رج��ل ال��ق��وي .وك��ت��اب ال��ع��رب و�أ�سئلة النهو�ض .ورواي���ة زُوج ْب��غَ��ال ،وال��رواي��ة التي �صدرت هذا العام بعنوان (زنقة الطليان) ،ومجموعة ق�ص�صية بعنوان (الن�ص الأخير قبل ال�صمت).
58
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
محاورة
يعترف بومدين بلكبير ب�أهمية الكتابة، ودورها الفاعل في المجتمع ،فيقول( :الكتابة هي �أن تتخفف من ثقل ه��ذا العالم الجاثم على �إن�سانيتنا� ،أن ت�ست�شعر وجودك في عالم يقد�س كل فنون الموت� ،أن تبقى حي ًا و�سط تفا�صيل الخراب و�صور الموتى التي تمطرنا بها ف�ضائيات ،تتناف�س كل واحدة منها على تجريم طرف على ح�ساب طرف �آخر� ،أن تكتب يعني �أن تبحث عن �إن�سانيتك بين ركام �ضياع الإن�سان العربي� ،أن تكتب يعني �أن تقوم ب�أفعال متنوعة قد تبدو متناق�ضة في الوقت ذاته� ،أن تكتب يعني :تحاول �أن تتخفف .تهرب من ب�ؤ�س يكاد يطبق عليك من كل الجهات .تكون �شاهداً على ع�صرك .وعندما ت�صل �إل��ى نقطة تدرك فيها �أن ال جدوى من الكتابة ،فاعرف �أن هذا العالم الأعمى هزمك) .التقت مجلة (ال�شارقة الثقافية) به ،وكان لنا معه هذا الحوار: ¯ �صدرت لك حديث ًا رواية جديدة بعنوان (زنقة الطليان) ،هذه الرواية تذكرني ببع�ض روايات نجيب محفوظ ،ومنها (زق��اق المدق ،وخان الخليلي ،وال�سكرية ،وبين الق�صرين) ،ما هو المختلف في (زنقة الطليان) لكتابته؟ وهل هي رواية توثيق للمكان قبل اندثاره؟ -عنوان رواية (زنقة الطليان) ن�سبة لأعتق
و�أ�شهر االحياء بو�سط مدينة عنابة ،وبال�ضبط زنقة الطليان بالمدينة القديمة ،والمعروفة ب�شارع جوزفين ،وال�صورة على غالف الكتاب هي مدخل هذا الحي ،عنابة فيها حي زنقة الطليان كما �سكيكدة فيها حومة الطليان، وك��ذا درب الطليان بكازابالنكا بالمغرب.. وغيرها .مع العلم �أن الجاليات الأوروب��ي��ة �أثناء اال�ستعمار الفرن�سي ا�ستوطنت العديد المدن ،وخا�صة ال�ساحلية؛ منها الإيطاليون والإ�سبان والبلجيكيون والمالطيون وغيرهم. تنتمي رواية (زنقة الطليان) �إلى �أدب الحارة �أو الحومة �أو الزنقة �أو الحي� ،إذ هذا ال�صنف من الكتابة له لونه الخا�ص ،الم�صطبغ عادة ب�أ�سرار الحارة وتفا�صيل يومياتها .من يقر�أ رواية (زنقة الطليان) �سيلحظ دون �شك الفروق الجوهرية بينها وبين �أعمالي ال�سابقة ،فعنابة كمدينة وثقافة وت��اري��خ ومعمار ومجتمع حا�ضرة في رواياتي ال�سابقة ،لكن مع مدن �أخ��رى كبروك�سل وباري�س وتطوان وتلم�سان وق�سنطينة ،في حين روايتي الأخيرة انت�صرت لجمال عنابة ،وعريت تناق�ضاتها ،ومنحت فر�صة لإ�سماع �صوت المهم�شين بالمدينة على مدار كامل �أجزاء وف�صول الرواية ،ففي �أ�شهر و�أعتق حي بالمدينة العتيقة بعنابة ،حاولت من خالل رواية (زنقة الطليان) تعرية التناق�ضات
من م�ؤلفاته
في روايتي الأخيرة (زنقة الطليان) انت�صرت لجمال مدينة عنابة
�أ�شتغل على المكان في كل رواياتي وخ�صو�ص ًا المكان الذي �أعي�ش فيه
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
59
القابعة في النفو�س ،و�صفت الرواية دواخل ال�شخ�صيات وم�شاعرها ،وح ��االت الخوف والذعر من الهواج�س التي تنتابها ،ومن يقر�أ ال��رواي��ة �سيرى ال�شوارع والبيوت والأمكنة والطرقات ،وفق منحى ب�صري خا�ص .هناك ف ��روق �أخ���رى كثيرة بينها وب��ي��ن �أعمالي ال�سابقة ،لن �أف�سد على القارئ متعة اكت�شافها بعد قراءة الرواية ،فرواية (زنقة الطليان) هي تجربة مختلفة ،لكنها في ذات الوقت بمثابة ا�ستمرار لم�ساري ال�سردي. ¯ عطف ًا على ال�س�ؤال ال�سابق ...ح ّدثنا عن �أه��م مبررات وم�سوغات اهتمامك بالمكان داخل المتن ال�سردي� ،أو في عتبات �أعمالك الروائية؛ فرواية (زوج بغال) تحمل ا�سم منطقة حدودية بين الجزائر والمغرب� ،أما رواية (زنقة الطليان) فهي تحمل ا�سم �أ�شهر و�أعتق �أحياء مدينة عنابة. اال���ش��ت��غ��ال ال��ظ��اه��ر على ال��م��ك��ان فيرواي��ات��ي ل��ه م��ب��ررات��ه� ،إذ هناك العديد من الأ�سباب المو�ضوعية والذاتية على حد �سواء، �أولها �إنني مهتم ب�أدب الرحلة ،و�أكتب بانتظام ا�ستطالعات حول المدن (بمختلف الدول) ن�شرت �أغلبها بـ (مجلة العربي) الكويتية ،وبع�ضها بمجلة (ر�ؤى ثقافية) ،وغيرهما من المجالت والدوريات العربية الأخرى .وثاني ًا لأن الرواية الجزائرية في عمومها �أغفلت المكان (عن ق�صد �أو غير ق�صد) ،عدا بع�ض اال�ستثناءات؛ فنجد �أغلب الروايات المعا�صرة ال تولي �أهمية كافية للمكان� ،إذ ب�إمكان المتلقي �أو المتتبع تغيير الأمكنة وا�ستبدالها ب�أمكنة �أخرى ،من دون �أن يحدث �أدنى اختالل� ،أو فجوات في م�سار ال�سرد وفي نف�سيات ال�شخ�صيات .فذلك الحيز ال�ضيق الذي يخ�ص�صه الروائي للمكان ،وعدم اكتمال ت�أثيث المكان في تلك الأع��م��ال الإبداعية، جعالها تخرج م�شوهة فني ًا ،وغير مكتملة �سردي ًا .ال �أغامر و�أكتب عن جهل بالأمكنة ،فكل الدول والمدن والأحياء والأمكنة التي وردت ب��رواي��ات��ي ،وال��ت��ي كانت كف�ضاءات خ�صبة لتطور ال�سرد من جهة ،وللت�أثير في نف�سيات ال�شخ�صيات وتمثالتها ال�سلوكية من جهة �أخرى ،اجتهدت لل�سفر �إليها وزيارتها والوقوف على �أه ��م معالمها و�أع�لام��ه��ا و�سكناتها وحركاتها ،وهذه مهمتي في الكتابة .فالمقيم بمدينة بروك�سل� ،أو باري�س� ،أو ق�سنطينة، 60
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
�أو عنابة� ،أو مراك�ش� ،أو تطوان� ،أو طنجة� ،أو كونية ..عندما يقر�أ �أي رواية من رواياتي ،التي كانت مدينته ف�ضاء لها ،يدرك جيداً �أن الرواية لم تخن �أدق تفا�صيل النا�س ،وخ�صو�صية الأحياء وال�شوارع بمدينته! والأمر ذاته ينطبق على �أعمالي وم�ؤلفاتي الأخ���رى .ال بد من احترام المتلقي وعدم اال�ستهانة بذكائه� ،إذ يتجه عدد كبير من الروائيين (للأ�سف ال�شديد) �إلى ا�ستغفال القارئ والتالعب ب�إدراكه ،الأمر الذي يقل�ص من دورة حياة منتجهم الإبداعي، وي�ضعف من حظوظه في اال�ستمرار والبقاء، فيطويه الن�سيان وك�أنه لم يكن. ¯ لديك كتاب بعنوان (ق�ضايا معا�صرة في �إ�شكالية تقدم المجتمع العربي) ،وهذا اعتراف كبير ،ولديك كتاب �آخر بعنوان (العرب و�أ�سئلة النهو�ض) .ما هي �إذاً تلك الق�ضايا التي تعوقنا لمواكبة الع�صر؟ وما هي �أ�سئلة النهو�ض من كبوتنا؟ في ظل ع�صر التغيير ،وما ينتج عنهمن تطورات متالحقة ومت�سارعة ،عبر �صعد مختلفة ،لم يخرج الإن�سان العربي من لحظة الده�شة واالنبهار ،التي تقف حجر عثرة �أمام تجاوزه عملية الجري خلف �سراب منجزات ع�صره ،من دون �أن يلتفت �إلى عمق التغيير وج��وه��ر ه��ذه ال��ت��ط��ورات الم�ستمرة .هناك �سعي حثيث في الإم�ساك بخيط الع�صر ،عبر رغبة جامحة في ا�ستهالك منجزات غيره من ال�شعوب المتقدمة؛ هذا الخيط الرفيع المتال�شي في زمن �ضياع الإن�سان العربي ،ال�ضياع الذي يحول دون االنتقال من لحظة اللهفة �إلى لحظة
د� .أحمد زويل
علينا �أن نخرج من حالة الده�شة واالنبهار �إلى الإم�ساك بخيط الع�صر ومنجزاته
بومدين بلكبير
محاورة الوعي ،لحظة الكينونة ،ولحظة ال�س�ؤال الواعي، لحظة تتطلب منه التريث واالنتباه والتوقف عن اللهاث خلف �سراب الع�صر ومظاهره الزائفة، من �أجل طرح �أ�سئلة النهو�ض الحقيقية� ،أ�سئلة تحرره من �ضيق كهف التخلف المظلم ،وتدفع به �إلى اكت�شاف نور العالم. ه��ل الإن�����س��ان ال��ع��رب��ي ال يتقدم �إ َّال في ال�سن؟ لماذا نحن العرب ال نتقدم؟ هل �سبب ِّ ذلك �أننا في الوطن العربي نحارب الناجح حتى يف�شل ،بينما في الغرب يدعمون الفا�شل حتى ينجح؟ �إن جاز لنا اال�ستعارة من العا ِلم العربي �أحمد زويل .الإن�سان عامل فاعل في معادلة الح�ضارة ،فمثلث الإن�سان والتراب والوقت يعطينا ح�ضارة ،كما قد ينتج عن جمع هذه الأ�ضالع الثالثة خراب ًا .يمكن الحديث في ه��ذا ال�صدد عن مجموعة من الق�ضايا، كهجرة الكفاءات وا�ستنزاف العقول ،العن�صر الب�شري على اعتباره الثروة الوحيدة ،عالوة عن اال�ستثمار في بناء جيل الم�ستقبل ،مع �أهمية خلق المناخ الإداري المحفز� ،أي�ض ًا �آفاق التنمية االقت�صادية والإ�صالح ال�سيا�سي والم�ؤ�س�سي ،ثورة اقت�صاد المعرفة ،والتحول نحو الم�ؤ�س�سات االفترا�ضية ،والتوجه نحو كانت ناجحة �أو فا�شلة ،والم�شاركة في اتخاذ الحكومة الإلكترونية. ال��ق��رارات ،بين مختلف الم�ستويات المعنية، ¯ لديك كتاب بعنوان (الطريق �إلى االبتكار �إ�ضافة �إلى التح�سين الم�ستمر ،لأن هناك خيط ًا وال��ري��ادة) ،كيف تكون لنا ال��ري��ادة ،ونحن رفيع ًا جداً بين النجاح والف�شل. نتم�سك �أكثر بالما�ضي؟ من الأهمية �أن ن��درك ،ب�أنه ال يوجد ¯ تتحدث عن منطقة حدودية بين المغرببالفعل برنامج �أو ن�شاط ،يعمل بكفاءة �إلى والجزائر با�سم (زوج بغال) ،ما هي �أ�سئلة وقت طويل ،من دون تعديله �أو �إعادة ت�شكيله ،رواي��ة (زوج بغال) ،وما هي �أج��واء وعوالم فمن الجنون تكرار الأ�ساليب نف�سها ،والقيام الرواية؟ وهل �أنت مهتم ب�إلغاء الحدود بين بالأ�شياء نف�سها طوال الوقت ،مع انتظار نتائج الدول؟ تتطرق رواي��ة (زوج بغال) بجر�أة �إلىمختلفة في كل مرة ،لأن التغيير �سمة �أ�سا�سية في ع�صرنا الحالي ،ومن هنا تبرز الأهمية مو�ضوع لم ي�سبق تناوله في ال�سرد المغاربي لح�سا�سية المتزايدة لإدارة الإبداع واالبتكار .ولفهم ذلك وال��ع��رب��ي ،م��ن ح��ي��ث تغطيتها ّ �أكثر هناك العديد من النتائج ،التي من الممكن بلدين يتداخل فيهما الإن�ساني بالتاريخي، �أن نخرج بها ،لأن هناك العديد من الأ�سباب ،والجغرافي بالثقافي؛ �إذ حر�صت ب�شكل وا�ضح التي تقف وراء تميز الأداء والأع��م��ال فيها ،على تناول التوتر الحا�صل بعيداً عن المعالجة الفجة ،بحيادية تقترب من الجوهر كت�أثير القيادة في �إثارة الموظفين ،والرفع من ّ ال�سيا�سية ّ تحم�سهم لتحقيق النتائج العظيمة ،ودور تبني الإن�ساني الذي يجمع البلدين ،اللذين مازال فل�سفة التجديد واالبتكار في �ضمان نجاح يف�صل بينهما معبر بارد ا�سمه( :زوج بغال)، التغييرات ،التي تقوم بها ه��ذه المنظمات ،هذا اال�سم الإ�شكالي ال�صادم الذي اخترته لأن كذلك دور القيم والمعتقدات القوية التي ت�ؤمن يكون مفتاح ًا لت�سا�ؤلي ال�سردي والإن�ساني بها ،مع ت�أكيد �أهمية التعلم من التجارب� ،سواء الكبير حول م�ستقبل العالقة العربية العربية.
مدينة عنابة
بومدين في المعر�ض
من الجنون تكرار نف�س الأ�ساليب مع انتظار نتائج مختلفة في كل مرة
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
61
مقاالت
ميخائيل نعيمة
د .عايدي علي جمعة
يعد ميخائيل نعيمة (1988 /1889م) من �أهم القمم ال�شامخة في �أدبنا العربي الحديث، وذلك ب�إبداعه المتنوع الذي ظهرت فيه �أنواع �أدبية مختلفة ،والقيمة الفنية والفكرية لذلك الإبداع. وعلى الرغم من �شهرته العري�ضة ب�سبب كتابه (الغربال) ،وب�سبب ان�ضمامه �إلى �شعراء المهجر ال�شمالي ،ف�إن �إبداعه في مجال الكتابة ال�سردية يعد �إ�ضافة حقيقية لر�صيده ككاتب، وتعد روايته (اليوم الأخير) التي كتبها عام (1963م) ذات �أهمية خا�صة في هذا ال�سياق. ي�ستيقظ بطل ال��رواي��ة مو�سى الع�سكري، �أ�ستاذ الفل�سفة ذو ال�سبعة والخم�سين عام ًا ،في منت�صف الليل تمام ًا ،على �صوت هاتف يقول له( :قم ودع اليوم الأخير) ،فيقع في خاطره �أنه ميت ال محالة بعد �أربع وع�شرين �ساعة ،ويبد�أ في التفاعل مع حياته في �ضوء هذا الطارئ الجديد. تقع الرواية في �أربعة وع�شرين ف�ص ًال ،تمثل عدد ال�ساعات المتبقية لل�شخ�صية المحورية، وهذه الف�صول ي�سلم بع�ضها �إلى بع�ض ،ويظل القارئ عبر ف�صول الرواية ،في حالة ترقب دائم لم�صير ال�شخ�صية المحورية ،الذي يظنه واق��ع � ًا ال محالة ،ولكنه يفاج�أ ف��ي نهاية الرواية ،بك�سر �أفق توقعه� ،إذ تتحقق النبوءة فع ًال ويودع اليوم الأخير في حياته ال�سابقة، لكي ي�ستقبل نمط ًا مختلف ًا تمام ًا من الحياة، يقوم على الر�ضى التام وال�صفاء الكامل وفهم �أعمق لحياته التي يعي�شها. واختيار �أ�ستاذ فل�سفة ليكون بط ًال ،له مغزى ،فالفل�سفة هي رم��ز العقل ال�صارم، 62
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
بين ال�سياق االجتماعي والواقع فــي روايــة «اليوم الأخير» وال�شك في النبوءات ،ولكن ال�شخ�صية المحورية ه��ن��ا ،تتخلى ت��م��ام� ًا ع��ن معمارها العقلي ال�صارم ،لتندمج في ف�ضاء �آخ��ر هو ف�ضاء القلب والحد�س. وعلى الرغم من ال�شخ�صيات المتنوعة في هذه الرواية ،ف�إن هناك ثالث �شخ�صيات محورية ،لها ن�صيب وافر من الكتل ال�سردية فيها ،وهي �شخ�صية مو�سى الع�سكري ،وابنه ه�شام و�شخ�صية الال م�سمى .ومو�سى الع�سكري يعي�ش مع ابنه ه�شام وخادمته �أم زيدان ،بعد �أن هجرته زوجته ر�ؤيا الكوكبية� ،إلى �سوي�سرا لتعي�ش هناك ،وال تخفى داللة ذلك ،فالزوجة ترمز �إلى متع الدنيا التي غادرته. ولكنها تر�سل �إليه برقية بعودتها لبيتها مرة ثانية ،فيذهب للقائها في المطار ،متنا�سي ًا ما كان منها ،ويعلم �أن الطائرة تتحطم بمن فيها ،ولكن المفاج�أة �أن ر�ؤيا الكوكبية تر�سل �إليه برقية �أخرى ،ب�أنها قد �أجلت عودتها. وابنه ه�شام ك�سيح �أبكم ،وله من العمر ثمانية وع�شرون ع��ام� ًا ،وق��د �أ�صبح �سليم ًا معافى فج�أة بعد حادث ،ثم �أخذه الال م�سمى معه �إلى بعيد .ومن هنا ف�إن هذه الرواية دعوة �إلى ترك الظاهر وعدم االنخداع به والتم�سك بجوهر الأ�شياء ،فاالبن المقعد الذي ال ينطق كلمة واح��دة منذ �سنوات نفاج�أ به ب�أنه هو المعلم ل��وال��ده ،وه��و ال��ذي ي�أخذ بيديه على الطريق ال�سليم. �أم��ا ال�لا م�سمى فقد ق��ام ب��دور المحرك الأ�سا�سي ل��ل��رواي��ة ،وب��دت �شخ�صيته وهي محاطة بكثير من الغمو�ض ،مما يتواءم مع (الال م�سمى).
�شخ�صياته الروائية ثرية بالدالالت والرموز والتفاعل النف�سي واالجتماعي
حالة تنتهي ال��رواي��ة ب�صورة رمزية ال تخفى داللتها ،حيث يمخر زورق عباب نهر متدفق عك�س التيار ،وهذا الزورق يحمل الال م�سمى، وه�شام ومو�سى الع�سكري ،بعد �أن ودع يومه الأخير ،و�أ�صبح �إن�سان ًا �آخر. ومن هنا تبدو الرواية وهي تحمل تثويراً للواقع ،حيث تظهر دعوتها للتخل�ص التام من ال�ضروريات القاهرة ،التي تجعل الإن�سان يعي�ش في غفلة عن الحياة الحقيقية المت�صلة بقلب الوجود الناب�ض ،وب��ذا يظهر وا�ضح ًا االخ��ت�لاف ال��ت��ام ف��ي التفاعل م��ع الحياة والوجود. وه��ي تبث في القلب التخلي عن كل ما يم�سك ب�أجنحة الإن�سان �إلى التراب ،وتدعوه �إلى التحلي بالنور المبثوث في هذا الكون. كما �أن الرواية حافلة بجمل تحمل كنوزاً الفتة من الحكمة ،على نحو ما نجد من قول!! (ف��أن��ت متى وج��دت نف�سك ،وج��دت فيها كل �شيء ،وكل �إن�سان). وتعد جملة (قم ودع اليوم الأخير) ،هي الجملة المحورية في هذه الرواية ،وظلت فاعلة ومحركة للأحداث من البداية حتى النهاية، ولربما ا�ستغرقت ال�شخ�صية المحورية في �ساعة من �ساعات هذا اليوم ،في حدث ما ،لكن تظل هذه الجملة تلقي بظلها القوي على كل كتلة �سردية في هذه الرواية. وف��ي ه��ذه ال��رواي��ة نجد �سمات التجربة ال�صوفية بو�ضوح ،فهي تنت�صر لقوى المحبة والت�سامح ،حتى �ضد م��ن �آلمنا وتنفر من الكراهية والتع�صب ،كما �أنها تتبنى فكرة التخل�ص من كل ما يعوق هذه الوحدة حتى و�إن �سبحت �ضد التيار ،وهي تنت�صر للمعرفة الباطنية في مقابل المعرفة الظاهرية. وه��ذه ال��رواي��ة تنه�ض بعملية كبرى في الإزاحة المعرفية ،حيث تزيح المعرفة الخا�صة بالحوا�س والمعرفة الخا�صة بالعقل و�صرامته، من المركز �إلى الهام�ش لتمنح المجال كام ًال من �أجل تلقي معرفة يقينية ،وهي في دعوتها تلك ،تترا�سل مع المت�صوفة الكبار ،خ�صو�ص ًا �أبو حامد الغزالي. ومن هنا ف ��إن العملية الرمزية في هذه الرواية فاعلة بقوة ،حيث تتحرك ال�شخ�صيات برغم �إطارها الواقعي �إلى رموز �إيمانية كبرى، فه�شام م��ن الممكن ق��راءت��ه باعتباره رمز
الهداية القلبية ،والالم�سمى من الممكن قراءته باعتباره رمز المطلق ،ور�ؤي��ا الكوكبية من الممكن قراءتها باعتبارها رمز الدنيا ،ويظهر في ه��ذه ال��رواي��ة التفاعل الكبير مع البيئة، حيث تنقل لنا �صورة حية من البيئة اللبنانية، وجبالها ونباتاتها وحيواناتها. وتثار في هذه الرواية �أ�سئلة في منتهى العمق عن الحياة والموت والم�صير ،وعلى الرغم من �أن الفترة الزمنية التي تتناولها الرواية ق�صيرة جداً (� )24ساعة فقط ،ف�إننا نجد االت�ساع ال�سردي فيها ال يكاد ين�ضب. فقد وقعت �أحداث الرواية في يوم ال�سبت ( )21يونيو ،وهي فترة زمنية ب�سيطة ،لكن كثافة ال�سرد فيها وامتداده م�س�ألة ظاهرة، وق��د نه�ضت االرت����دادات الزمنية والتحليل اال�ستق�صائي الفل�سفي للق�ضايا الكبرى في الحياة بدور فاعل في ذلك. تدور �أحداث الرواية في لبنان ،خ�صو�ص ًا منزل ال�شخ�صية المحورية وال�ضيعة والمطار ث��م ي��ع��ود م��رة �أخ���رى �إل ��ى بيته ،وق��د ذهب المنزل وحده بثماني ع�شرة �ساعة� ،سبع ع�شرة �ساعة منها مثلت الكتلة الأولى من ال�سرد ،ثم غ��ادر المنزل ليعود �إليه في ال�ساعة الرابعة والع�شرين ،وهذا يدل على �أثر النبوءة المحوري في ال�شخ�صية ،حيث جعلته منعز ًال عن العالم الخارجي في انتظار نهايته الو�شيكة ،ويبدو التعمق داخل النف�س الب�شرية ،وهي تدرك قرب نهايتها بو�ضوح �شديد. وعلى الرغم من �أن المحرك الأ�سا�سي هاتف ينتمي لما فوق الطبيعة ،ف�إن �سير الرواية تميز بالواقعية ال�شديدة ولم يغرق في الخيال ،و�إن ظهرت �شخ�صية الال م�سمى وك�أنها �شخ�صية تنتمي �إلى ما فوق الطبيعة. تبدو الوحدة الع�ضوية بو�ضوح �شديد في هذه الرواية ،وهذه الرواية تك�شف عن تفاعل مع ال�سياق االجتماعي ،وت�ستدعي �إح�سا�سات عا�شها نعيمة نف�سه ،حينما ا�شترك �ضمن �صفوف الجي�ش الأمريكي في الحرب العالمية الأول��ى ،وعا�ش تجربة الوقوف على الحافة ما بين الموت والحياة ،كما يظهر في الرواية بو�ضوح الفكر المنفتح المتقبل للآخر وعدم التع�صب ،وكذلك تحفيز قوى الحد�س في تلقي العالم في مقابل العقلية ال�ضيقة ،فالعالم مليء بالروح الناب�ضة في كل ذرة من ذراته.
الرواية حافلة بجمل تحمل كنوزاً الفتة من الحكمة وتنت�صر لقوى المحبة والت�سامح
�إبداعه ال�سردي يتميز بالقيمة الفنية والفكرية
الوحدة الع�ضوية في العمل ..تك�شف عن تفاعل �سياق اجتماعي وت�ستدعي �إح�سا�سات الكاتب
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
63
تميز ب�أ�سلوبه الفني
عبدالوهاب الأ�سواني عالمة م�ضيئة في عالم ال�سرد
كان الأديب والروائي عبدالوهاب محمد ح�سن عو�ض اهلل ال�شهير بـ(عبد الوهاب الأ�سواني) ،و�سط حركة الإبداع، واح��د ًا من كتابها الذين ي�ست�شرفون الجديد في الر�ؤى والفكر ..وقد تميز ب�سمات معينة ،تحدد مالمح �أدبه كله، فقد كانت البيئة التي ارت�ضاها الأ�سواني مادة لفنه ،تحمل هبة محمد م�ضمون ًا فكري ًا ي�شغل الكاتب في كل �أعماله� ،إ�ضافة �إلى �أ�سلوبه الفني المتميز .وهو واحد من �أهم كتاب الرواية من جيل ال�ستينيات، في القرن الما�ضي ،وع�ضو في اتحاد كتاب م�صر ،وع�ضو في اتحاد �أدباء م�صر، وع�ضو المجل�س الأعلى للثقافة بم�صر ،وع�ضو نادي الق�صة في القاهرة. ول ��د الأدي�����ب وال���روائ���ي ع��ب��دال��وه��اب الأ�سواني في ( 17يناير 1934م) بجزيرة المن�صورية التي تتو�سط نهر النيل� ،أم��ام مدينة ك��وم �أم��ب��و بمحافظة �أ���س��وان ،التي
64
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
يتكون تراثها من تراكمات فرعونية ونوبية وعربية و�إ���س�لام��ي��ة ،فقد ق�ضى ج ��زءاً من طفولته المبكرة في قريته ب�أ�سوان ،لكنه ن�ش�أ في الإ�سكندرية ،وق�ضى معظم فترات
حياته فيها� ،إذ ك��ان وال��ده يعمل متعهداً لتوزيع م�صانع الثلج فيها ،بجانب التجارة. ولكنه وعلى الرغم من رحيله عن �أ�سوان مع �أ�سرته ،ف�إن �أ�سوان بقيت معينه ومخزونه الروحي والثقافي المتنوع ،الذي جمع بين تراث مزيج من القبائل الإفريقية والعربية ومخزون الثقافة الفرعونية القديمة .وقد ظل طوال حياته ،وحتى رحيله مرتبط ًا بمجتمعه الأ���س��وان��ي حري�ص ًا على �أن يق�ضي بع�ض �أيامه هناك ،و�سط �أهله في قريته ،ي�شاركهم �أفراحهم و�أحزانهم .وفي الإ�سكندرية �صادق عبدالوهاب الأ�سواني مجموعة من ال�شبان اليونانيين وال��م�����ص��ري��ي��ن ،م��م��ن ي��ه��وون ال��ق��راءة والأف �ل�ام ال�سينمائية ،وق��د طلب منه �أب��وه معاونته في تجارته ،حيث كان يملك تجارة رابحة ،فلم يتمكن من موا�صلة درا�سته الثانوية ،بعد �أن قطع فيها عامين. وف��ي الإ�سكندرية اختلط بمجتمع الأدب��اء والمثقفين ،ومن خالل اقترابه من الأجانب الذين كانوا يقطنون في حي الرمل ،الذي كانت به تجارة وال��ده ،تعلم �أهمية القراءة ومتابعة الفنون ،فانكب على القراءة وهو في �سن �صغيرة و�أخذ يلتهم الكتب التي تتعلق بدرا�سة التاريخ والتراث العربي القديم ،ال �سيما كتب الجاحظ والأ�صفهاني� ،إ�ضافة �إلى دواوين ال�شعر العربي القديم ،غير �أن الرواية حظيت باهتمامه ،و�أخل�ص لها �إلى جانب الق�صة� ،إل��ى �أن �صار واح��داً من المثقفين المو�سوعيين والمبدعين في مجال كتابة الق�صة والرواية .وقد عده النقاد �أحد �أبناء المدر�سة العقادية (ن�سبة �إلى الأديب الكبير عبا�س محمود العقاد) في التثقيف الذاتي، �إذ �إنه وا�صل درا�سته للثانوية العامة ،ولكنه لم يكمل تعليمه الجامعي ،نظراً الن�شغاله ب��ت��ج��ارة ك��ب��ي��رة ،ب��د�أه��ا وال���ده ف��ي مدينة الإ�سكندرية. ب��د�أ عبدالوهاب الأ�سواني الكتابة في �سن مبكرة ،حيث يقول( :بد�أت الكتابة حينما �شاركت ف��ي «ن ��دوة ال�سبت» ،وه��ي �أ�شبه ب�صالون ثقافي ،كان يعقدها �أبناء التجار الذين يع�شقون الكتابة ،وك��ان من �ضمن برامج «ندوة ال�سبت» تنظيم م�سابقة �شهرية عن الق�صة الق�صيرة ،وا�شتركت فيها بق�صتين، وفازت االثنتان ،وكان عمري حينئذ خم�سة ع�شر عام ًا ،ثم �شاركت في م�سابقة �أخرى
�أدباء عقدتها القوات الم�سلحة الم�صرية ،وكانت لجنة التحكيم في هذه الم�سابقة ت�ضم �أدب��اء كباراً؛ (يحيى حقي ،ونجيب محفوظ ،ومحمد مندور، وعلي �أحمد باكثير) ،ثم �شاركت في ندوة في �أواخ���ر الخم�سينيات كانت تعقد ف��ي القهوة التجارية بمدينة الإ�سكندرية ،وكان لدي خالل هذه الفترة ولع �شديد بقراءة التاريخ العربي والإ�سالمي ،ذلك �أن الموهبة الروائية في داخلي جعلتني �شغوف ًا بالتاريخ ،لأن التاريخ في �أحد جوانبه ي�صور ال�صراع بين ال�شخ�صيات ،والرواية كذلك ،ولكن الفارق في بناء ال�شكل وطريقة الحكي ،ولحبي للرواية المدفونة بداخلي ،كنت حينما �أكتب مقا ًال �أن�سج وقائع تاريخية من خيالي ،ولذلك بعدها بد�أت �أقر�أ بعناية �شديدة، و�أتردد �إلى المنتديات الأدبية ،ال �سيما جماعة الأدب العربي .وفي فترة الع�شرينيات من عمري ا�شتركت في م�سابقة للق�صة الق�صيرة والرواية نظمها ن��ادي الق�صة بالقاهرة والإ�سكندرية بالتعاون مع مجل�س الفنون والآداب ،وفزت بالجائزة الأولى عن روايتي «�سلمى الأ�سوانية»، وكانت مفاج�أة بالن�سبة لي) .ثم واظب الأ�سواني على ح�ضور الندوات الثقافية في الإ�سكندرية وال��ق��اه��رة ،وب ��د�أ �صيته ينت�شر ف��ي الأو���س��اط الأدب��ي��ة ،خا�صة بعد �إ���ش��ادة الدكتورة �سهير القلماوي بروايته (�سلمى الأ�سوانية) ،وقررت ن�شرها �ضمن مطبوعات عن الهيئة الم�صرية العامة للكتاب ،التي كانت تتر�أ�سها الدكتورة القلماوى حينئ ٍذ .وبد�أ بعدها في ن�شر كتاباته الق�ص�صية في مجلة (المجلة) ،التي كان ير�أ�س تحريرها يحيى حقي ،و�أهله ذلك الفوز للعمل ال�صحافي بمجلة الإذاع��ة والتلفزيون ،ثم عمل فترات طويلة في ال�صحافة الخليجية حتى عاد �إلى م�صر ،من بين رواياته (وهبت العا�صفة)، و(ابت�سامة غير مفهومة) ،و(الل�سان المر)، و(للقمر وجهان) ،و(�أخبار الدراوي�ش) ،و(النمل الأبي�ض) التي فازت بجائزة الدولة الت�شجيعية في الرواية عام (1997م) ،و�آخر رواية �صدرت له بعنوان (�إمبراطورية حمدان)� .أما مجموعاته الق�ص�صية فمنها( :مملكة المطارحات العائلية)، و(وقائع درامية من التاريخ العربي) ،و(�شال من القطيفة ال�صفراء) ،و(كرم العنب). تميزت معظم �أعمال عبدالوهاب الأ�سواني بمحاولته ت�شكيل عالم القبيلة العربية التي مازالت تعي�ش في م�صر وبالتحديد في محافظة �أ�سوان ،وقد ظهر هذا جلي ًا في معظم رواياته
د .محمد مندور
علي �أحمد باكثير
التي تميزت ببيئتها الأ�سوانية الغريبة عن قراء القاهرة ،فهي ،ك��الأدب النوبي ،رافد جديد له �سماته الخا�صة ،لهذا تلون �أ�سلوبه ب�ألفاظ تقدم للقارئ هذه البيئة ،برغم التزامه الف�صحى ،وهو �أ�سلوب م�شحون بالرمز يرتفع �إلى مرتبة ال�شعر من حين لآخر ،كما يت�سم بالدعابة التي تعلو طبقتها �إلى حد ال�سخرية �أحيان ًا .وتتناول �أعماله حياة طبقات المهم�شين بر�ؤية فل�سفية وبح�س �ساخر من الحياة .وهو يعلي من قيمة الحرية في �أعماله ،كما يجيد عر�ض العالقات االجتماعية والعاطفية بح�س نقدي قادر على التمييز بين العاطفة ال�صادقة والزائفة ،وتنطق �أعماله بخبرة وا�سعة بالحياة والب�شر .وقد �أجاد عبدالوهاب الأ�سواني التعبير عن غربة �أهل النوبة وال�صعيد حين ينتقلون للعي�ش في القاهرة والإ�سكندرية، كما تطرق �إلى غربة النوبي حين يعود �إلى �أهله في زيارات مو�سمية فيح�س بالغربة �أي�ض ًا ،غربة العائد �إلى تقاليد �أهله الأ�صليين وخرافتهم. وعبر م�����ش��واره الإب��داع��ي ال��ح��اف��ل ،ح�صد عبدالوهاب الأ�سواني العديد من الجوائز الأدبية والتكريمات ،فقد ف��از ب��إح��دى ع�شرة جائزة محلية وعربية ،في مجالي ال��رواي��ة والق�صة الق�صيرة ،وبجائزة الدولة الت�شجيعية ،وتوج م�سيرته مع الجوائز بح�صوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام (2011م).
عبا�س العقاد
من �أغلفة كتب عبدالوهاب الأ�سواني
عده النقاد �أحد �أبناء المدر�سة (العقادية) في عملية التعليم الذاتي بقيت قريته في �أ�سوان معينه ومخزونه الروحي والثقافي المتنوع ح�صد الكثير من وتوج التكريمات َّ م�سيرته بجائزة الدولة التقديرية في الآداب
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
65
مقاالت
مفهوم
د� .صالح هويدي
الحديث عن المثقفين العرب حديث ذو �شجون كما يقول �أجدادنا ،ولي�س هذا مو�ضوع تناول هذه ال�شجون ،فقد راودني ،من فرط ما كنت مهموم ًا بحمولة المثقف العربي وال �سيما على م�ستوى ال�سلوك الأ�شد تعبيراً عن حقيقة الثقافة ،والأكثر وفاء في الحكم على �صدقية ح�ضورها واال�ستدالل عليها ،هاج�س انتداب عدد من الباحثين الزمالء لدرا�سة مو�ضوعة ال��ث��ق��اف��ة وال��م��ث��ق��ف ال��ع��رب��ي ،وف��ح�����ص ه��ذه المفاهيم وتحليلها في كتاب م�شترك �صدر منذ �سنوات. �أما ما �أريد تناوله هنا فهو الوقوف على ظاهرة من الظواهر التي ي�صدر عنها بع�ض المثقفين العرب ويعبرون عنها بين حين و�آخر، وين�شغلون في مناق�شتها من دون �أن يتنبهوا �إلى طابعها ال�شاذ �أو الخارج عن �سلوك المثقف ال��واع��ي وقيمه الحقة ،ف��ي ح��دود م��ا �أعتقد �شخ�صي ًا في الأقل ،من دون �أن � ّأدعي امتالك ال�صواب �أو �أ�صادر على الآخرين حقهم في �أن يكون لهم ر�أي �آخر ،وهو �أحد بواعث كتابة هذا المقال. ي��ح��دث �أن ي��غ� ّ�ي��ب ال��م��وت �أح���د ال��رم��وز الثقافية ،لتظهر في ال�ساحة الثقافية �ضروب عمن فارقونا ،يمكننا �أن ن�ص ّنفها من الكتابات ّ �إل��ى نوعين من الكتابات ،الأول :يتناول ما قيم و�أثر في محيطه للأديب �أو المبدع من نتاج ّ المحلي �أو العربي و�شمائله في وقفة ت�أملية.
66
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
المثقف العربي
وهو في ذلك يج�سد موقف ًا مو�ضوعي ًا من�سجم ًا مع �سلوك المثقف ودوره الفاعل من جهة ،و�أفق توقع قرائه من جهة �أخرى ،ف�ض ًال عن ان�سجامه مع حديث (اذك��روا محا�سن موتاكم) الم�ستقر في ذاك��رة ثقافتنا الدينية� ،سواء �أ�صح هذا الحديث بن�صه �أو بمحموله� .أما النوع الثاني من تلك الكتابات التي نعنيها هنا في مقالتنا دون �سواها ،فت�أخذ اتجاه ًا �أو اتجاهات �أُخر مختلفة؛ منها ما يدخل في الإ�شارة �إلى ما�ضي المبدع �أو جذور �أفكاره بالغمز �أو بالحديث ال�صريح ،ومنها ما يك�شف عن وقائع يعرفها الكاتب �أو عاي�شها من قبل ،كما يزعم ،ليتحدث عن غرابتها ،ومنها �أي�ض ًا تلك الكتابات التي ت�سعى �إل��ى الحديث عن العالقة في ما بين الكاتب والمبدع الراحل ،والتركيز على نوع من البطوالت التي ين�سبها الكاتب لنف�سه ،والف�ضل ال��ذي يعود �إل��ي��ه ف��ي تعديل م��واق��ف المبدع الراحل �أو ن�صحه ،وبما يمنح الكاتب ميزة على الراحل �أو �أث��راً يريد تجليته ،من خالل ك�شف تاريخ الخالف والجدل في ما بين االثنين؛ لإبراز دوره في ت�صحيح المواقف غير ال�سوية �أو الناتئة دونما جدوى ،ف�ض ًال عن تطرق تلك الكتابات �إلى �سرود ووقائع عن المبدع الراحل �أو تباينات في الر�أي ال يعرفها �سواهما .وقد تتجاوز تلك الكتابات �أحيان ًا ه��ذه الحدود لتقلل من �ش�أن الرمز الإبداعي الكبير المعروف بت�أثيره في الواقع الثقافي العربي ،للحديث
للمثقف الحرية في الكتابة عن الأحياء كيفما �شاء مادام المبدع موجوداً ليرد ويدافع عن نف�سه
�آراء
عن جوانب ال�ضعف الإبداعي ،من خالل �إطالق �أحكام مقت�ضبة على جزئية ما ،بل والذهاب �إل��ى القول ب�أنه كان موهبة �أخ��ذت �أكثر من حجمها ،و�أنها �أقل من ذلك �ش�أن ًا. حدثت هذه الظاهرة مع ال�شاعر بدر �شاكر ال�سياب بعد رحيله ب�سنوات ،كما حدثت مع ال�شاعرة نازك المالئكة ،وعبدالوهاب البياتي، ون���زار قباني ،ومحمود دروي�����ش ،و�سعدي يو�سف ،ولميعة عبا�س عمارة ،مثلما حدثت مع �إح�سان عبدالقدو�س ،ونجيب محفوظ و�سواهما. وهذا ما احتفظت به الذاكرة ال�شخ�صية ،وال �أ�شك في �أن هناك رموزاً �إبداعية �أخرى لم تمر بي �أو تف ّلتت من محيط ذاكرتي ،ويعرفها �أدباء ومثقفون غيري. ولعل الم�شهد ال�صارخ الذي �أح�سبه �أكثر نتوءاً من �سواه ،وهو الأكثر تعبيراً عن هذه الظاهرة عندي ،هو ما قر�أته يوم ًا من حوار جرى مع المحيطين بنجيب محفوظ وحلقته من المبدعين ،وما �صرحوا به عقب وفاته ،في حوار �صحافي عنه وعن قيمته الإبداعية و�أثره، لنكت�شف �أن بع�ضهم لم يكن من حوارييه �أو ممن كانوا ينظرون �إليه ب�إجالل ،بل من الأنداد الذين كانت لهم ر�ؤي��ة مختلفة وت�صور حول منهجيته التي �شخ�صت بكونها كانت تعبيراً عن مرحلته ،و�أن محفوظ ًا كتب يوم ًا ن�ص ًا كان مت�أثراً بما كتبه �أحد الروائيين الم�شاركين في الحوار. ما الذي �أري��د �أن �أ�صل �إليه هنا تحديداً؟ هل �أريد �أن �أفر�ض حظراً على المثقف وعلى كتاباته عن رحيل ال��رم��وز الثقافية �أو عن زمالئه من الأدباء والمبدعين؟ ال �شك في �أن ال��ذي �أه��دف �إليه هو �شيء �آخ����ر ،فللمثقف ال��ح��ري��ة ف��ي ال��ك��ت��اب��ة عن الأحياء ،كيفما �شاء ،ما دام المبدع موجوداً، ي�ستطيع �أن يحاوره و�أن يرد عليه ،ويك�شف عن حقيقة ما كتب عنه� ،إن ك��ان واق��ع� ًا �أم تخر�صات وادع ��اءات ومغالطات� ،أو �إ�ساءة �أو كتابة مقبولة تحتمل ال��رد .لكن الحديث عن المبدعين والرموز الثقافية التي تغادر دنيانا ،بما يك�شف عن وقائع غير معروفة
ت�سيء �إلى المتوفى �أو تنتق�ص منه غير جائزة �أدبي ًا و�أخالقي ًا .كما �أن الك�شف عن خ�صومات مزعومة �أو رواي ��ات عن �أف��ع��ال و�أق ��وال غير معروفة �إال للإثنين ،من �ش�أنها االنتقا�ص من �ش�أن المتوفى غير مقبولة ولي�ست من المروءة في �شيء .ومثلها انتهاز فر�صة الوفاة لإعادة تقييم المبدع المتوفى؛ �شاعراً كان �أم روائي ًا، وتحديد حجم �شهرته التي حازهاْ � ،إن كانت من الدرجة الثانية �أو الثالثة ،وكلها �أمور غير مقبولة في ظننا ،ل�سبب ب�سيط هو �أن المتوفى لم يعد قادراً على المحاورة والرد على الأقوال والدعاوى والروايات ،و�أن المثقف الذي ي�ستغل �صمت الراحلين ليقول �شيئ ًا ال �سبيل �إلى �إثباته م�سوغ هذا �أو ت�صديق مزاعم الكاتب فيه ،فما ّ ال�سلوك؟ وه��ل لمثقف ح� ّ�ق �أن يجهل حقيقة بدهية كهذه؟ �إلى جانب ذلك ف�إن هذا اللون من الكتابات يبدو لنا ملفع ًا برائحة الريبة ومذاق النوايا غير المبر�أة ،و�إال ف�أين كان �صاحب هذه الكتابات حين كان المبدع حا�ضراً حي ًا ،يمكنه مناق�شته والرد عليه؟ ولم اختار �ساعة ال�صمت ولعبة المخاتلة؟ و�أريد �أن �أذهب �إلى �أبعد من ذلك ف�أقول: يحق للمثقف الحق �أن يذكر عن المبدع �إنه ال ّ الراحل �سوءاً �أو ِخ ّلة �أو نقي�صة ،ف�ض ًال عن الر�أي الإبداعي ،حتى لو كان ثابت ًا وحقيقي ًا؛ لأن العبرة في مواقف المثقف الأخالقية �أن يتحدث عن هذه الأم��ور ويذكرها في حياة المبدع؛ ولأن الأ�سا�س �أن مثل هذه الكتابات تهدف �إلى توجيه ر�سالتها �إلى الرمز الثقافي لي�سمعها �أو ويعدل من مواقفه �أو يحاور الكاتب في يقر�أها ّ حقيقة ادعائه� ،إن كان واقع ًا ويناق�شه فيه، ولي�ست العبرة تعرية عيوب المبدع الراحل للجمهور القارئ لحظة غيابه عن عالمنا. لعلي ال �أظلم المثقف العربي �إن قلت� :إن هذا ال�سلوك ظاهرة عربية مح�ضة ،وهو غي�ض ِ ِ �سلوكات مثقفنا العربي ،و�إننا لو في�ض من ا�ستعنا ببع�ض الت�صورات وال�سلوكات الأخرى الموجودة لدى المثقف العربي ،ف�إنه لن يتبقى لدينا ممن ينطبق عليهم مفهوم المثقف الحق �سوى نفر محدود.
ظاهرة الكتابة عن الرموز الثقافية بعد غيابها ورحيلها
كتابات مو�ضوعية تتناول دور و�أثر المبدع الراحل ومناقبه
هناك من يركز على العالقة بينه وبين المبدع الراحل ويركز على الخالف بينهما و�صحة موقفه
لي�س من الحكمة ب�شيء �أن يقيم الكاتب تجربة المبدع بعد رحيله
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
67
�شعراء عرب
ير�صدون �أحوال الق�صيدة وال�شعرية العربية
68
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
ا�ستطالع ال�شعر العربي ..ه��ذا النهر ال��ذي حفر مجراه في ال�صخر منذ ال��ق��دم ،ظلت مياه معانيه قوية متدفقة متجددة من زم��ن �إل��ى �آخ��ر ،حيث كانت التحوالت في الق�صيدة العربية متناغمة مع مراحلها ،من�سجمة مع بيئتها ومنفتحة على الآخ��ر والعالم وه��ذا من عنا�صر قوة وجدية حركة ال�شعر �شم�س الدين العوني العربي ،التي توا�صل تطورها لن�شهد ه��ذا الح�ضور الأنيق والمميز لهذا ال�شعر ال��ع��رب��ي ،م��ن خ�لال ت��ج��ارب ال�شعراء ونوعية الأ�سئلة والق�ضايا والإ�شكاليات المقترحة والمطروحة في مختلف المنابر والمنتديات وال��ل��ق��اءات الثقافية والأدب��ي��ة ،المعنية بال�شعر ن��ق��د ًا ودرا���س��ة واهتماماً. في هذا ال�سياق ،نر�صد هذه الآراء والمواقف لعدد من ال�شعراء ،بخ�صو�ص ال�شعرية العربية و�أح��وال الق�صيدة العربية منذ ال��رواد وحتى اليوم. ال�شاعر يو�سف عبدالعزيز (الأردن) تعتبر ال�شعرية العربية واحدة من ال�شعريات المهمة في العالم ،فهناك تراث �شعري عربي ومتعدد ،يبد�أ بال�شعر الجاهلي ويمر غني ّ بالحقبتين الأموية والعبا�سية� ،إلى �أن ي�صل �إلى وقتنا الحا�ضر� ،إلى جانب التنظير ال ّنقدي ويقدمه للجمهور في الذي كان ي�صاحب ال�شعر ّ ك ّل مرحلة .في الع�صر الحديث انفتحت ال�شعرية العربية على ال ّتراث ال�شعري العالمي ،وذلك من �سمي بال�شعر المنثور ،وتالي ًا خالل ظاهرة ما ّ �سمي �أي�ض ًا بق�صيدة ال ّنثر� ،أو من خالل ما ّ الحر في �أواخر الأربعينيات من بثورة ّ ال�شعر ّ القرن الع�شرين. طور الذي ح�صل، وعلى الرغم من هذا ال ّت ّ ف�� ّإن ال�شعراء العرب اليوم مطالبون بتطوير ال�شعر ،والبحث عن ف�ضاءات �شعرية جديدة؛ ال حد لطغيان الغنائية في بد لهم مث ًال من و�ضع ّ ّ الن�صو�ص ال�شعرية ،واالتجاه �إلى اال�ستفادة من التقنيات الجديدة في عالم ال�شعر ،فهناك قدم ال�شعراء �شعر جديد ومختلف في العالمّ ... ال��ع��رب ف��ي الع�صر الحديث �إن��ج��ازات مهمة من خ�لال ال�شعر الجديد ال��ذي كتبوه .الآن وم��ع االنفجار المعرفي ال��ذي ح ّققته ثورة االت�صاالت والمعلومات ،باتت لهم الظروف مهي�أة لالطالع على الثقافة الإن�سانية ومنها ّ ال�شعر في عدد هائل من بلدان العالم ،ومثل هذه الحالة �سوف ت�سمح لهم بتطوير تجاربهم ال�شعرية ،وفتحها على الجديد والمختلف� ،إال � ّأن
هناك م�شكلة كبيرة ال بد من ال ّتو ّقف عندها، وو�ضع حلول حقيقية لمعالجتها. الم�شكلة ه���ذه ت��ت��ع� ّل��ق ب��غ��ي��اب العمل وي�سوقه، يقدم ال�شعر العربي الم�ؤ�س�سي الذي ّ ّ �سواء على �صعيد البالد العربية �أو على �صعيد تقدمه ال�شعوب الأخرى العالم .وذلك عك�س ما ّ ل�شعرائها ومثقفيها .ال�شاعر العربي يعتمد على جهده الفردي في الن�شر ،با�ستثناء (بيوت ال�شعر العربية) ،التي ت�ستكمل وجودها في �أكثر من مدينة وعا�صمة عربية� ،إذ ال وجود لم�ؤ�س�سة تحمله وتقوم بن�شر نتاجه .و�إذا ما جئنا �إلى حقل الترجمة وجدنا �أن ما يترجم لدينا من �شعر �إل��ى لغات العالم هو بمثابة فتات قليل وقليل جداً ،الأمر الذي يخلق غياب ًا �شبه تام لل�شعر العربي على م�ستوى خريطة ال�شعر في العالم ..انفتح ال�شعر العربي الحديث ال��ر ّواد ،على التجديد واالبتكار، بعد تجارب ّ وا�ستطاع ال�شعراء الجدد منذ �أوا�سط �ستينيات ال��ق��رن الما�ضي حتى الآن ،تحقيق قفزات نوعية على م�ستوى الن�صو�ص التي يكتبونها. ثمة �أجيال جديدة من ال�شعراء ،ولدت و�أثبتت ّ ولكن الم�شكلة تكمن في الحا�ضنة كفاءتها، ّ الثقافية العربية ،التي ال تقوم بواجبها تجاه هذه الأجيال ،و�إذا ما عقدنا مقارنة ب�سيطة �رواد وزمننا المعا�صر ،لوجدنا بين زم��ن ال � ّ فروق ًا كبيرة في التعاطي النقدي والت�سويقي بين تجاربهم والتجارب التالية .ال�شعراء الرواد كان لهم ن ّقادهم ،الذين قاموا بدرا�سة تجاربهم وقدموها �إلى الجمهور ،من خالل كتب ال�شعريةّ ، نقدية مطبوعة ،و�أ�ستطيع القول � ّإن نقد ال�شعر تو ّقف عند ه�ؤالء الروادّ � .إن الأجيال ال�شعرية منذ ال�سبعينيات وحتى الآن ،هي �أجيال خارج االهتمام النقدي ،الم�س�ألة الأخ��رى هي � ّأن
ح�ضور �أنيق للق�صيدة العربية فني ًا وفكري ًا
يو�سف عبدالعزيز: على ال�شعراء البحث عن ف�ضاءات �شعرية جديدة
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
يو�سف عبدالعزيز
69
قدمتهم �إلى الرواد كانت لديهم منابرهم التي ّ الجمهور ،وذلك عك�س الأجيال الجديدة ،حيث اختفت معظم المجالت الثقافية ،التي كان تقدم نتاج ال�شعراء الجدد �إلى يمكن لها �أن ّ الجمهور الجديد. ال�شاعر نورالدين �صمود (تون�س) الق�صيدة العربية وغير العربية رهينة كاتبيها؛ ففي كل ع�صر وفي كل م�صر يوجد �شعراء مجيدون تبقى �أ�شعارهم و�أ�سما�ؤهم، مدعون تنطفئ �أ�سما�ؤهم و�آث��اره��م، ويوجد ّ فالبقاء دائم ًا في كل �شيء للأ�صلح وال بقاء للرديء. ال�شاعر المن�صف المزغني (تون�س) ال�شعر العربي هو ملحمة �أدبية �سبق �أن كتبها وعا�شها ال�شاعر الجاهلي ،ومايزال ال�شاعر المعا�صر ،حيث الل�سان العربي ال يكف ع��ن االن��ط�لاق بما ف��ي الف�صحى م��ن جمال ا�ستثنائي ومو�سيقا ،ليوا�صل الكتابة ،وطالما �أن هناك لغة ف�صحى .وال �أحب �أن �أعر�ض ر�أيي بهذه ال�سرعة ،فهو مو�ضوع ندوات ت�أملية في حال ال�شعر الآن ،و�أعتقد �أن و�سائل التوا�صل على جماهيريتها ،قد �أغرقت ال�شعر في وديانها وروافدها .ال�شعر لن ينتهي ،وال �أحد يمكنه �أن يقفل باب الإبداع ،طالما �أن الإن�سانية ال تكف عن الزواج منذ �آدم وحواء ،لكن ما ال حظته هو �أن العقود الأخيرة تو�شك �أن تجعل الطوفان ال�شعري الآن مب�شراً بالجفاف ال�شعري .يبدو �أن النجوم ال�شعرية ال تتكرر ،ولكن ال�سماء في العربية الف�صحى تت�سع لكثير من النجوم ،حتى ال�سماء التي نراها لي ًال ،هي حبلى بماليين النجوم الال مرئية ،وما �أدران��ا فلعل ال�شعراء العرب المهمين الآن م��ازال��وا يعي�شون زمن الخفاء ،وقد يتج ّلون الحق ًا وقد ال يظهرون �إال في ع�صور الحقة ،تمام ًا مثل بع�ض نجوم ال�سماء في مداراتها الفلكية� .إن الظرف الثقافي العربي الراهن مطمو�س بفعل هجمة ال�سيا�سة، والظروف ال�سيا�سية العربية الآن هي الليل الذي يخفي ال�شعر الجميل الآن.
�شربل داغر
المن�صف المزغني
ا�صطراع مجتمعات عربية عديدة بق�ضاياها الداخلية� ،أن �شعراء هذه التجارب العربية باتوا �أ�شد توا�ص ًال وتفاع ًال فيما بينهم ،على ما �أعرف و�أ�شهد ،وباتت معالم الترا�سالت والت�أثرات بادية بينهم �أي�ض ًا .ويت�ضح من متابعة كثير من ال�شعر المت�أخر كيف �أنه يلتقي في �شواغل تعبيرية تكاد تكون واحدة ،ويجمعها خ�صو�ص ًا ان�شغال ال�شاعر �أو تكفله بق�ضايا الإن�سان في وجوده العام كما في مجتمعه .هذا ما يظهر في تعبيرات وتجليات عديدة نجد فيها ال�شاعر العربي متنبه ًا لعالم اليوم ،ومتفاع ًال معه من حيث يقف ،وح�سبما ينظر �إلى العالم .فعي�ش اللحظة الآنية ال يعني االن�سجام �أو التوافق بين التجارب ال�شعرية ،بل يعني التالقي ابتداء من اللحظة عينها؛ فما هو متاح وجميل فيها هو التنوع والتعدد ،ال التطابق وال التوافق. ال�شعر العربي بخير ،بعد ال��رواد ال خ�شية عليه� ،إذ �إن �شعراء و�شعراء تكفلوا بال�شعر، مناح جديدة ومفاجئة في وق ��ادوه �صوب ٍ ال�شاعر �شربل داغر (لبنان) التعبير ال�شعري ،ما ال نجده �أب ��داً في �شعر ال�شعر العربي بات مو�صو ًال بغيره ،عدا �أنه الرواد ،وما كان �صعب ًا ت�صوره �أي�ض ًا. يعاي�ش العالم ،فال تبلغه ق�ضاياه و�أحواله بعد علي �أن هناك كثيراً من ال�شعر وال يخفى َّ �سنوات �أو قرون .فقد كان الفت ًا ،على الرغم من ال��رديء يظهر وي�ستمر ،وال �سيما مع ا�شتداد 70
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
نورالدين �صمود
نور الدين �صمود: البقاء للأ�صلح وال بقاء للرديء
المن�صف المزغني: ال�شعر �سيبقى وال �أحد يمكنه �أن يغلق باب الإبداع
�شربل داغر: الم�شكلة الأكيدة في ال�شعر تكمن في در�سه النقدي
ا�ستطالع ظهور ال�شعر في (الفي�سبوك)� ،إال �أن هذا الأمر ال يزعجني ،هو في ذاته دليل حياة واهتمام بال�شعر ،و�إن كان بع�ض هذا ال�شعر ال يظهر �أ�سا�س ًا في هيئة لغوية منا�سبة ،وه��و الحد الأدنى المطلوب من �أي ق�صيدة. الم�شكلة الأكيدة في ال�شعر ،هي في در�سه الدر�س النقدي المنا�سب ،وهو ما يندر كثيراً في الدر�س العربي ،حيث �إن اتجاهات وميول الدار�سين ،بمن فيهم الدار�سون الأكاديميون، ي�ست�سيغون وي�ست�سهلون مقاربة الرواية :هذا يغري �أكثر في المجال الثقافي والإعالمي؛ وهذا �أ�سهل �أي�ض ًا لجهة العدة المنهجية. الم�شكلة الأخرى ،هي �أنه ال توجد عنايات ر�سمية وخا�صة ،خ�صو�ص ًا عند دور الن�شر، تعنى بن�شر ال�شعر ،وتحافظ على م�ستواه، وتعمل على ترويجه. ال�شاعر حميد �سعيد (العراق) و�إذ ا�ستمر �شعراء ال�ستينيات في ح�ضورهم الإبداعي ،وانفتاحهم على الم�ستجدات ،جمالي ًا وواقعي ًا ،حيث مازال عدد منهم حا�ضراً ومت�ألق ًا وم�ضيف ًا لم يتوقف عند بداياته الأول��ى ،ولم يتوقف عند نهايات تجربته الإبداعية �أي�ض ًا، ف�إن �أجيا ًال جديدة من ال�شعراء العرب ،مازالت توا�صل مغامراتها الإبداعية ورحلة الإب��داع، التي لن تتوقف ،غير �أن الإنجاز الإبداعي وفي مقدمته ال�شعر ،ال يعبر عنه بالكم ،بل بالنوع
المتوكل طه
د .محمد علي �شم�س الدين
حميد �سعيد
في النوع �إن جاز هذا التعبير ،وهذه حقيقة عرفتها جميع الثقافات في العالم ،و�شهدتها جميع المراحل التاريخية. ال�شاعر محمد علي �شم�س الدين (لبنان) ال�شعر العربي في لحظته الراهنة يعاني مي ًال عربي ًا �إل��ى ثقوبه ال�سوداء ..في العالم �أي�ض ًا تميل الفنون �إلى نفاياتها ..لكن بر�أيي ونحن نتعر�ض لهذا الع�صف المتوح�ش من كل النواحي ،مطالبون بالتم�سك بالجذور ..الآن نعم الآن ..ف�إن ال�شجرة �إذا ع�صفت بها العا�صفة تتم�سك بجذورها. لقد كانت تجارب الرواد ت�أ�سي�سية ومهمة، �إذ كانت مهمتها نقدية وتغييرية تجاه ثالثة �آالف ع��ام من ال�شعر �سابقة عليها .تغيرت المو�سيقا ،تغيرت ال�صورة ،المعنى ،العالقة الأداة ..وتمت الوالدة ال�صعبة الأولى للق�صيدة العربية الحديثة على �أيدي؛ ال�سياب ،والبياتي، وعبدال�صبور ،و�أدوني�س ،والماغوط ،والحاج.. طيران ًا بالزمن ،نحن الآن في لحظة ما ت�شبه ا�ستنفاد الريادة الأولى لل�شعر باتجاه الريادة ال��ث��ان��ي��ة ..ولعلنا مطالبون ب���أن ن�ستوعب ونتجاوز الآالف الثالثة من �سني الق�صيدة العربية ،م�ضاف ًا �إليها قلق الحداثة والرواد ..لأن ال�شعر بحقيقته هو ريادة مفتوحة وال تنتهي. ال�شاعر المتوكل طه (فل�سطين) لم يخرج م�سار ال�شعر العربي بعد �إلى م�ساحات جديدة� ،أو �إلى تجارب رجراجة ،مع هذه المتغيرات الكونية ال�شعرية .وعلى الرغم من �أن ال�شعر العربي ،على اختالف ح�سا�سياته وتجريبه ،ف�إنه مازال خجو ًال ومتردداً وم�شدوداً �إلى ما�ضيه �إلى حد كبير� .أعتقد �أن ال�شعر �أكبر من مدار�سه ونقاده ونظرياته ،وعلينا �أن ننتظر قلي ًال لنتبين م�آالت ال�شعر العربي الحديث بعد تجارب رواده.
حميد �سعيد :ال�شعر ال يعبر عنه بالكم بل بالنوع
محمد علي �شم�س الدين :ال�شعر ريادة مفتوحة ال تنتهي
المتوكل طه :علينا �أن نتبين م�آالت ال�شعر العربي الحديث بعد تجارب رواده
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
71
مقاالت
�أجيال ال�شعر
بين التو�صيف والإنجاز د .حاتم ال�صكر تلق الت�صنيفات الجيلية ،ف��ي ال�شعر ل��م َ خا�صة ،قبو ًال منا�سب ًا من ال�شعراء وقرائهم ،ولم ت�شهد الفنون الأدبية الأخرى ت�صنيف ًا م�شابه ًا با�ستثناء ال�سرد في ال�ستينيات وحقبة الرواد قبل �سد الت�صنيف الفني للق�ص :واقعي ًا ذلك .وربما َّ وتجريبي ًا ،ثم م�سرودات الحرب الطويلة ،مكان التراتب الجيلي الذي عرفه النقد ال�شعري. لقد ظهرت في النقد ال�سردي ت�صنيفات �أخرى؛ مثل كتابة ال��م��ر�أة و�سيرتها ،و�سرد الهوام�ش والمغتربين ،لكن الجيل بالمعنى العمري والفني لم يعد مهيمن ًا في الخطاب النقدي ال�سردي. �إن الت�صنيفات ال تخلو من ا�ستراتيجيات مفاهيمية في العادة .بذا �أعلل حما�ستي المبكرة في تب ّني و�صف (ال�شعراء ال�شباب) وم�صطلح (�أدب ال�شباب) ..فقد كنت �أرى �أن الأج��ي��ال ال تحيل �إلى ال�شعراء باالحتكام �إلى �أعمارهم ،بل تعني (�أجيال ال�شعر) ذاته ون�صو�صه ،ال �أعمار ال�شعراء �أو انتماءاتهم العمرية ووجودهم في العقد المق�صود ت�صنيفهم داخله ،ول��ي مقالة بهذا العنوان (�أجيال ال�شعر ال ال�شعراء) ،تلخ�ص ما �أراه ..فالقول ب�أجيال ال�شعر ي�سمح باختراق االن��ت��م��اءات الزمنية ،فيكون �شاعر م��ن جيل عمري �أو عقد ،منتمي ًا ب�شعره �إلى جيل �آخر .ت�صح ٍّ هذه في حالة ال�شاعر محمود البريكان بوجه خا�ص ،كمثال ،وتنطبق على �شعراء �آخرين كان �شعرهم ي�ضعهم في �أجيال �شعرية ،لما تتميز به ق�صائدهم .ويمكن القول �إن ذلك تبلور حين تنوعت الكتابة ال�شعرية ،فجرى ت�صنيف ال�شعراء بح�سب الأ�ساليب �أو الأ���ش��ك��ال التي يكتبون بها ن�صو�صهم ،ال �سيما حين ظهرت بع�ض التجمعات ،مثل :جماعة كركوك ،والموقعين على البيان ال�شعري ،وغيرهما..
72
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
وهذا ال ينفي كوني م�ؤمن ًا بالجيل كتكتيك ُيي�سر الدرا�سة والت�صنيف ،والقراءة �أي�ض ًا ،ولكن بتو�سيع الم�صطلح ،وانفتاح المفهوم بال�ضرورة؛ لي�أخذا �أبعاداً فنية. ون�شير لتع�ضيد قناعتنا �إلى اال�صطفافات في ثقافات العالم وفق الأجيال ،ول�سنا ا�ستثناء في ذلك ،فثمة جيل ( )47في �ألمانيا ،و( )27في �إ�سبانيا ،وهكذا ..لكن الأقرب للت�صنيف الجيلي الفني ال الزمني هو الجيل ال�ضائع في الرواية الأمريكية ،فهو ي�ضم ك ّتاب ًا لي�سوا من فترة عمرية واحدة ،لكنهم خ�ضعوا لم�ؤثر م�شترك .وبذا يمكن التوافق على �أن جيل ال��رواد هم المجددون في الق�صيدة العربية ،وجيل الخم�سينيات هم من وا�صلوا ذلك بدرجة �أقل من المتوقع ،وبوتائر �صح ،يف�سر متباعدة ومتقطعة .ولعل ه��ذا� ،إن ّ �ضياعهم بين جيلين نقدي ًا ..بينما يكون جيل ال�ستينيات بداية المراجعة للتجديد والم�ضي به �صوب التحديث ،ويكون لجيل ال�سبعينيات دور الم�ضي ب�شوط �أبعد وانفتاح �أكثر ،لن�صل �إلى جيل الثمانينيات وما �سرقت الحرب وتداعياتها من �أعمارهم .ويندرج في هذا �شعراء من خارج الجيل الزمني ،كانت ن�صو�صهم في �سياقات الظرف المحيط بتلك ال�سنوات.. ك��ان كتابي (مواجهات ال�صوت القادم) (1986م) من �أوائ ��ل الكتابات النقدية حول تجربة �شعراء ال�سبعينيات العراقيين الذين عرفوا �أي�ض ًا حينها بال�شعراء ال�شباب ،وهو مختارات ودرا�سات في �شعرهم .وقد وجدت �أن اال�صطفاف الجيلي في حالتهم �أكثر و�ضوح ًا .ك��ان �شعر الت�سعينيات ولي�س ���ش��ع��راءه ه��و المتن في الدرا�سات ،فتجاوزت الوجود الجيلي -العمري، �إلى الق�صيدة -الن�ص ،فو�ضعت �ضمن الكتاب،
البع�ض يحتكم في الت�صنيف �إلى �أعمار ال�شعراء
كلمات
�شعراء من �أعمار مختلفة قلي ًال عن ال�سبعينيين. م�شتركات فنية لكنني وج��دت في ن�صو�صهم َ ومو�ضوعية (ن�سبة �إلى المو�ضوع ال�شعري) مع الق�صيدة ال�سبعينية ،في اللغة والتقنيات الداخلية ميز الق�صيدة وال��ج��ر�أة المو�ضوعية .وه��و ما ّ ال�سبعينية والأ�سماء التي كانت على الئحتها، فقد برز االهتمام بالن�صو�ص الطويلة واال�ستمداد من ال��م��وروث ال��رم��زي والمعتقدات والمالحم والطقو�س القديمة ،ف�ض ًال عن مجاراة الحداثة ال�شعرية العربية التي تهب رياحها ،لتوقف المد الإيقاعي ال�صاخب ،وتجعل الخطاب ال�شعري �أكثر ه��دوءاً وعمق ًا .مع ما الحظ ُته من ح�ضور ٍ أو�ضحتها الأن��ا ال�شعرية بتمرك ٍز ونرج�سية � َ متونهم ال�شعرية ،وت�صريحاتهم وتفوهاتهم خارج تلك المتون. وحين تلت ذلك ق�صيد ُة ال�شعراء الثمانينيين، و�صفت ك ّتابها. تنبهنا �إلى ن�ش�أتها في الظل كما ُ فهم ب��دوا �أكثر ر�سوخ ًا في التناول ،ال�ستقرار ق�صيدة النثر ،وقبولها تلقي ًا .فلم تعنهم كثيراً التلفظات وادعاء التغيير الجذري في الق�صيدة، وتجنبوا المعارك والمنازالت التي �شغلت الجيل ال�سابق ،لكنهم م�ضموني ًا كانوا يت�سمون بحزن �اغ هو ترميز للحالة العراقية التي �سادتها ط� ٍ وما جرته من ويالت؛ تمثلت بالحروب المتوالية وع�سكرة المجتمع ،وطغيان �أدب الحرب والتعبئة التي تتعار�ض مع �أهداف الجيل ال�شعرية ،ومهمة التحديث التي يرونها من �أهم محاور تجربتهم ومكونات خطابهم. ّ لقد كانوا �ضحايا محرقة الحرب الكارثية التي التهمت �أعمارهم في التجنيد الإجباري ال��ط��وي��ل .ح��ت��ى ���س��ادت ف��ي ف�����ض��اء ق�صيدة الثمانينيات روائح احتراق اللحم العراقي وم�سيل دمه .وفيها بكائيات مرمزة للخ�سائر وال�سنين ال�ضائعة من زاوي��ة نظر ذاتية غالب ًا .وفني ًا نجد ،بجانب هيمنة �أجواء الحرب وتداعياتها، ا�ستخدام ًا لق�صيدة النثر بمرجعيات جديدة وم�ؤثرات متغيرة عن �سابقيهم. وق ��د ا�ستن�سخت الت�سعينيات تجربة الثمانينيات بدراماتيكية �أ�شد ،بمعنى �إ�ضافة عنا�صر مثيرة ترتبط بالح�صار الذي عرفه العراق وتداعياته وتفاعالته الثقافية والنف�سية ،وهذا �سينعك�س في ن�صو�ص الت�سعينيات المن�شورة التي تعد �شاهداً على تفاعل الحالة العراقية.
يتبين لنا �أن التو�صيف ال يخلو من مناكدة جيلية .فهو في الأ�سا�س ا�شتقاق ظرفي؛ �أي �أن مبتدعيه يقارنون بين جيلين �أو �أكثر ،وهذا هو �سر تمو�ضع ال�شبابية في الو�صف ،وهي �صفة ظرفية؛ لأن ه��ؤالء �سي�صبحون كباراً ينظرون للجيل الالحق بكونهم �شباب ًا. هنا ي�أخذ الو�صف هيمنة �أبوية في م�ستوى من الخطاب النقدي ،حين تمتزج �أحكام القيمة بالتحليل وال��و���ص��ف ..وف��ي بع�ض م�ستويات تحف بالم�صطلح ظالل �أبوية �شعرية. التلقي؛ ُّ هذا يتم ا�ستنتاجه من م�ستخدمي الخطاب حين ي�ضعون �أنف�سهم في مقارنة �أو معادلة قيمية، والطريف �أنه ي�أتي بل�سان ال�شباب �أنف�سهم �إعالن ًا عن تميزهم وحيوية ق�صيدتهم ،وافتراقها عن ق�صائد الآباء! برغم �أن الو�صف ي�ستفزهم �أحيان ًا، حين ي�أتي من جيل �شعري �آخر ،وي�ؤكدون ر�سوخ التبا�س في فنيتها �أو تجاربهم �إب��ع��اداً لأي ٍ ن�ضجها. لكن ال��ق��ارئ ال يتخل�ص م��ن الموجهات الزمنية لقراءته ،فالن�صو�ص قد ارتبطت في ذاك��رت��ه ب�سياقات تلك الفترة ،وال تهمه هنا �شبابية الأعمار ال�شعرية ،قدر منجزها وما ظل منه .ودوم � ًا ترد في هذا ال�صدد �أمثولة رامبو وال�سياب؛ رامبو الذي عا�ش زمني ًا بعد توقفه �شاب ًة المبكر عن الكتابة� ،أو ذه��اب ق�صيدته َّ وال�سياب ال��ذي مات في الثامنة �إل��ى ال�صمت. ّ والثالثين ،وتوقفت ق�صيدته .لكن ال�شاعرين ظال و(�شابين) في الذاكرة ال�شعرية والقراءة حيويين َّ بمعنى التجديد ال��ذي ات�سمت به ق�صائدهما، و ُقرئت واقترنت به .وبمقيا�س الت�أثير ،كان لهما ح�ضور وا�ضح في ما تالهما من ن�صو�ص ،وما ا�ستجد من خطوات تحديثية في الكتابة ال�شعرية. وهنا �أي�ض ًا تم اختراق مفهوم التراتب الجيلي، فظلت لكل منهما �أفياء وارفة وظالل في الم�شهد ال�شعري ،وا�ستمداد فني وجمالي في �إطار التجديد و�سياقاته ،و�ضعهم خارج الت�صنيف الزمني. لم يعد اليوم من يعب�أ بالت�صنيف الجيلي �إال فئة الدار�سين لتاريخ ال�شعرية �أو المهتمين بمزايا �أ�سلوبية متحورة �أو متغيرة عبر الكتابة، و�صار المقيا�س الأكثر �شيوع ًا هو ت�شخي�ص عينة �أو �صنف الن�ص ذاته وما ينعك�س فيه من ّ �سمات ،ربما يكون لها ا�ستمداد من مهيمنات جيلية �أو زمانية.
هناك من ال�شعراء من يخترق االنتماءات الزمنية
يوجد �شعراء من �أعمار مختلفة لديهم م�شتركات فنية ومو�ضوعية
�صار المقيا�س في ت�شخي�ص وت�صنيف الن�ص ذاته و�سماته
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
73
ا�ستلهم حكاياته من عالم الحلم
هان�س كري�ستيان �أندر�سن رائد �أدب الأطفال في العالم
ب��رغ��م ق�����س��وة ال��واق��ع ال���ذي ك���ان يعي�شه ،و�صعوبة ال��ظ��روف ال��ت��ي �أح��اط��ت ب��ه منذ طفولته ،لكنه كان يعي�ش عالم ًا م��ن الحلم ،مليئ ًا بال�سحر والحكايات ال��خ��راف��ي��ة والأ���س��ط��وري��ة وال��ع��وال��م ال��غ��ري��ب��ة ،التي ا�ستلهمها حين ًا م��ن حكايات �أم���ه ،وحين ًا م��ن خياله يو�سف الرجب الخ�صب المحلق ،وفي �أحيان من �إرثنا العربي المتمثل ب���أل��ف ليلة وليلة ،التي م��ازال��ت رائ���دة بق�ص�صها وخيالها وف�ضاءاتها ال�سحرية الخالقة ..وك�أنه ك��ان يعو�ض ذات��ه عن ذل��ك الواقع الم�ؤلم بعالم �آخر مختلف ،يحلق به �إلى ف�ضاءات وا�سعة على �أجنحة الخيال. 74
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
هان�س كري�ستيان �أن��در���س��ن؛ ال�شاعر وال��روائ��ي الدنماركي ،ورائ��د �أدب الأطفال في العالم ،ول��د ع��ام ( ،)1805لأب يعمل في �صناعة الأح��ذي��ة� ،إال �أن��ه لم ي��رث تلك المهنة ،بل كان يتطلع لأن ي�صبح م�سرحي ًا ك�شك�سبير ،و�أديب ًا م�شهوراً فكتب في الم�سرح وال�شعر والرواية ،فجاءته ال�شهرة من خياله الطفولي ،حيث �أبدع في �أدب الأطفال وفي كتابة الق�ص�ص الخيالية والخرافية التي �شكلت ج��زءاً من مخيلتنا ووعينا الطفولي، كق�صة حورية البحر ال�صغيرة� ،أو بائعة الكبريت ،وعقلة الإ�صبع ،والبطة القبيحة،
�أدب �أطفال وثياب الإمبراطور الجديدة ،والقداحة العجيبة.. وغيرها الكثير من الق�ص�ص ،التي �أ�صبحت �أيقونات في �أدب الطفولة ،و�إرث ًا �إبداعي ًا مازلنا ن�ستلهم منه القيم الإن�سانية حتى الآن ،فكان جديراً بهذا المبدع �شاعر الدنمارك الوطني� ،أن ي�صبح يوم ميالده يوم ًا عالمي ًا لكتب الأطفال، لأن��ه من م�ؤ�س�سي ق�صة الأطفال بخ�صائ�صها الحديثة ،التي تميزها عن ق�ص�ص الكبار ،بن�ضج فكرتها و�أ�سلوبها الفني وعمق دالالتها ورموزها وحمولتها القيمية الأخالقية الإن�سانية ،التي تقف خارج الحدود الجغرافية للعالم الإن�ساني، وخارج الم�سار التاريخي ،لأنها تخاطب وجدان الإن�سان ،وعقله وروحه ،في كل مكان وزمان. فحياته ك��ان��ت معين ًا خ�صب ًا لق�ص�صه، وق�ص�صه كانت انعكا�س ًا لعالمه الذي يحلم به، وهذا ما نتبينه في قوله عن �سيرة حياته ،حين �سئل مرة عن ذلك فقال( :اقر�ؤوا حكاية فرخ البط القبيح!) بالإ�شارة �إل��ى �أن النجاح في الحياة يحتاج �إلى ال�صبر والمثابرة والثقة بالنف�س ،كما يلق اهتمام ًا ،بل لم حدث مع فرخ البط الذي لم َ يلق اعتراف ًا من �شقيقاته البطات ،فكان منبوذاً َ نظراً لقبحه و�ضخامة حجمه ،فراح يتنقل من مكان �إلى �آخر ،يبحث عمن يعترف به ،ويمنحه االهتمام الالئق ،كي يدفع عنه نظرات االزدراء التي يواجهها من البطات ومن جميع الحيوانات الأخرى ،ليكت�شف فيما بعد ،وبعد معاناة بحث طويلة� ،أنه بجعة جميلة بي�ضاء ،وقد علق �أحد النقاد على هذه الق�صة وعالقتها بحياة المبدع، بقوله( :لكل مبدع ولكل �شاعر حكاية فرخ البط القبيح الخا�صة به ،و�إن هذه الحكاية هي العمل الإبداعي الذي يك�شف فيه �أندر�سن عن معاناته، و�أحالمه ،وعن نجاحاته الأولى المغم�سة بمرارة الإخفاقات ،وعن مكنوناته.)... �أندر�سن ،كان يكتب عن الطفل الذي ي�سكنه، كما يكتب عن الطفل الذي ي�سكن داخل كل �إن�سان، لذلك كانت كتاباته تخاطب الكبار وال�صغار، وق��د بين ذل��ك بحديثه ع��ن طبيعة ق�ص�صه وفحواها( :حكاياتي الخرافية هي للكبار كما هي لل�صغار في الوقت نف�سه ،فالأطفال يفهمون ال�سطحي منها ،بينما النا�ضجون يتعرفون �إلى مقا�صدها ويدركون فحواها ،ولي�س هناك �إال مقدار من ال�سذاجة فيها� .أما المزاح والدعابة؛ فلي�ست �إال ملح ًا لها) ،مبين ًا خ�صو�صية ر�ؤيته في كتابة هذا ال�شكل الق�ص�صي ،فيما يخ�ص الراوي واللغة والأ�سلوب( :الراوي يجب �أن ي�سمع �صوته
من خالل الأ�سلوب ،واللغة يجب �أن تقترب من ال�شفاهة .الق�ص هو للأطفال ولكن الكبار يجب �أن ي�صيبهم ن�صيب من المتعة �أي�ض ًا). ا�ستطاع �أن��در���س��ن �أن يبني ذل��ك العالم المده�ش ،بما �أوت��ي من طاقة على التخييل، وطاقة على التقاط العجيب والغريب ،من الخرافة والموروث ال�شعبي ،وق�ص�ص الجن والحوريات، �سواء من موروث بلده الدنمارك� ،أو من موروثنا العربي ،كما بين في ق�صته (العنقاء) وت�أثره بق�ص�ص �ألف ليلة وليلة ،بغ�شاوة وا�ضحة وجلية، بقوله( :وتحكي الأ�سطورة ب�أن العنقاء يعي�ش في بالد العرب) ،ثم في مكان �آخر من ذات الق�صة: (يا طير الجنة ،يا من تتجدد كل عام ،تولد في اللهب وتموت في اللهب ،ل�ست �سوى �أ�سطورة طائر العنقاء في بالد العرب). وقد بينت الناقدة والأديبة الإنجليزية (فيا وي��ل��دون) خ�صو�صية ق�ص�ص �أندر�سن ،مبينة ال�سبب الذي جعلها خالدة في ذاكرة الأجيال�( :إن حكايات هانز كري�ستيان �أندر�سن الخيالية ،لي�ست خيالية على الإطالق ..هي ممتعة للغاية لدرجة تمتزج معها بالألم ،وهي تظل تقدم لنا العديد من ال�شخ�صيات القديمة الم�ألوفة ،التي تغذي عقلنا الجماعي الغربي ال�لاواع��ي؛ فالحورية ال�صغيرة الت��زال تعاني ،بينما يتزوج �أميرها المحبوب فتاة غير منا�سبة له .والفتاة ال�صغيرة تجل�س في زوايا �شوارعنا ،والبطة القبيحة �ستفرد جناحيها يوم ًا ما لتطير كالبجع). لذلك ترجمت �أعمال �أندر�سن �إلى �أكثر من ( )150لغة ،لأنها جديرة بالوجدان الإن�ساني، وق���ادرة على �أن تجعل كاتبها ف��ي م�صاف الخالدين من الكتاب العظام ،الذين كان لهم دور في تغيير الوجدان الإن�ساني ،وتر�سيخ القيم الأخالقية في ذات الكبار وال�صغار ،لذلك يرى بع�ضهم �أن مقامه في بلده كمقام المتنبي لدى الأمة العربية.
�أ�صبح عيد ميالده يوم ًا عالمي ًا لك ّتاب �أدب الأطفال
م�ؤ�س�س ق�ص�ص الأطفال بخ�صائ�صها الحديثة وحموالتها الأخالقية والتربوية
بنى عالمه المده�ش بالتخييل واالطالع على الموروث ال�شعبي الإن�ساني
ت�أثر بحكايات والدته وقراءة كتاب (�ألف ليلة وليلة)
من م�ؤلفاته العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
75
مقاالت
�إرن�ست همنجواي
�سو�سن محمد كامل
�إرن�ست ميلر همنجواي (1961-1899م) من �أه� ّ�م روائ� ّ�ي��ي الأدب الكال�سيكي الأمريكي في القرن الع�شرين� ،صحافي ،وروائ ��ي ،كتب معظم �أعماله في الفترة ما بين الع�شرينيات والخم�سينيات من القرن الما�ضي ،وفاز بجائزة نوبل للأدب عام (1954م) عن روايته ال�شهيرة (العجوز والبحر). ولد �إرن�ست همنجواي في (�أوك ب��ارك) في الواليات المتحدة الأمريكية ،ون�ش�أ مع والديه في ٍ �ضاحية من �ضواحي �شيكاغو ،حيث علمه �أبوه �صيد الأ�سماك وحب الحياة في �أح�ضان الطبيعة. غلبت عليه في بداية حياته النظرة الت�شا�ؤمية للعالم ،فكان ميا ًال للعزلة ،وتعر�ض خاللها �إلى كثير من الأحداث والنك�سات والأمرا�ض النف�سية �إلى �أن قرر �أن ينهي حياته ببندقيته التي الزمته حتى �آخر لحظة في حياته (ابتعادنا عن الب�شر ال يعني كره ًا �أو تغيراً ...العزلة وطن ل�ل�أرواح المتعبة) ،وفي فترة الثالثينيات �أم�ضى وقته ف��ي البحث ع��ن المغامرات ،حيث ق��ام ب�صيد الحيوانات في �إفريقيا ،وم�صارعة الثيران في �إ�سبانيا ،و�صيد الأ�سماك في فلوريدا ،و�شارك في الحربين العالميتين الأولى والثانية كمرا�سل �صحافي ،وفي هذه الفترة كتب رواياته (لمن ّ تقرع الأجرا�س) التي ُر ّ�شحت لنيل جائزة بوليتزر، وكذلك (�أن تملك و�أن ال تملك) عام (1937م)، وك��ت��اب (رج ��ال ف��ي ال��ح��رب) ع��ام (1942م)، ورواية (عبر النهر وبين الأ�شجار) التي حازت جائزة بوليتزر للخيال عام (1953م). ا�شتملت �أع��م��ال همنجواي المبكرة على مجموعات من الق�ص�ص الق�صيرة ،مثل (ثالث
76
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
الم�س في رواياته انك�سارات وانت�صارات الوجود الإن�ساني
ق�ص�ص وع�شر ق�صائد) ،وه��ي حكايات تمثل مرحلة �شبابه ،و ُت َع ّد رواية (ال�شم�س ت�شرق �أي�ض ًا) �سبب �شهرة همنجواي المبكرة ،وه��ي ق�صة مجموعة من ال�شباب الأمريكيين والبريطانيين الذين يعي�شون في فرن�سا و�إ�سبانيا بال هدف، يمثلون جيل مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأول��ى ،حيث �أ�صبح همنجواي �أديب ًا مهم ًا في حياة هذا (الجيل ال�ضائع) ح�سب ت�سمية (غرترود) الأديبة الألمانية التي عرفته �إل��ى العديد من عظماء ك ّتاب وفناني الع�صر ،مثل�( :سكوت فتزجرالد ،و�إزرا باوند ،وبابلو بيكا�سو ،وجيم�س جوي�س)� .أما روايته المهمة الثانية فهي (وداع ًا �أيها ال�سالح) )1929م) ،وتتحدث عن حكاية حب في �إيطاليا بين �أمريكي يعمل في الخدمة الإ�سعافية الإيطالية وممر�ضة بريطانية .كتب روايته (الفائز يخرج �صفر اليدين) ،ثم توقف عن الن�شر حتى (1935م) ،لتظهر رواية (روابي �إفريقيا الخ�ضراء) ،وهي عبارة عن رحلة �إلى �إفريقيا ل�صيد الطرائد البرية .كانت هذه ال�سنة عالمة فارقة في �أدب همنجواي ،حيث ن�شر �أي�ض ًا رواية (لمن تقرع الأجرا�س) التي حققت نجاح ًا �ساحق ًا� ،إذ تجاوزت مبيعاتها المليون ن�سخة في ال�سنة الأولى لن�شرها. عك�س �أدب همنجواي تجاربه ال�شخ�صية في الحربين العالميتين الأول��ى والثانية ،والحرب الأهلية الإ�سبانية ،وت��رك ب�صمته على الأدب الأمريكي الكال�سيكي الذي �صار واحداً من �أهم �أعمدته ،حيث بد�أ همنجواي الكتابة با�ستك�شاف مو�ضوعي الي�أ�س والهزيمة وعدم اال�ست�سالم، َ ف�شخ�صياته دائ��م � ًا �أف� ��راد �أب��ط��ال يتحملون
يعد من �أهم روائيي الأدب الأمريكي في القرن الع�شرين
فكرة
الم�صاعب دونما �شكوى �أو �أل��م ،وتعك�س هذه ال�شخ�صيات طبيعة همنجواي ال�شخ�صية� ،إال �أنه يعبر في �أواخر ثالثينيات القرن الع�شرين راح ّ عن وعي اجتماعي و�سيا�سي؛ ففي روايته (�أن تمتلك و�أن ال تمتلك) ،وفي م�سرحيته (الطابور الخام�س)؛ يحتفي همنجواي بما �أظهره ال�شعب الإ�سباني في الحرب الأهلية من كرامة ونبل، ويدين بقوة �صنوف الظلم ،وكان يرى �أن �ضياع الحرية في �أي مكان ينبغي �أن يكون جر�س �إنذار للعالم كله. يعد همنجواي من رواد الأ�سلوب الواقعي الب�سيط ،فقد اعتمد الدقة في الو�صف ،وتتابع الأح ��داث ،وا�ستخدم تقنية (الفال�ش ب��اك) في ا�سترجاع تفا�صيل حياته� ،إ�ضافة �إلى توظيفه المونولوج الداخلي والخارجي في �سرد الأحداث، �أم��ا على م�ستوى اللغة ال�سردية ،فقد انتقل باللغة الأدبية الإنجليزية من التراكيب المعقدة وال��م��ف��ردات ال�صعبة وال��ن��ادرة� ،إل��ى الأل��ف��اظ الب�سيطة والتعبيرات الوا�ضحة ،كذلك تميز �أ�سلوب همنجواي بالعمق في الكتابة والإيجاز في اللغة؛ ف�أ�سلوبه �سهل ُممتنع ُ ،يعبر عن الفكرة بمفردات قليلة ولكنها محملة بمعانٍ غزيرة ،وه��ذا ما ي�ؤكده بقوله( :على الك ّتاب �أن يكتبوا واقفين، وحينها �سيتقنون كتابة الجمل الق�صيرة) ،ما جعل الناقد البريطاني �أنتوني برج�س (1917ــ 1993م) يقول عن ق�صة ال�شيخ والبحر�( :إنه ن�ص ال ُي�ضاهى ،كل كلمة فيه ذات داللة وال يوجد لفظ واحد زائد). اكت�سب همنجواي هذا الأ�سلوب في ال�سرد من عمله ال�صحافي ،الذي يتطلب �أن ينقل الحوادث بنوع من الحيادية في ال�سرد ،وع��دم �إ�ضفاء �أي عاطفة على الخبر ،بطريقة �شفافة مجردة من �أي��ة فكرة م�سبقة ،واالبتعاد عن االلتزام ب�أي موقف اجتماعي �أو �أ�سطوري للغة ،كذلك ا�ستخدم همنجواي تقنية � Ice peakأي (قمة جبل الجليد) التي ابتكرها ،فهو ال يك�شف من الحقائق والم�شاهد �إال جزءاً قلي ًال منها ،ويترك الباقي للقارئ ُليعمل فيه خياله وت�أويله ،وهو ما �أطلق عليه بع�ض النقاد (الإ�شارة ال العبارة، والتلميح ال الت�صريح) ،ولي�ست اللغة الإ�شارية التي ي�ستخدمها همنجواي تقت�صر فقط على ال�شكل ،بل امتدت كذلك �إلى الم�ضمون� ،أي �أنه كان ين�أى بنف�سه عن الأ�سلوب التقريري.
كتب هيمنجواي روايته (العجوز والبحر)، في كوبا في العام (1952م) ،والتي ح�صل من خاللها على جائزة نوبل عام (1954م) ،وتمثل الرواية �صراع الإن�سان مع الحياة و�أهمية ال�صبر والثبات ،والتم�سك ب��الأم��ل والإرادة لتحقيق ما ي�صبو �إليه ،من خ�لال �صياد عجوز يدعى �سانتياغو �سيئ الحظ ،فهو لم ي�صطد �أي �سمكة منذ خم�سة وثمانين ي��وم� ًا ،وبرغم �سوء حظ العجوز ظل متلهف ًا للخروج لل�صيد دائم ًا .كان العجوز يخرج لل�صيد وحيداً بعد �أن تخلى عنه مرافقه ال�شاب� ،إل��ى �أن ا�صطاد �سمكة �ضخمة �سحبت قاربه لمدة يومين وليلتين ،و�أخ��ي��راً قتلها بحربته ،ثم ربطها على طول قاربه ،وبد�أ في رحلة العودة الطويلة ،حيث هاجمته �أ�سماك القر�ش ومزقت ال�سمكة ،وهو يحاول �أن يقاتلها ويبعدها ،فيته�شم مجذافاه وتنك�سر دفة القارب، وحين يعود لير�سو في المرف�أ ،ال يكون قد بقي �شيء من ال�سمكة �سوى ر�أ�سها والهيكل العظمي والذيل .ي�صل العجوز �إلى كوخه منهك القوى، وعندما ر�أى النا�س هيكل ال�سمكة انده�شوا من كبرها وعظمتها ،وبقي ا�سم ال�صياد �سانتياغو مرفوع ًا ومفتخراً به حتى هذا اليوم. ت�صور الرواية ال�صراع بين الإن�سان وقوى الطبيعة ،وتج�سده في بطلها العجوز (�سانتياجو) مع �أ�سماك القر�ش المتوح�شة وال�سمكة الكبيرة الجبارة ف��ي البحر ،كما تظهر ق��وة الإن�سان وت�صميمه وعزمه على نيل �أهدافه والو�صول �إلى ما ي�صبو �إليه ،و�إمكانية انت�صاره على قوى ال�شر والطبيعة ،متمث ًال مقولته ال�شهيرة (الإن�سان يمكن هزيمته ،لكن ال يمكن قهره). ظهرت �شخ�صية همنجواي في ال�سينما في فيلم (منت�صف الليل في باري�س) (2011م)، و�أدى �شخ�صيته الممثل كوري �ستول ،وفي فيلم (همنجواي وغيلهورن) و�أدى �شخ�صيته الممثل كاليف �أوين ،كما حولت روايته (العجوز والبحر) �إلى فيلم �سينمائي عام (1958م) يحمل اال�سم نف�سه ،والفيلم للمخرج الأمريكي جون �ستورج�س، و�شارك في بطولته الممثالن الأمريكيان �سبن�سر ترا�سي ،وهاري بيالفر .وفي العام (1990م)، قدمت الرواية في فيلم تلفزيوني بطولة الفنان العالمي �أنطوني كوين و�إخ ��راج ج��ود تايلور، و�شارك في بطولته الممثالن جاري كول ،وجو �سانتو�س.
بد�أ م�شروعه الأدبي بكتابة الق�صة الق�صيرة
عك�س �أدبه تجاربه ال�شخ�صية بين الحربين العالميتين
ينتمى �إلى التيار الواقعي وب�أ�سلوب عميق الدالالت
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
77
ا�ستلهمت من التاريخ خطوطها العري�ضة
رواية «الأزبكية» للكاتب نا�صر عراق من الظواهر الالفتة في الآون��ة الأخ��ي��رة كثرة اتجاه ال���رواي���ات الحديثة �إل���ى ال��ت��اري��خ ،ال���ذي ي��وف��ر هيكل ال���رواي���ة وم��ج��رى الأح������داث وال��خ��ل��ف��ي��ة ال��م��ك��ان��ي��ة، وال��ك��ث��ي��ر م��م��ا ت��ح��ت��اج �إل���ي���ه رواي�����ة ت����روم االك��ت��م��ال الفني ،ك��ل خ��ام��ات العمل م��ت��واف��رة ف��ي ه��ذه الحالة، �أديب ح�سن ويقت�صر دور الروائي على حبك حكاية متخيلة لعدة �شخو�ص ،يتحركون �ضمن �سياق التاريخ ل�شخو�ص و�أح��داث جرت بالفعل.
الأمر ال يعني اال�ست�سهال بالطبع ،ففي هذه الحالة يجب على الروائي ،قراءة الكثير من المراجع التاريخية والأدب��ي��ات ،التي تر�صد الفترة التي اختار لروايته زمنها، وه��ي مغامرة محفوفة باحتماالت النجاح والف�شل ،اختار الروائي الم�صري نا�صر ع��راق خو�ض غمارها في روايته (الأزب��ك��ي��ة) التي �أخ��ذت عنوانها من حي الأزبكية في القاهرة الذي كان مقر العديد من الحكام والجنراالت والبا�شاوات ،الذين تعاقبوا على حكم م�صر ،خالل فترة حرجة متقلبة من تاريخها. تمتد �أحداث الرواية على مدار �سنوات �سبع ما بين ( 1798و1805م) ،بداية من الحملة الفرن�سية بقيادة نابليون بونابرت، وانتهاء بتولي محمد علي با�شا ،مقاليد حكم م�صر. ال�شخ�صية المحورية في الرواية �شاب م�صري ،هو �أي��وب ال�سبع ،ال��ذي يعمل في مهنة ن�سخ الكتب التي تعطيه مقداراً من الوعي الب�سيط مغلف ًا بقوقعة ال منا�ص منها م��ن الأف��ك��ار التقليدية المتوارثة، ال �سيما الدينية منها ،لكن وعيه ين�ضج تدريجي ًا عندما يتعرف �إلى (�شارل) الر�سام 78
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
قراءة الفرن�سي العا�شق لم�صر والمت�شبع ب�أفكار الثورة الفرن�سية كونه �أحد الم�شاركين بها ،يبد�أ �أيوب بت�شكيل ع�صبة من ال�شباب المقربين منه تهدف في البداية �إلى طرد المحتل الفرن�سي لمجرد كون الفرن�سيين من دين �آخر بينما ال يرون م�شكلة في حكم المماليك �أو العثمانيين، ومع تطور الأحداث يتحول غر�ض الع�صبة �إلى محاربة كل وجود �أجنبي طامع ،وال�سعي �إلى المطالبة بتولي �شخ�صية م�صرية حكم البلد، بعد �أن انك�شفت نوايا العثمانيين و�أتباعهم الذين يحتمون ب�ستار الدين لتغطية المظالم والويالت التي جروها على ال�شعب الم�سكين. يلعب خيال الكاتب و�أ�سلوبه الر�شيق دوراً كبيراً في خلق العديد من ب�ؤر الأح��داث التي تن�سجم مع الفترة التاريخية تلك ،من دون �أن تكون حوادث حقيقية؛ فالرواية غير الت�أريخ و�إن ا�ستلهمت منه الخطوط العري�ضة التي تطرح تحت ظلها مقوالتها التي يبدو الكاتب متحم�س ًا ب�شدة لبع�ضها من خالل الحوارات المنعقدة بين بع�ض ال�شخو�ص ،ومنها فكرة (الدين هلل والوطن للجميع) ،ويعبر من خاللها عن خطر الأفكار المتطرفة الهدامة التي يغذيها التجهيل الممنهج والأمية. ثمة ح�ضور الف��ت للمر�أة في كل ف�صول الرواية؛ المر�أة ال�شرقية الم�صرية �أو المملوكية المت�أرجحة بين �صورتين :الم�سحوقة المجردة م��ن ك��ل الحقوق والخا�ضعة ل�سلطة الرجل المطلقة ،والغنية المترفة الباحثة عن اللذات في كل حدب و�صوب ،وال��م��ر�أة الغربية التي ال يخفي الكاتب �إعجابه ب�أفكارها المتنورة
وحبها للفن وللحياة ،وثقتها الكبيرة بقدرتها على التميز في كل المجاالت. وال يغفل الكاتب في خلفية الرواية عن االهتمام بالمكان ور�صد نب�ضه وتفا�صيله وت�أثيره في النا�س ،فالرواية تقدم لنا �صورة موحية للقاهرة في تلك الأيام ،وهناك تناغم متقن وتوا�شج وثيق بين الأمكنة وال�شخو�ص والأحداث ،بحيث يبدع الكاتب في حياكة لوحة فنية ناب�ضة متكاملة ،تنقل لنا الم�شهد حي ًا ناب�ض ًا كما لو �أننا نر�صده بحوا�سنا ،وهذا مما ي�سجل للروائي ابن المكان القاهري ،والأمين على خ�صو�صيته وتفرده. رواية ترجع للتاريخ ..ت�ستفيد منه وتتكئ عليه ،لكنها بالمقابل تبدع حكاياتها وتطرح مقوالتها ،ال��ت��ي ت�صلح بكل ت�أكيد للزمن المعا�صر ،وتعيد ر�صد م�شاكل وعلل المجتمع كخطوة في طريق الإ�صالح الطويل.
نابليون
محمد علي با�شا
حديقة الأزبكية في القاهرة
رواية ترجع للتاريخ دون �أن يكون �أ�شخا�صها وحوادثها حقيقيين
نجح نا�صر عراق في حبك حكاية متخيلة لعدة �أ�شخا�ص �ضمن ال�سياق التاريخي (١٨٠٥-١٧٩٨م)
لم يغفل الكاتب عن االهتمام بالمكان وتفا�صيله فقدم �صورة حية لحي الأزبكية والقاهرة
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
79
مقاالت
الـحــداثـة ال�شـعـريــة
والوعي المعرفي
غ�سان كامل ونو�س ال ن�ضيف جديداً ،وال نعطي المو�ضوع ح ّقه ،حين نقولّ � :إن الحداثة ،تتط ّلب وعي ًا معرفي ًا ،ال يتو ّقف على الثقافة وحدها؛ بل ّ إن�ساني؛ ل ا الن�شاط مجاالت بمختلف �صل ي ّت ّ نوعية الت�أ ّثر يت�أ ّثر بها ،وي�ؤ ّثر فيها ،وتختلف ّ والت�أثير ،ون�سبة ك ّل منهما ،ح�سب المكان والمتغيرات والزمان والعنا�صر والوقائع ّ واالخ��ت��راق��ات وال ��ظ ��روف وال��م��م��ار���س��ات؛ يتبدى ذلك في �أ�شخا�ص ًا وو�سائل ،و�أ�ساليبّ .. النظر والمحاكمة والحركة والمنعك�س �إزاء ما كان ،ويكون ،ويمكن �أن يكون. العالميتان الأولى و�إذا ما كانت الحربان ّ أوروبا والعالم، والثانية ،قد �أ ّثرا بفظائعهما في � ّ و�أ�سهما؛ ب�شكل �أو ب�آخر ،في بروز بع�ض معالم الحداثة ،وما بعد الحداثة ،وم�ساراتها هناك، العربي المعا�صر ،وللأ�سف ،ما ف� ّإن في واقعنا ّ ال ي�ستهان به من �أحداث ج�سيمة ،يفتر�ض �أن يكون لها ت�أثير ي�شابه� ،أو يختلف؛ بيد � ّأن الأمر هناك ت�أ ّثر �أي�ض ًا باالختراقات في مختلف واالقت�صادية العلمية �ش�ؤون الحياة والكون ّ ّ والتقنية ..وه��ذا، واالجتماعية والنف�سية ّ ّ ّ للأ�سف �أي�ض ًا ،ما نفتقده لدينا الآن ،وفي الما�ضي غير البعيد (وللأ�سف �أي�ض ًا و�أي�ض ًا؛ ف� ّإن الموهوبين والمبدعين العرب ،ينجزون بتميز في مجتمعات �أخرى!)؛ ما يترك مجا ًال ّ التردد والبطء واال�ضطراب في م�سار لتف�سير ّ المتنوعة، وتمظهراتها ة العربي الحداثة ّ ّ وتل ّقيها؛ مع اختالف ن�سبة ذلك بين مجال وحيز و�آخر. و�آخرّ ، �شك في � ّأن الأدب ،والثقافة عموم ًا، وال ّ م��ي��دان م��ه� ّ�م لتخوي�ض مثل ه��ذا ال��ح��راك، وظهور �آثاره ومالمحه وتج ّلياته ،وال�شعر من أدبية تفاع ًال مع المتل ّقين؛ �أبرز الأجنا�س ال ّ الن�ص يحتاج أن � البدهي قديم ًا وحديث ًا .ومن ّ ّ
80
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
ن�ص �أدب� ّ�ي �آخ��ر� ،إل��ى حامل، ّ ال�شعري ،و� ّأي ّ (مجلت �أو ة أدبي ل ا ات والدوري مثل الكتب، ّ ّ ّ الدوريات الثقافية في �صحف) ،وال�صفحات ّ ّ المتخ�ص�صة، أدبية المنوعة ،والم�سابقات ال ّ ّ ّ ومنبر الإل��ق��اء ف��ي مكان ع��ام �أو خا�ص، والبث الإذاعي والتلفزيوني، والمهرجانات، ّ ال��ذي دخ��ل ك� ّل بيت ،وال�شبكة العنكبوتية إلكتروني) ،التي باتت ت�شاغل ك ّل (الف�ضاء ال ّ �شخ�ص ،وفي ك ّل حين .وقد يرافق هذا �أو ذاك �أو يتبعه نقد� ،أو حوار مفتوح �أو مغلق ،حول ما ُن�شر� ،أو ُب ّث� ،أو ُقرئ ،وقد يفتقد مثل هذا، �سره، ويترك �أمر التل ّقي للمتل ّقي نف�سه ،في ّ الخا�صة ،وفي ردوده المكتوبة؛ وفي لقاءاته ّ أحب التفاعل العلني. �إن � ّ وربما معاناة ويمكن القول بعد معاي�شة ّ مبا�شرة وغير مبا�شرة ،م�س�ؤولة وم�ستق ّلة، ن�سجل فاعلة ومتفاعلة ،منذ عقود ،يمكن �أن ّ بع�ض المالحظات؛ التي ت��ب� ّ�دت ،وتكاد ال المهتم بالأدب والثقافة تخفى ،على المتابع ّ والحداثة والإن�سان والكون: ال�شعرية ة العربي الحداثية •� ّإن التجارب ّ ّ ّ ال�شعرية لي�ست واحدة، العربية ،وغير وغير ّ ّ وقد تتجاور ،وتتوافق ،وتختلف ،وتتنافر �أكثر ،لدينا؛ وهذا ما يتيح المجال رحب ًا لمن ينفتح على الحداثة ،في �أن يم�ضي في خطاه؛ ولمن ينغلق عنها� ،أن تكون له م�سوغاته في االنف�ضا�ض عنها. ّ •الي��زال (جمهور) متل ّقي ال�شعر الحديث، تردداته المعجبين به ،ي�ش ّكلون ق ّلة ،ولهذا ّ المب�شرة ،وغير المريحة ،في ما يتع ّلق غير ّ بالذائقة ،والقبول ،واال�ست�ساغة ،والمنطق العام. •� ّإن للنماذج غير النا�ضجة م��ن ال�شعر الحديث ولن�سبتها المرتفعة في ما يقال �سلبي ًا في هذا ال�شعر وين�شر ويبث ،ت�أثيراً ّ ّ أدبية برمتها؛ ال ّ والموقف منه ،وفي الحداثة ّ المع ِّكر أث��ر ل وغير الأدب� ّ�ي��ة؛ وهنا يبرز ا ُ �سيما للحداثة، للم�شهد برمته؛ وال ّ الثقافي ّ ّ
يدعيها كثيرونِ ،لما ين�شر عبر ال�شبكة التي ّ العنكبوتية ،ب��غ��زارة وا�ست�سهال و�سرعة بالعام ّية ،موزون ًا وانفعال ،بالف�صيحة �أو ّ �أو منثوراً �أو متر ّنح ًا بينهما ،من دون مزين ًا ب�سيل الإعجابات � ّأي تقويم ج� ّ �ادَّ ، ومتوج ًا بالجوائز و�سال�سل عبارات المديحّ ، وال�شهادات والألقاب ،وتتفاقم هذه الظاهرة مع الأزمات المع ّقدة والم ّت�صلة؛ ومنها �أزمة وتتحول الكتب الورقي التي ت�ست�شري، الن�شر ّ ّ إلكتروني ل ا الن�شر إلى � راد باط ات والدوري ّ ّ ّ الم�س�ؤول وغير الم�س�ؤول. •ما �شهدته المنطقة في ال�سنوات الأخيرة فاعلية �سيما ّ من �أحداث وا�ضطرابات ،وال ّ المتطرفة ،وقدرتها على الت�أثير الأفكار ّ المبا�شر وغير المبا�شر في النا�س ،ومنهم حقيقية مث ّقفون؛ ي�شير �إلى � ّأن هناك م�شكلة ّ المجتمعي، الجمعي ،واالنتماء في الوعي ّ ّ والمواطنة؛ ما ينبغي التفكير في �أ�سباب داخلي ًا؛ من دون االقت�صار ما و�صلنا �إليه، ّ على الأ���س��ب��اب ال��خ��ارج� ّ�ي��ة ،واالع��ت��راف الثقافية في الثقافية وغير بم�س�ؤولياتنا ّ ّ هذا. التطرف في ا ّتباع الحداثة� ،أو في الحفاظ •� ّإن ّ التقليدي ،ال يختلفان؛ �أحدهما عن على ّ �سلبية وتنفيراً (للجمهور) ،وي�شتركان الآخرّ ، الحالي. الواقع عن ة ؤولي في الم�س� ّ ّ �شك في � ّأن للأ�سلوب ،ال��ذي ُيعر�ض به •ال ّ مهم ًا في متابعته؛ ّ الن�ص للمتل ّقي� ،أث��راً ّ �سواء �أكان هذا من قبل ال�شخ�ص نف�سه� ،أو يقدمه بالنيابة عنه ،و� ّإن م�س�ألة ال�صوت من ّ والحيوية ،والتعالي واالنبتات والنبرة ّ والنظرة اال ّتهامية ..ك ّلها ت�ؤ ّثر في درجة التل ّقي ،وال��ت��ق��ارب ،وال��ت��وا���ص��ل م��ع هذا المهم من الوعي. المنحى ّ •الت��زال ثقافة الحوار والتعامل المحترم مع الر�أي الآخر المحترم ،غائبة �أو عاجزة وفاعلية، وجد ّية، ؤوليةّ ، ّ عن �أن ت�سود بم�س� ّ وانفتاح ،وجدوى ،واليزال التب ّني المنغلق
�أقالم
للأفكار هو الذي ي�سود؛ ما يدعو ،في �أحيان توجه ذات� ّ�ي� ،إلى كثيرة ،بتوجيه خارجي �أو ّ ّ الأ�سلم؛ وهو عدم �إف�ساح المجال ل ّأي حوار ممكن. مهم و�أ�سا�س ل�صاحب المنبر� ،أو •هناك دور ّ الثقافي فيه ،في تعميم ؤول س� رئي�سه� ،أو الم� ّ المعرفة ،وفتح الآف��اق ،وتر�سيخ الحداثة� ،أو للتقليدية� ،أو �إتاحة التفاعل والتوا�صل الترويج ّ بين مختلف الأطراف والأفكار والأ�شكال؛ من التع�صب لأحد �أو فكرة ،ويمكن له �أن يجعل دون ّ الحادة� ،أو للمواجهة ا م متقد ا خط منبره من ً ً ّ ّ ّ يبتعد عن الم�شكالت والمخاطر ،ويكون الموئل لديه هادئ ًا من�ساق ًا مع الأقوى والأكثر ح�ضوراً مهتم ًا بما ال يتيح ت�أوي ًال ،وال يثير وهيمنة� ،أو ّ �أ�سئلة وت�سا�ؤالت ،وال م�ساءلة ،وال ي ّتخذ موقف ًا؛ فيبدو الم�شهد لديه بال لون �أو طعم �أو رائحة! •من الم�ؤ�سي ح ّق ًا ،وبعد عقود من التعامل في الثقافي ،مع الحداثة والتقليد� ،أن تعود الو�سط ّ البدئي ،في التعامل أو � ، البدهي إلى � أ�سئلة بك ال ّ ّ الفكري، أدبية� ،أو مع منحاها ّ مع الأجنا�س ال ّ وم�شروعيتها ،وجدواها؛ مثل :لماذا الحداثة؟! ّ ولماذا ال�شعر الحديث؟! ومن �أنا�س لي�سوا من الثقافية؛ في العامة الجاهلة؛ بمعنى ال ّأم ّية ّ ّ الوقت ال��ذي تجاوز العالم ذل��ك نقداً وق��و ًال وفع ًال؛ و�صو ًال �إلى ما بعد الحداثة ،وما بعد بعد منطقية هذا �أو ذاك� ،أو الحداثة؛ من دون اعتماد ّ الثقافي الم�شروع في الوهن نفيها! وهذا ي� ّؤكد ّ لدينا ،والت�ش ّتت والحيرة وال�ضياع في الحا�ضر والفردي؛ ولهذا �أ�سبابه ،التي الجمعي الثقافي ّ ّ ّ االدعاء دون من بع�ضها؛ على ج، ونعر ّ عرجناّ ، ّ ب�أ ّننا نكاد نح�صرها. الحداثي القراءة م� ّ�رات ،وهذا الن�ص •يتط ّلب ّ ّ ما يتيحه المن�شور من الن�صو�ص؛ � ّأما ما هو م�سموع ،فمن الع�سير م�سايرته ،واالنفعال الجاد في ف�ضائه معه ،وقد يطوف الم�ستمع ّ لكن من المتع ّذر على نفر العام �أو الخا�ص؛ ّ ّ تقري التفا�صيل ،والروابط والعالئق غير قليل ّ بين ال��م��ف��ردات وال�صياغات؛ وقليلون من يجيدون جذب المتل ّقي ب�أ�صواتهم ونبراتهم، وهذه موهبة الإلقاء ،التي تع ّز على كثيرين؛ ما ي�ستدعي اختياراً منا�سب ًا للن�صو�ص ،التي �ستقدم قراءة من على منبر. َّ الملقي والمتل ّقي، بين المبا�شر التوا�صل •� ّإن ُ
حيوي ًا ،وي�سمح ل�ل� ّأول �أن يعاين الجو يجعل ّ ّ ردود الأف��ع��ال المبا�شرة وغير المبا�شرة، وم�ستوى ال��ت��ج��اوب �أو ن�سبته ،وق��د يت�أ ّثر ب�شخ�صيته ب��ه الم�ستمع المبا�شر ،ويقتنع ّ المعرفي فتتي�سر �سبل التوا�صل ومنطقه، ّ ّ إن�ساني بينهما ،وبينه -الثاني -وبين وال ّ المنحى والم�ستوى والعنا�صر؛ كما قد يت�أ ّثر ويتنبه لبع�ض �صاحب الن�صو�ص بالمتل ّقي، ّ مالحظاته ،وقد يحدث العك�س �أي�ض ًا؛ ما يثير تنافراً واخت�صام ًا وافتراق ًا مع ال�شخ�ص وما يم ّثل ،وما يدعو �إليه. الفعاليات الحظ غياب مقلق للجيل ال�شاب عن • ُي َ ّ الثقافية المبا�شرة ،وتكاد تكون الن�سبة الغالبة ّ ال�سن المتقاعدين؛ كبار من الحا�ضرين من ّ المهمة أهم ّية ان�شغال ه��ذه ال�شريحة ّ وم��ع � ّ بالثقافة؛ بد ًال من ت�سليات �أخرى؛ ف� ّإن الثقافة �روري��ة للجيل ،ال��ذي يفتر�ض �أن يت�سلم ���ض� ّ زمام �ش�ؤون الآت��ي؛ (�إن لم نحل بينهم وبين ذل��ك؛ بال�سنن والقواعد والقوانين والأع��راف والتقاليد والكرامات وتبجيل القديم ال�ساري!)، بد منها ،ومن التعامل معها وبوا�سطتها، وال ّ مع مختلف المفا�صل والأع�ضاء ،والمتوارث ؤوليات و�أعباء. ّ مهمات وم�س� ّ والم�ستجد من ّ الحداثي يحتاج �إلى عقل الن�ص أن � في �شك •ال ّ ّ ّ ّ بد من و�سيط منفتحّ ، وتلق واع؛ وال ب�أ�س؛ بل ال ّ فك الم�ستغلق ،وتقريب الم�ستبعد، قادر على ّ يتطرف وال ينحاز، ال الذي النقد، مهمة وهذه ّ ّ تيار ،والت��زال هذه الحلقة لأح��د �أو فكرة �أو ّ مما ُيفتر�ض؛ ومن الم�شكالت التي تواجه �أوهى ّ والمهتم� ،أن يجد لغة النقد من المتابع المتل ّقي ّ وربما �أ�صعب! الن�صّ ، لغة ّ الحظ ،في الآونة الأخيرة ،ظاهرة تحتاج �إلى • ُت َ متابعة ودرا�سة؛ وهي انت�شار ال�شعر المكتوب المحكية على مختلف منابر باللهجات ّ ردة فعل على هي فهل والقراءة؛ والبث الن�شر ّ ّ الواقع الم�ضطرب ،والمحت�شد بالمتدافعين �إل��ى الو�صول �إل��ى الحاجات ،العاجزين عن تف�سير ما يجري ،و�ضياع القناعة واليقين بما عفوية كان ،وما هو بديل؟! وهل هذه م�سايرة ّ العاطفية؛ بد ًال من �صرف الغرائزية لالنفعاالت ّ ّ الجهد والوقت والطاقة( ،التي تكاد تنفد ك ّلها!) حداثي، ن�ص التمعن المديد في ّ المتب�صر في ّ ّ ّ واللهاث خلف ظالله و�أطيافه؟!
الحداثة ال تتوقف على الثقافة وحدها بل تت�صل بمختلف مجاالت الن�شاط الإن�ساني
الحربان العالميتان الأولى والثانية �أ�سهمتا في بروز معالم الحداثة
لدى الحداثة العربية تمظهراتها المتنوعة برغم التردد والبطء في م�سارها
تبقى الثقافة والأدب من �أهم الميادين التي تتحرك فيهما الحداثة
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
81
فقد احتل محمد العيد مكانة مرموقة �شخ�صية متميزة في ال�شعر الجزائري بغزارة �إنتاجه وتنوعه و�صدقه في فنه وم�����ش��اع��ره .وق��ل��م��ا ي��وج��د ���ش��اع��ر مثقف عا�ش هذه الفترة الزمنية الطويلة الحافلة ب��الأح��داث والمواقف ،كتلك التي عا�شها �شاعر مثل محمد العيد ،ال��ذي ملأ �صيته رب��وع ال��وط��ن ال��ع��رب��ي ،ب�أ�سلوبه الراقي و�أحا�سي�سه المختلفة ومو�ضوعاته الجديدة الجزائر ك�سائر الأم��م العريقة في المجد والح�ضارة، الجريئة .وظهر ال�شاعر محمد العيد مع كوكبة من ال�شعراء في الجزائر على �إثر لها ت���راث علمي وث��ق��اف��ي� ..صنع ه��ذا ال��ت��راث �أدب���اء ال��ح��رب العالمية الأول���ى ،وارت��ب��ط ا�سمه وعلماء و���ش��ع��راء ،بقوا خالدين ب�أعمالهم .وم��ن بين بالنه�ضة الإ�صالحية والتجديدية ،ممثلة ه�����ؤالء ال��ذي��ن ك���ان ل��ه��م ال����دور الكبير ف��ي ب��ن��اء ه��ذا في جمعية العلماء بقيادة عبدالحميد بن التراث وال�صرح الكبير في نظم ال�شعر ،ال�شاعر محمد بادي�س ،ولذلك برز ا�سمه وامتد �صيته. د .هانئ محمد ال��ع��ي��د (م��ح��م��د ال��ع��ي��د ب��ن م��ح��م��د ع��ل��ي ب��ن خليفة)، ولد ال�شاعر محمد العيد في مدينة عين ال�����ذي ك���ان���ت ل���ه ال�����ش��خ�����ص��ي��ة ال��م��ت��م��ي��زة ف���ي ال�����ش��ع��ر ال���ج���زائ���ري .البي�ضاء عام (1904م) ،وفيها ن�ش�أ ،وتلقى درو�سه االبتدائية بمدر�ستها .وكان للأ�سرة التي ن�ش�أ فيها ،ف�ضل كبير فيما حققه من �إب��داع �أدب��ي وثقافي وفكري ،فكانت �أول منبع لثقافته ،فقد �أخذ منها الكثير؛ كحب الوطن وحب العقيدة والقيام بتعاليمها، وك��ذا محبة الأخ�ل�اق ال�سامية والتحلي بها ،فكان ابن بيته ،وقد جمع في تكوينه الفكري ما بين مبادئ الإ�صالح والنزعات الدينية وال�صوفية .وبعد ذل��ك انتقل مع �أ�سرته �إلى (ب�سكرة) على �أبواب ال�صحراء عام (1918م) ،ودر�س فيها على بع�ض ال�شيوخ الكبار مثل :الجنيد �أحمد مكي ،وعلي بن �إبراهيم العقبي .وفي عام (1921م) �سافر �إلى تون�س ،حيث تتلمذ لمدة عامين بجامع الزيتونة ،وو�صف جامعة الزيتونة بالأبوة. و�شارك في حركة االنبعاث الفكري بالتعليم والن�شر في ال�صحف والمجالت ،مثل (�صدى البلد -المنتقد -ال�شهاب -الإ���ص�لاح- والب�صائر) .وفي عام (1927م) تمت دعوته للذهاب �إل��ى العا�صمة الجزائرية ليعمل مدر�س ًا بالمدار�س الوطنية .وكان له دور مهم ،و�إ�سهام كبير في النه�ضة الفكرية وال�صحافية في الجزائر ،و�شارك في ت�أ�سي�س جمعية العلماء الم�سلمين الجزائريين. ويعد ال�شاعر محمد العيد م��ن رواد ال�شعر العربي الحديث ،وق��د �أطلق عليه �أدب��اء الجزائر لقب �أمير �شعراء الجزائر، و�شاعر القرن الع�شرين .كما لقبه الب�شير الإبراهيمي بـ(�شاعر ال�شباب� ،شاعر الجزائر
محمد العيد �شاعر النه�ضة
82
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
تنوير ال��ف��ت��اة� ،شاعر ال�شمال الإف��ري��ق��ي ،و�شاعر �شعره النه�ضة) ويقول فيه( :من الذين رافق ُ النه�ض َة الجزائري َة في جميع مراحلها ،وفى كل نواحيها ،وفى كل طور من �أطوارها ،وفى كل �أثر من �آثارها .وكان ال�شاعر يدافع في �شعره عن الوطن والعروبة والإ���س�لام والإن�سانية، فكان �سج ًال �أمين ًا لأح ��داث الوطن ال�صغير والكبير على ال�سواء ،ومعبراً عن �آم��ال الأمة و�آالمها) .كما لقبه �شكيب �أر�سالن بـ(البهاء زهير) ،ويقول فيه( :ي�صح �أن يمثل البهاء زهيراً َ في �سال�سة نظمه وخفة روحه ودقة �شعوره وجودة �سبكه.).. وكان ال�شاعر محمد العيد جديراً بكل ما نال من �ألقاب تدل على ر�سوخ القدم في ميدان ال�شعر .وخير دليل على �صحة هذه الأو�صاف؛ تلك الحياة ال�صاخبة التي عا�شها ،وكانت ناب�ضة بال�شعر والجهاد الفكري ،والتي ترجم معظمها تراثه ال�شعري المبثوث في ديوانه ال��ذي حوى مئتي ن�ص �شعري �أغلبه ق�صائد طوال ،كان فيها محمد العيد من �أقوى ال�شعراء الجزائريين ،تمثي ًال لل�شعر العربي ال�صميم في �صياغته ونظمه. وتميز ال�شاعر محمد العيد ،ب�أنه كان من �أكثر ال�شعراء ا�ستح�ضاراً لما�ضي الأمة الزاهر، فقد فتح عينيه في ثالثينيات القرن الما�ضي على و�ضع بالده و�أمته ،فوجد حا�ضرها م�ؤلم ًا: �أر�ض م�سلوبة� ،شعب م�ضطهد �إرادته م�شلولة.. وحين نظر �إلى ما�ضي �أمته ،وجد �أمة من �أقوى و�أع��رق الأم��م ،ف�سعى �إل��ى توظيف �شعره في �سبيل خدمة وطنه و�شعبه ،لأنه يرى �أن ال�شعر من �أدوات التغيير في مجتمعه ،وعلى هذا يقف محمد العيد ك�شاعر ملتزم �إلى جانب مواطنيه وين�شد معهم �ألحان التحرر ويعلمهم �أغاني التفكر والتعلم ،ويتلو لهم ن�شيد ال�سرور والوحدة الإن�سانية .وينطلق محمد العيد في �شعره من �أرب��ع كليات هي :الوطن والعروبة والإ�سالم والإن�سانية ،فكان �سج ًال �أمين ًا لأحداث الوطن.
الب�شير الإبراهيمي
عبدالحميد بن بادي�س
جامع الزيتونة في تون�س
واالنتماء للعروبة لدى ال�شاعر محمد العيد جزء �أ�سا�سي من االنتماء الأ�شمل للأمة الإ�سالمية، كما يرى � ْأن ال عروبة بال �إ�سالم ،وهو انتماء �أبدى طموح ًا في نف�س ال�شاعر �إلى وحدة ر�شيدة تكون م�صدر المنعة والقوة والغلبة في النهاية. ودعا �إلى الوحدة العربية التي تجمع العرب جنب ًا �إلى جنب. ومن الآث��ار الأدبية الباقية التي تركها ال�شاعر محمد العيد ،كذخيرة للأجيال ،ديوان ي�ضم بين دفتيه �أغرا�ض ًا �شعرية مختلفة ،منها: (�أدب��ي��ات وفل�سفيات� ،إ�سالميات وقوميات، �أخالقيات وحكميات اللزوميات ،ثوريات، المراثي ،ذكريات ،متفرقات ،الألغاز ،الأنا�شيد، اعتراف بجميل) .وله �آث��ار في الم�سرح ،مثل م�سرحية بالل بن رب��اح .لكن هناك ق�صائد لل�شاعر محمد العيد ،لم تن�شر بعد ،قام بجمعها �أحد تالميذه (محمد بن �سمينة) من ال�صحف الوطنية القديمة ،ومن الن�سخة المخطوطة من دي��وان ال�شاعر ،ومن �أ�سرته ومعارفه ،وهي بذلك تكملة وا�ستدراك للديوان ،ون�شرها في كتاب و�سمه بـ(العيديات المجهولة). وقد ات�سم �شعره ب�سمتين �أ�سا�سيتين؛ الأولى: المعاني الروحية الدينية .والثانية :العواطف ال��وج��دان��ي��ة وال��ذات��ي��ة .تطلع ال�شاعر محمد العيد ،منذ نفحته ال�شعرية �إل��ى العمل الذي يحرر ال�شعب الجزائري من قيود اال�ستعمار ويحفظ عليه لغته ودينه ،وي��رد عنه عادية الظلم واال�ستبداد .كما ارتبط �شعره بالأحداث التاريخية واالجتماعية في وطنه ،وبالأعالم الذين تقدموا ال�صفوف .وقد دافع عن التراث ال��ع��رب��ي الإ���س�لام��ي وال��ق��وم��ي ف��ي ال��ج��زائ��ر، وعار�ض فكرة االندماج والتب�شير ،ومحاوالت تهمي�ش الثقافة العربية واللغة العربية .وعرف بطول النف�س ووحدة المو�ضوع في الق�صيدة، ووحدة القافية.
من دواوينه
احتل مكانة مرموقة لغزارة �إنتاجه وتنوعه و�صدقه
ارتبط ا�سمه بالنه�ضة الإ�صالحية والتجديدية المت�صلة بجمعية العلماء
�أطلق عليه الأدباء لقب �أمير �شعراء الجزائر و�شاعر ال�شباب
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
محمد العيد
83
مقاالت
عالقة وطيدة مع الق�صيدة العربية
الق�صيدة الإفريقية
التـحــديــد والـتـقـــارب
د .يحيى عمارة يلتقي ال��ق��ارئ العالمي ال��ي��وم ب ��الأدب الإفريقي كثيراً ويتحدث عنه من خالل فن ال��رواي��ة ،ون����ادراً م��ا يلتفت �إل ��ى الق�صيدة الإفريقية ،غير منتبه �إل��ى عوالمها الباذخة التي توحي معرفي ًا وجمالي ًا �إلى الكون ال�شعري الإفريقي المعلن عن قيمة بنيات الن�ص الداللية والجمالية عبر الإ�شكاليات اال�صطالحية، واالنتماءات الأدبية ،والمواقع الجغرافية التي تجعل القارئ يبحث لها عن تحديد م�صطلح نقدي ،وانتماء �أدبي ،وموقع جغرافي؛ لت�أخذ مكانتها بجوار �شقيقاتها الق�صيدة العربية والق�صيدة الأوروب��ي��ة وباقي ق�صائد العالم. بحيث تزخر هي الأخ��رى بق�ضايا �إن�سانية عميقة وبجماليات فنية عالية ُتو ِلجها العالمية دون هوادة �أو ت�شكيك. من هنا ،ارت�أينا �أن نحدد م�صطلح الق�صيدة الإفريقية ،ونترك كل الم�صطلحات النقدية المتداولة في الم�شهد النقدي المهتم بالأدب الإفريقي مثل ق�صيدة (الزنوجة)� ،أو (ق�صيدة ال�سود)� ،أو (ق�صيدة �إفريقيا ال�سوداء) �إلى غير ذل��ك من الم�صطلحات التي لم تعد تنا�سب النقد الجديد ،ال��ذي ال يقف عند المحددات النظرية القديمة التي ر�سختها ثقافة الده�شة الأول��ى لدى �أدب��اء �إفريقيا �إزاء تعرفهم الأول �إل��ى الثقافات الأجنبية خا�صة ال�شعرية� ،أو ثقافة المقاومة الوطنية عرقي ًا لمواجهة كل �أ�شكال العن�صرية التي كان يعانيها الإن�سان الم ْ�س َت ْفرق الإفريقي منذ ع�صور َخ َلت� ،أو درا�سة ُ (المق�صود ب��ه الباحث الغربي ال��ذي يهتم بالثقافة الإفريقية) ،والذي كان له دور معرفي غريب في ن�شر م�صطلحات و�أفكار مغلوطة ال تتالءم مع ثقافة االعتراف بالآخر على الرغم 84
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
من االختالف معه .وهذه نقطة جوهرية تتميز بها الثقافة العربية والإفريقية منذ القديم و�إلى الآن ،بحيث كان الأدباء العرب القدامى يهتمون ب��الأدب الغربي ويت�أثرون به ويعترفون به، وي َع ُّد الع�صر العبا�سي �أوج الع�صور العربية ُ على ه��ذه الخا�صية؛ وكذلك �أدب ��اء �إفريقيا وبالأخ�ص ال�شعراء الرواد ،وعلى ر�أ�سهم ال�شاعر ال�سنغالي ليوبولد �سيدار �سنغور الذي قال في تحديده (للزنوجة) م�ؤكدا فكرة االنفتاح على العالم دون مراعاة لأي �شيء �سوى الإب��داع الإن�����س��ان��ي (:همنا الوحيد �أن ننه�ض بهذه (الزنوجة) ،ونحن نحياها ،و�أن نعمق معناها- بعد �أن نكون قد ع�شناها -لتقديمها للعالم، كحجر الزاوية في بناء الح�ضارة الكونية ،التي �ستكون عم ًال م�شترك ًا لكل الأجنا�س ،ولكل الح�ضارات المختلفة� ،أو ال تكون .كما ورد في كتاب (في ال�شعر الإفريقي المعا�صرـــ جيل الرود �أنموذج ًا) ،تقديم وترجمة الدكتور ح�سن الغرفي. وهنا ،ال بد من الإ�شارة �إلى �أننا لن نقف عند الآراء والت�صورات التي عالجت الق�صيدة الإفريقية من هذه الر�ؤية ال�ضيقة ،التي تقوم على عنا�صر بائدة لم تعد ذات ج��دوى في قامو�س المعرفة الأدبية والفكرية المعا�صرة ،التي �أ�صبحت تنطلق من �أدبيات نقدية تتحدد في الخ�صو�صيات ،واال�ستثناءات ،والتفاعالت، والت�أثيرات ،والم�ؤثرات لي�س للتباهي بمقولة التمركز حول الذات �أو اال�ستحواذ المعرفي على باقي التجارب الإبداعية الإن�سانية الأخرى، بل لح�سن الإن�صات �إل��ى �آداب الح�ضارات، وال��ق��ارات ،والثقافات عبر ج�سر الحوارية والتوا�صلية معرفي ًا وجمالي ًا و�إن�ساني ًا.
الق�صيدة الإفريقية لها عوالمها وخ�صائ�صها الإبداعية المعرفية
�سطور �إن للق�صيدة الإفريقية عوالمها وخ�صائ�صها التي تجعلنا نعزز ت�أييدنا لهذا الم�صطلح الذي نتوخى منه الإ�شارة �إلى ُب ْعدين :الأول الحديث عن كينونة هذه الق�صيدة بو�صفها ن�ص ًا �إبداعي ًا له بنياته المعرفية ،والجمالية ،والح�ضارية، والإن�سانية التي تهيمن على مجمل الن�صو�ص ال�شعرية الإفريقية� ،سواء �أك��ان��ت قديمة �أم حديثة �أم معا�صرة. وقد تم اكت�شاف ذلك بعد اطالعنا على مجموعة من البنيات الرئي�سة التي تتميز بها هذه الق�صيدة ،وذلك من خالل �أنطولوجيات/ مختارات ال�شعر الإفريقي المترجم �إلى اللغة العربية يمكن �أن نذكر منها على �سبيل التمثيل ال الح�صر( :طام .طام زنجي) ليوبولد �سيدار �سنغور ترجمة د� .شربل داغر ،وكتاب (الموت في �أر�ض حرة :مختارات من ال�شعر الإفرو- �أمريكي) ترجمة :ريم غنايم ،و(هم�س الأ�سالف: �أنطولوجيا ال�شعر الإفريقي المعا�صر) لنجيب مبارك .ومن هذه البنيات الن�صية المتعددة التي تت�أ�س�س عليها الق�صيدة الإفريقية :بنية الكتابة للحديث عن المعنى ال غير بلغة وا�ضحة، بنية االنتماء �إلى الف�ضاء الإفريقي عن قرب �أو بعد؛ وذلك باالحتفاء وبالتغني بالوجود الإفريقي لفظ ًا ومعنى ،وبنية االعتماد على الذاكرة الإفريقية المليئة بالتاريخ الإفريقي القديم ،وبنية ح�ضور ال�شفاهي المنطلق من التعبير باللغات المحلية الخا�صة ،النابعة من ت��راث بلدانهم الأ�صلية ،ومن بنية االغتراب والألم والإح�سا�س الذي َع َّبر عنه �أح�سن تعبير فرانز فانون بعنوان م�ؤلفه الم�شهور(معذبو الأر����ض) ال��ذي يبرز عن طريق لغة الرق�ص الإفريقي ذي الإيقاع الج�سدي المتفرد فني ًا، ثم بنية االنفتاح على كل لغات العالم تقريب ًا وبخا�صة اللغة العربية واللغة الإنجليزية والفرن�سية والبرتغالية ،وه��ذا دليل على �أن ال�شاعر الإفريقي كان مت�شبث ًا بثقافة الت�سامح مع الآخر وذلك با�ستعمال لغته ،واللغة ثقافة ومنحى معين في التفكير ،ومن خاللها ينعك�س وعيه الفردي ر�ؤية للعالم. �أما البعد الثاني ،فيتجلى في الحديث عن �أوا�صر اللقاء بين الق�صيدة العربية والق�صيدة الإفريقية في مجموعة من المكونات الثقافية، والروحية ،والجمالية ،والتي تتج�سد في ال�شعر الإفريقي المكتوب باللغة العربية ،بحيث ي�ؤدي
ال�شعر ال�سوداني و�شعر �شمالي �إفريقيا �أهمية عظمى في ه��ذا البعد على توحيد الم�شاعر وائتالف النوازع ،وذلك بكتابة الق�صيدة باللغة العربية التي تمثل �إرث ًا م�شترك ًا بين العالمين العربي والإف��ري��ق��ي .فمن مظاهر الأث��ر بين الق�صيدتين ،التقارب المعرفي والجمالي في مفهوم ال�شعر القديم المحدد بالعرو�ض الخليلي الموزون المقفى ،وب�أغرا�ض المعلقات من فخر وو�صف ومدح وحما�سة ،ونجد هذا في ال�شعر التقليدي لدى �شعراء الغرب الإفريقي من �أمثال ال�شاعر النيجيري عثمان بن محمد الفودي (1817 -1754م) ،وال�شاعر ال�سنغالي الحاج عمر تال الفوتي (1797-1868م)� ،أما فيما يخ�ص مفهوم ال�شعر الجديد المحدد بالتفعيلة الحرة ،وبالر�ؤية المغايرة للأغرا�ض المنفتحة على الخطابات والت�صورات والمرجعيات الحديثة والمعا�صرة المختلفة ،ف�سيرفع �ش�أو التقارب العربي -الإفريقي �أدبي ًا �إلى م�صاف عدم التمييز بين ق�صيدة تنتمي �إلى �شاعر عربي و�أخرى يبدعها �شاعر �إفريقي عربي ،والمثال ال�ساطع على ما نقول نجد تجربة ال�شاعر ال�سوداني الراحل محمد الفيتوري (-1936 2015م) ال ��ذي َتمكن م��ن تقديم �أن��م��وذج �إبداعي معا�صر يجمع بتوازن ر�ؤي��وي ُم َوفق بين النزعتين العربية والإفريقية( ،وهو الأمر الذي جعله الأ�شهر بين زمالئه في المحافل الأدبية العربية ،بل يعد ثاني �شاعر �سوداني- بعد ال�شاعر الرومنتيكي التيجاني يو�سف ب�شير -يحظى باهتمام القراء والنقاد على النطاق العربي) ،على حد تعبير الناقد بنعي�سى بوحمالة .وه��ن��ا ،ال يمكن ن�سيان الدرا�سة العرو�ضية ال َق ِّيمة التي قام بها الناقد الح�صيف ع��ب��داهلل الطيب (2003 - 1921م) لل�شعر العربي قديم ًا وحديث ًا ،والتي تحمل عنوان (المر�شد �إلى فهم �أ�شعار العرب و�صناعتها)، والذي قال عنه طه ح�سين في تقديمه للكتاب (هذا كتاب ممتع �إلى �أبعد غايات الإمتاع ،ال �أعرف �أن مثله �أُتيح لنا في هذا الع�صر الحديث). وا�ستخال�ص ًا لما �سبق ،تبقى الق�صيدة الإفريقية في حاجة ما�سة �إل��ى الك�شف عند النقاد والدار�سين العرب المعا�صرين ،لأنها من الق�صائد التي تتج�سد في كل ن�صو�ص العالم، ولها عالقة وط��ي��دة بال�شعر العربي قديم ًا وحديث ًا.
القارئ العالمي يلتقي �إفريقيا من خالل فن الرواية ونادراً ما يلتفت �إلى الق�صيدة
�سنغور حاول النهو�ض بثقافة المقاومة �ضد العن�صرية
اللغة ثقافة ومنحى معين في التفكير ومن خاللها ينعك�س الوعي الفردي لر�ؤية العالم
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
85
رواية «الغمي�ضة»
م�سرحة ال�سرد لمقا�صد طموحة رواية (الغمي�ضة) لوليد عالء الدين تثير مخيلة القارئ بعنوانها الالفت الذي يذكّر باللعب ال�صاخب للأطفال ،بعتباتها المتعددة الدالالت والإهداء �إلى الروائي والم�سرحي الرائد توفيق الحكيم ،ثم يختتم هذه العتبات بتحذير القارئ ب�أنه �سيقر�أ م�سرحية ولي�س رواية على �سبيل الإيهام والت�شويق� ،أو على �سبيل المجاز الذي ينطوي على داللة �أو مق�صد يتوخّ اه بالتركيز على اللعب والم�سرحة باعتبارهما فرجة ينخرط الكائن فيها ب�إرادته �أو بغير �إرادته ،منذ لحظة عزت عمر توجب عليه االمتثال والطاعة لجملة ال�ضرورات �إدراكه الأول �أنه طالما وجد في هذه الحياة ّ المك ّبلة ،بما يمكن و�صفها بالعنف الرمزي الذي �أجاد بيير بورديو درا�سته في كتابه الم�س ّمى باال�سم ذاته. الن�ص كرواية ،فهذا نحن نقدي ًا �سنعاين ّ ما كتب على غالفيها الخارجي والداخلي، وذلك لأن ثمة فارق ًا �شا�سع ًا بين الجن�سين من يتوجب عليه ت�صنيفها حيث البناء ،و�إ ّال كان ّ كم�سرحية ويبعد قارئه عن الحيرة. ن�ص ما بعد حداثي ينتهج (الغمي�ضة) �إذاً ّ التجريب ،وذل��ك في الجمع ما بين الم�شهد الم�سرحي والم�شهد ال��روائ��ي ،ومن هنا ف�إن تقييمنا ال ّأولي هذا نابع من تجاور الحكايات المهم�شة التي فيها �إل��ى جانب ال�شخ�صيات ّ مهمة ،ف�ض ًال عن اللغة �أ�سندت �إليها �أدوار ّ الجامعة م��ا بين العامية الم�صرية خالل الحوارات الطويلة ،والف�صحى ال�شاعرية النابعة من القلب �سرداَ. ولع ّل لعبة (الغمي�ضة) التي لعبها الطفالن في محل الألعاب والدمى في م�ستهل الرواية، والحوار بينهما وتوظيف الأقنعة دليل � ّأولي تم التمهيد على م�سرحة ال�سرد والأحداث التي ّ لها في العتبات ،بينما على �صعيد الت�صنيف ملم ب ��إدارة �ش�ؤون كرواية ،فثمة �سارد عليم ّ ال�شخ�صيات وح��ب��ك الأح����داث وال��دف��ع بها نحو المقا�صد المتوخاة عبر اللعب ،فالطفل والطفلة في م�ستهل الرواية يم ّثالن البراءة الأولى ب�أ�سئلتهما الحائرة ولغتهما ال�ساذجة، مع �إحاالت مق�صودة لم�آالت الإن�سان الرا�شد وديمومة ارت��داء الأقنعة مختبئ ًا خلفها ،فال طيب ُيعلم عن الوجه الحقيقي الكائن خلفها �أهو ّ يجلب الفرح للأطفال كالمهرج في ال�سيرك� ،أم 86
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
�أفق �أنه �إرهابي ي�سعى للعنف ما �أمكنه ،ومن هنا ف�إننا نرى �أن توظيف تقنية القناع �سيرتبط باللعب لتبيان ال��ف��ارق م��ا بين �شخ�صيات الرواية كب�شر طبيعيين �أم �أ�شرار يختبئون خلف �أقنعتهم التي و�ضعوها ب�أنف�سهم لجملة من الأ�سباب ،وهذا التوظيف �أ�سا�سي في الآداب العالمية كافة ،كنوع من العبث الوجودي م�شوه والتحوالت من �إن�سان طبيعي �إلى كائن ّ ّ وم�ستلب ك ّلي ًا كما في (م�سخ) كافكا نموذج ًا، كائنات �أ�شبه بالدمى التي يمكن تحريكها كما ي�شاء المخرج لها في م�سرح الدمى ،فهي يتم التح ّكم بها من قبل م�شدودة �أبداً �إلى حبال ّ الم� ّؤدي غناء ورق�ص ًا �أو تمثي ّال ،حزن ًا �أو فرح ًا، كما في م�سرحية (ت��ح� ّ�والت ح��االت الأحياء والأ�شياء) لم�سرح ال�شارقة الوطني من �إعداد و�إخ��راج محمد العامري ،ال��ذي �أج��اد التعبير ب�صري ًا عن تلك الرغبة العارمة في التحرر من الحياة المملة والرتيبة لإحدى الدمى ،وذلك بالتمرد والخروج من عالم الدمى �إلى عالم الب�شر ،ولكنه عندما عاد نادم ًا لم ُتفتح له البوابة.. وفي �أجواء هذه المغامرة ال�صعبة تعيدنا الر�ؤية الفكرية للروائي �إل��ى �أن حياة الب�شر لي�ست ب�أف�ضل من حياة الدمى ،ولي�س ثمة �أمل �إذاً طالما نحن ن�ضع هذه الأقنعة (البليات�شو) �أو البرقع وح ّتى المكياج ،والإن�سان منذ �أقدم الأزمنة محكوم عليه بالخ�ضوع لتلك القوى الغام�ضة التي ت�ستحكم حياته ب�شكل مطلق، ولي�س ثمة �أمل با�ستعادة حريته و�إن�سانيته الدوامة الجهنمية �آ�سر وم�أ�سور، فالكل في هذه ّ وعلينا �أن نعي�شها ح ّتى لو كان م�صدر عي�شنا هو قيودنا ذاتها. تلك هي حال الطفل والطفلة اللذين تخفيا بالأقنعة في متجر الدمى ،ولعبا الغمي�ضة الم�سمى (خالوي�ص! ل�سه) في الف�صل ال ّأول ّ لي�ستنتجا �أن كل الأقنعة مخيفة. وف��ي �إط ��ار حكائي انفتح على الخوف وحكاياته الم�ؤلمة الذاهبة عميق ًا في التاريخ منذ زم��ان (�أل��ف ليلة وليلة) ونظام التفكير ال�سائد الذي التم�سناه في لعبة الف�صل الثاني الم�سماة (حلم في حكاية وحكاية في حلم)، ّ حيث يحكي الطفل للطفلة (ح��دوت��ة) �أو بما ا�صطلح عليها بالحكاية الإطارية التي تتفرع عنها جملة من الحكايات وباجتماعها تت�ش ّكل
ال��رواي��ة ،وحكاية الطفل تنطلق من المكان �أو الخ�شبة ال ف��رق ،وه��ي عبارة عن �ساحة عامة كبيرة تفوق محطة انطالق الحافالت � ّإب��ان ازدحامها ،تجتمع فيها �شخ�صيات من ك ّل الأزمنة وا�ضعة الأقنعة لت�ؤدي �أدواره��ا المطلوبة يعددها ال�سارد واح��دة واح��دة مع زمانها المختار( :ب�شر يرتدون �أقنعة ...في �أزي��اء �أبطال كل �أ�ساطير وحكايات الكون، في مالب�س الفراعين والرومان واليونانيين، والمماليك ،والعثمانيين والأحبا�ش والعرب والأفارقة والبدو ،رجال في جالبيب فالحية، و�أخ ��رى �صعيدية ،و�أخ ��رى من �أزي ��اء الوجه ال��ب��ح��ري ،ورج���ال ف��ي بنطلونات �أوروب��ي��ة ومالب�س �صيادين وع�سكر ول�صو�ص )... يبدع ال�سارد في �إدارة اللعب والم�سرحة من �سميناه خالل حركة ال�شخو�ص في الحي ّز الذي ّ (الخ�شبة) افترا�ضي ًا كونها تت�سع للعالم ب�أكمله، ف�ض ًال عن الحوارات ال�شائقة التي تنطوي على رمزيات عديدة و�إ�سقاطات اجتماعية و�سيا�سية ت�أتي عفوية على الأل�سنة ،بما يعني �أن الروائي يدرك مدى خطورة الخطابات الم�ؤدلجة على بد من الن�ص ال�سردي ،وفي هذا ال�صدد ال ّ بنية ّ التنويه �إلى فاعلية التقنيات الموظفة بذكاء
وليد عالء الدين
«الغمي�ضة» ن�ص ما بعد الحداثة ينتهج التجريب جامع ًا بين الم�شهدين الم�سرحي والروائي
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
87
واللعب في منطقتي الواقع والخيال ،من خالل متق�ص و� ّأخاذ كما في ما اجترحه من و�صف ّ ن�صية لأ�سماء ومتفاعالت م�ستهل ال��رواي��ة، ّ م�شهورة م��ن مثل ال��ق� ّ�راء :عبدالبا�سط عبد ال�صمد ،محمود الح�صري� ،أبو العينين �شعي�شع، وغيرهم ،ومن ال�شخ�صيات الرمزية المجازية: المزدوج ،المتعدد ،ال�شيخ وائل وع ّزة وغيرهما، ف�ض ًال ع��ن بع�ض المقتب�سات م��ن الأغ��ان��ي ال�شائعة والأقوال الم�أثورة. ومن المهم في هذا ال�سياق الإ�شارة �إلى الن�ص عبر اللعب تقنية التكرار الم�شهدي في ّ وربما والأداء الحركي فهي مق�صودة بذاتهاّ ، �إمعان ًا في داللة الخواء العام للمحت�شدين في ال�ساحة ،وتلك هي �سمة م�سرح العبث الأ�سا�سية، فلي�س ثمة حبكة تقليدية تت�صاعد �أحداثها ،وال �أحداث مترابطة �سوى ما ي�سرده ال�سارد ،وك� ّأن الح�شد رهن نف�سه ل�شيطان قلق االنتظار في حلقة مفرغة وزم��ن دائ��ري ،وهكذا ال �سبيل لل�شخ�صيات �سوى انتظار مجهول النقلة الم�ستقبلية ،طالما �أنها عجزت عن اختيار �سبيل الحقيقة الكامنة في العلم والمعرفة لأجل الخال�ص مما هم فيه. �إن ��ه باخت�صار م�سرح العبث ف��ي بعده ال�سريالي ،ال��ذي ي�شير بطبيعة الحال �إل��ى ال معقولية الزمن المعي�ش� ،سواء كان ب�أقنعة �أو والقوة. بعنجهية الغطر�سة ّ للن�ص ال�سردي العام ال�سياق ي ّت�ضح من ّ �أنه نوع من اللعب على المك�شوف كما يقال، محمل ب�إ�شارات كثيرة ال ت�شير �إلى فالخطاب ّ
كتاب «واحد م�صري» للكاتب وليد عالء الدين
88
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
توفيق الحكيم
فردريك نيت�شه
كافافي
�صموئيل بيكيت
بيير بورديو
محمد العامري
ثقافة بعينها ،بل �إلى العالم الذاهب �إلى حتفه، هذا العالم المت�صارع ال��ذي د�أب��ه اال�ستئثار ب��ال��م��ائ��دة ،م��ع��ت��م��داً ع��ل��ى ال��ع��ن��ف المدجج بالأ�سلحة الفتاكة في الوقت الذي يخبئ عنفه هذا خلف �أقنعة مختلفة ،فال نرى منه �سوى ما ي�سعى لإي�صاله عبر و�سائل الإعالم المختلفة: حد تعبير فران�سواز عالم محتل منذ عقود ،على ّ فوركيه. تقدمنا به لما رمز (المزدوج) �شخ�صية ل ولع ّ ّ في �سياق القناع �أو (الظاهر والمخفي) يلتم�سه القارئ جال�س ًا في و�سط ال�ساحة التي احت�شد فيها العالم بثقافاته و�أزيائه (يخطب فيهم)، �أو بالأحرى يروي لهم حكاية تعود �إلى زمان (�ألف ليلة وليلة) بالأ�سلوب (ال�شهرزادي) ذاته مع م�شاهد مم�سرحة ،وتعزيزاً لمفهوم التجاور ما بعد الحداثي �سوف يقفز ال�سارد قفزة زمنية لي�صل �إل��ى الألفية الثالثة بتقديم �شخ�صية تنتمي �إل��ى ع�صرنا الراهن� :شاب في مقتبل العمر (يرتدي تي �شيرت بولو �أبي�ض وبنطلون جينز ويم�سك ف��ي ي��ده الب��ت��وب) ،وخاطب المزدوج قائ ًال ( واهلل يا مزدوج �أنت ك ّذاب كبير ومحتال) ،فيغ�ضب الجمهور الم�ست�أن�س لحكاية المزدوج وي�سود الخ�شبة هرج و�صراخ انفعالي في �إ�شارة �إلى ديمومة نظام التفكير الما�ضوي ح ّتى في زمان ما بعد الحداثة ،وي�ستمر الأداء
توظيف الأقنعة دليل �أولي على م�سرحة ال�سرد والأحداث التي تم التمهيد لها في العتبات
الر�ؤية الفكرية للروائي تعيدنا �إلى �أن حياة الب�شر لي�ست ب�أف�ضل من حياة الدمى
�أفق التمثيلي مع ا�ستمرار حكاية المزدوج وح�ضور ال�سارد الالفت بخال�صة موجزة� :إذ ال يمكنك �أن تعي�ش زمن ًا جديداً بنظام تفكير متخ ّلف عن الح�ضارة المعا�صرة ،وهكذا �سوف يواظب الجميع على لعبة الأقنعة و�أزمنتها المختلفة. وف ��ي م�شهد �آخ���ر ت�صعد �إل���ى الخ�شبة �شخ�صية جديدة �أ�سماها (المتعدد) ،بما تحيل �إليه الت�سمية من (حرباوية) ،ويقوم الآخرون بارتداء �أقنعة الحيوانات حيث من ال�صعب حد عليهم �أن (يكون الإن�سان بوجه واحد) على ّ تعبير (المتعدد) في �سياق بمعنى �أن مرحلة �صاحب الوجهين انتهت وباتت من الما�ضي، لت�ستمر لعبة الأقنعة باعتبارها تنتمي �إلى التقاليد والم�أثورات االجتماعية والثقافية، ولكن ال ب�أ�س في تبديل الأقنعة لتتنا�سب مرحلة تعدد الوجوه ،وهي م�س�ألة �أخالقية من جهة ،واللعب في منطقة العبث والعدمية ذاتها وفق ما ذهب �إليه فريديك نيت�شه في (هكذا تك ّلم زراد�شت) ،عندما توقف زراد�شت في �ساحة مكتظة مماثلة للت�أكيد على الال ج��دوى ،م��ادام الإن�سان ال ي�سعى �إل��ى تجاوز القوة) ..وبذلك واقعه نحو ما �أ�سماه ب��ـ(�إرادة ّ يمكننا اال�ستنتاج �أن الرواية تحمل بع�ض ًا من �أطياف نيت�شه و�صموئيل بيكيت ،وال �سيما ف��ي ال��ح��وارات الطويلة ال��ت��ي ال ج ��دوى وال طائل منها ،و�إنما لتزجية الوقت ريثما ي�صل (غودو) �أو «البرابرة» مث ًال ،وهذا افترا�ض من قبلنا �إذ و�ضعتنا الثرثرة في الالمعنى ب�أجواء م�سرحية �صموئيل بيكيكت وق�صيدة كافافي الم�ؤ�س�ستين لفكرة عبثية االنتظار وعدم الرغبة في تجاوز الذات والثقافة الما�ضوية في (هكذا تك ّلم زراد�شت) ،ولعلها عربي ًا �أ�شبه بالم�سرحية تحول المكان الرحبانية (المحطة) ،من حيث ّ محطة يحت�شد فيها ال�س ّكان، االفترا�ضي �إلى ّ والمحطة ال�سفر في رغبة التذاكر وك ّل ا�شترى ّ وهمية وكذلك القطار الذي �سوف ي�أتي ،ومع ذل��ك «م��ازال��ت ح�شود المقنعين في الرواية يتجول تملأ �ساحة االنتظار ،ولتزجبة الوقت ّ بع�ضهم في الأن��ح��اء ،وبع�ضهم جل�سوا على مقاعد المقاهي� ،صورة طبق الأ�صل لمحطات االن��ت��ظ��ار ف��ي ال��م��ط��ارات ومحطات القطار و�سواها ،ولكن ال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه في هذا المقام هو �أنه كيف يمكن ال�سفر �إلى محطة الحلم المنتظرة بك ّل هذه الأقنعة التي يتوارون �شك �سيطول انتظارهم ما لم يغيروا خلفها؟ بال ّ
�أنف�سهم ويعدلوا �سلوكهم نحو الإن�سان الجديد القوة) ،من خالل المعرفة والفنون في (�إرادة ّ والفهم ولي�س غيرها. وف��ي العموم االنتظار باعث على القلق وال��ت��و ّت��ر ف��ي حياتنا ،وك��م م��ن المفاج�آت والمتغيرات تحدث خالل زمن انتظارنا الق�صير �أو المديد ،وهذا ما التم�سناه من جهة الح�شود وتعدد الثقافات وخطاباتها في ال�ساحة ،ولع ّل الفكرة الجوهرية التي يخرج بها المتل ّقي بعد االنتهاء من ق��راءة الرواية تكمن في الدعوة للتحرر م��ن مختلف المعيقات ال��ت��ي تكبل الإن�سان ،وهذا يتط ّلب تجاوز الذات وتطويرها تهيئة الم�ستقبل تتم ّ با�ستمرار كي ،على الأقلّ ، لع ّزة وزمالئها من الأجيال ال�شبابية الطالعة في وجه التخ ّلف والعنف والإرهاب ،ومن هنا ربما كانت ت�صلح ف�إن فل�سفة االنتظار العبثي ّ لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة وال�سعي ال�ستقطاب العالم من جديد ،لكننا اليوم نعي�ش زمان الثورة الرقمية حولت العالم �إلى والتكنولوجيا الذكية التي ّ مجرد قرية �صغيرة تنفتح �أبوابها ونوافذها على �ساحة مختلفة جوهري ًا ،وهو ما ا�شتغل عليه وليد عالء الدين ،وما ت�شتغل عليه رواية ما بعد الحداثة عموم ًا ،ولك ّل رواي��ة زمانها ولك ّل منها ثقافتها وممكنات الت�أويل وفق ثقافة المتل ّقي.. �إنها �صرخة احتجاج على ما هو كائن، وال�سعي لتغييره عبر منظومة تفكير معرفية و�أخالقية تف�ضي �إلى التعاي�ش والتثاقف ب�سالم ومحبة. و�إخاء ّ
وليد عالء الدين مع عبده وازن
يبدع ال�سارد في �إدارة اللعب والم�سرحة من خالل حركة ال�شخو�ص في حيز �سميناه الخ�شبة
الخطاب محمل ب�إ�شارات كثيرة ال ت�شير �إلى ثقافة بعينها بل �إلى العالم الذاهب �إلى حتفه
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
89
مقاالت
«الكـوالج الـروائــي» د� .ضياء الجنابي
لم تقف تقنية ال��ك��والج عند ح��دود الفن الت�شكيلي ،بل امتد ت�أثيرها �إلى كافة الفنون الب�صرية والتعبيرية والتطبيقية وجميع الفنون الأخرى ،وفي مقدمتها الكتابة ال�سردية التي تعرف ب�أنها علم يتناول قوانين الأدب الق�ص�صي كما جاء في (معجم ال�سرديات)، ولعل �سبب ت�سرب هذا الفن �إل��ى ال�سرد يعود �إلى عالقة الت�آخي والتو�أمة الرا�سخة بين الفن الت�شكيلي بمختلف فروعه ،والن�ص الأدب��ي بمختلف �أجنا�سه ،وكذلك كون الكوالج تقنية تعمق الفعل الإب��داع��ي وت��ؤث��ر انطباعي ًا في روحية المتلقي ،وقد تعزز ارتباط فن الكوالج بالأعمال ال�سردية العالمية المعا�صرة الكبرى مع النزوع ال�سائد بن�سف الأ�سيجة التقليدية في الأعمال الحداثوية ،الذي �أف�ضى �إلى تداخل الأجنا�س الأدبية المختلفة ،وت�ضايف الفنون والمعارف مع بع�ضها بع�ض ًا. �إن محاوالت هدم الحدود البينية التي تميز كل جن�س �أدبي عن الآخر ،واندثار الم�سافات الفا�صلة بين معظم الن�صو�ص ال�سردية والكتابات المختلفة الأخرى ،قد �ش ّكل ق�ضية نقدية �شائكة وخطيرة في الأدب المعا�صر، ب��رزت مالمحها مع بواكير النتاج الإبداعي الحديث واهتمام النقاد بمختلف م�شاربهم وتوجهاتهم بحالة التمرد الحا�صلة على ال�شكل الفني وقوالبه القديمة ،ففي عام (1929م) 90
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
في ال�سرد العربي المعا�صر
ا�ستطاع ال�شاعر والروائي والر�سام الفرن�سي ال�سريالي ماك�س �أرن�ست توظيف �سل�سلة ر�سوم تو�ضيحية م�ستقاة من مواد مختلفة في روايته ( 100ام��ر�أة بال ر�أ���س) ،وفي عام (1930م) �أقحم �أرن�ست في روايته (حلم فتاة �صغيرة تريد الدخول �إلى كرمن) ،مقتطفات متنوعة من مدونات مختلفة؛ كالمقاالت ال�صحافية وال��خ��رائ��ط وال��ر���س��وم البيانية وال��ج��داول والكتابات العلمية والن�صو�ص التاريخية والو�صفات الطبية والر�سائل والإع�لان��ات وال�����ص��ور الفوتوغرافية وع��ن��اوي��ن الأخ��ب��ار وبع�ض اليوميات ،وغيرها ..وهكذا تعامل في رواياته الأخرى م�ؤ�س�س ًا بذلك م�صطلح (رواية- كوالج) ،الذي �شاع بعد ذلك بما يعرف بالرواية الكوالجية. وف ��ي الأدب ال��ع��رب��ي ال��م��ع��ا���ص��ر ،ف ��إن الكوالج باعتباره �أح��د الخا�صيات المهمة التي �أفرزتها مرحلة ما بعد الحداثة في الفن ال�سردي الروائي ،قد حقق �أهداف ًا مهمة تتعلق ب�أ�صل و�صلب الخطاب ال�سردي ،وقد نجم عن ذلك ظهور مفاهيم نقدية مهمة �أف�ضت �إلى رواج ت��داول م�صطلح (الكوالج الروائي) في ال�ساحة الأدبية ،ح�سب تعبير الدكتور �صالح ف�ضل في معر�ض حديثه عن ق��درة الروائي �صنع اهلل �إبراهيم على ا�ستخدام وتوظيف هذه التقنية ،خ�صو�ص ًا في روايته (ذات) ،وتحدث
مقتطفات متنوعة من مدونات مختلفة مثل المقال وال�صور والر�سائل وغيرها
�أفكار
الدكتور ف�ضل في مقاله المو�سوم بعنوان (تقنية الكوالج الروائي) عن �إمكانية �صنع اهلل على المزاوجة بين وحدات ال�سرد الق�ص�صي ووحدات التوثيق ال�صحافي بتقنية ت�شكيلية و�سينمائية ،وب��ت��رت��ي��ب ���ص��ارم م��ن خ�لال اعتماده (على �إع��ادة المزق الخ�شنة لتدخل في تكوين جمالي جديد ،حيث يتم م�سح ما علق بم�صدرها من بقايا اال�ستعمال الأول، وتوظيفها في ال�سياق الكلي الجديد). ولم تنح�سر تقنية الكوالج على الأعمال ال��روائ��ي��ة وح�سب ،فهناك ا�ستخدامات لها في الق�صة الق�صيرة ،كما في تجربة القا�ص العراقي محمود جنداري التي تميزت ب�أ�سلوبها المغاير الخارج عن �سياق الق�ص التقليدي، وقد كان ذلك الفت ًا في معظم ق�ص�صه و�أعماله الروائية منذ مجموعته الق�ص�صية الأولى (�أعوام الظم�أ) التي �صدرت عام (1968م) ،وحتى مجموعته الق�ص�صية الأخيرة (م�صاطب الآلهة) التي �صدرت قبيل وفاته عام (1995م) ،والتي تبلورت فيها تجربته المتميزة ب�شكل وا�ضح في هذا الم�ضمار ،علم ًا �أن ق�ص�ص هذه المجموعة كانت قد ن�شرت تباع ًا في مجلة (الأق�ل�ام) العراقية في عقد الثمانينيات ،وال��ذي يميز تجربة محمود جنداري هي تلك القدرة على توظيف ن�صو�ص تاريخية ومدونات �أ�سطورية تنتمي �إلى حقب تاريخية متفاوتة في ق�ص�صه، �إ�ضافة �إلى تطعيم كتاباته ب�شهقات من ال�شعر ول��غ��ة الخطابة والنف�س الملحمي والح�س التفا�ؤلي والوعي ال�شديد بالت�أريخ ،في توليفة غير ملتزمة بتقاليد ال�سرد الق�ص�صي ،وقد �أعاد �إنتاج ذلك عبر تقنية الكوالج وبنزعته التجريبية الغرائبية التي تهتك �أ�سرار الن�صو�ص وتحاورها ،وت�ستجوب الم�سكوت عنه وتحركه، وت�ستنطق الخبيء وتف�ضحه ،وقد تمكن من جعل ق�ص�صه موزاييك ًا تترا�صف فيه الحلقات التاريخية المتباعدة ،والأح����داث ال��ت��ي ال يجمعها زمن واحد ،مع ال�شخ�صيات المتنوعة التي تنتمي �إلى �أزمنة مختلفة و�أمكنة متفرقة ور�ؤى مت�شظية. وق��د ا�ستهوت تقنية ال��ك��والج الكثير من
الروائيين والق�صا�صين العرب من مختلف الأجيال ،وعملوا على ا�ستثمارها في رواياتهم ونتاجاتهم ال�سردية ،كما في تجربة كل من: الروائي عبدالرحمن منيف في روايته (�سباق الم�سافات الطويلة) ،و�أحمد عبدالكريم في روايته (ك��والج) ،وليلى الجهني في روايتها (جاهلية) ،و�أثير �صفا في روايتها (تغريدة)، و�أحمد الفخراني في روايته (عائلة جادو :ن�ص الن�صو�ص) ،ولينة �صفدي في كتابها (دنان)، وه�شام علوان في رواي��ت��ه (دف��ات��ر قديمة)، وم�سعودة بوبكر في روايتها (طر�شقانة)، و�أحمد عبداللطيف في روايته (ح�صن التراب). ِ يكتف ف��ن ال��ك��والج الم�ستخدم في ول��م الن�صو�ص ال�سردية الأدب��ي��ة ب����أداء وظيفة م��ح��ددة ،ب��ل ا�ستطاع �أن ي�ضطلع بوظائف ع�ضوية متعددة تخ�ص �أ�سا�سيات الخطاب ال�سردي وتعزز منطلقاته وتغنيه ،ومن خالل ت�شخي�ص تلك الوظائف نكت�شف مقدار الأهمية التي تنطوي عليها ،ويمكننا �إجمال الوظائف الحيوية لهذا الت�ضايف والتداخل الذي تحدثه تقنية الكوالج بما يلي� :إن�شاء دالالت الن�ص- �إ�ضافة ق�صة فرعية �إلى الن�ص ال�سردي تغني الق�صة الأ�صلية -ي�ساعد على توجيه القراءة الت�أويلية للن�ص -تنويع وتكثير زوايا ال�سرد- ت�شظية الق�صة الأ�صلية �إلى مجموعة ق�ص�ص فرعية متتعدة وقابلة للتكاثر -تف�سير الن�ص التخييلي والتحليق معه -ت�أ�سي�س عالقة المنافرة والمفارقة مع الن�ص الأ�صلي. وال بد من الإ�شارة �إلى �أن الكوالج في الفن الت�شكيلي ال يعتبر مذهب ًا فني ًا كالتكعيبية �أو ال�سريالية �أو التجريدية ،بل مجرد تكتيك فني، و�إنه في الأدب كذلك ال يعدو عن كونه تقنية بنا ٍء في العمل الأدب��ي ،وقد جاء في (معجم ال�سرديات) �أنه (تعبير عن تعدد المعنى وتداخل الأن�ساق وحوارية الأجنا�س) .لذلك ال يمكن اعتباره جن�س ًا �أدبي ًا م�ستق ًال بذاته ،ويمكننا اعتبار الكوالج �أح��د تمظهرات التنا�ص في الن�ص ال�سردي كونه يعتمد على �إقحام مقاطع متنوعة م��ن ن�صو�ص �أخ���رى يرتبط معها بعالقات حوارية.
يعتبر عربي ًا �إحدى الخا�صيات التي �أفرزتها مرحلة ما بعد الحداثة
�صنع اهلل �إبراهيم من رواد توظيفه في ال�سرد
تقوم تقنية الكوالج على المزاوجة بين وحدات ال�سرد والفن الت�شكيلي وال�سينمائي
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
91
رواية «في انتظار القطار» ملحمة من العبث والإن�سانية
92
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
�سرد قدم لنا الروائي الكبير عمر ف�ضل اهلل �أعما ًال روائية عديدة َّ ح�صل من خاللها على جوائز عربية وعالمية كبيرة ،وقد انتبهت اله��ت��م��ام ال��ك��ات��ب بما ي�سمى ب��ال��رواي��ة المعرفية التوثيقية لتاريخ بلده (ال�سودان) ،وهذا ما الحظته في روايته قدم لنا فيها رواية امتزجت الأخيرة (في انتظار القطار) والتي َّ محمد المغربي فيها الرومان�سية والخيال مع الحقائق التاريخية الواقعية ٍ ٍ �سردية �أ�سطورية� ،أثبت لنا فيها الكاتب �أنَّه حكَّاء من العيار الثقيل. بوتقة في �وان ال��رواي � ِة غام�ض ًا ع��ن محتوى نجد ع��ن� َ تعمد الكاتب وقد الرمزية، من يخلو الرواية ،وال َّ ليقدم لنا عنوان ًا تغيير الن�سق القديم في الكتاب ِة ّ قد يراه البع�ض م�ضل ًال في البداية؛ لك َّنه يحمل الكثير من الإ�شارات التي تو�ضح المغزى منه بعد الوقوف على البنية العميقة للرواية ،فالقطار هو ٍ ٍ رهيبة في �سك ِة �سفرنا، ب�سرعة العمر الذي يم�ضي وهي الحياة التي تم�ضي قدم ًا وال تنتظر �أحداً. تناولت الرواية �شخ�صيتين محوريتين ،كان ِ أح��داث ال��رواي� ِة على ل�سانهما هما (�سعد �سرد � ُ و�سعدية) المخطوبان اللذان منعتهما �أج��واء الحرب الماثلة في الحملة التي �أر�سلها محمد علي با�شا �إلى �سلطنات وممالك �أعالي النيل من وفرقت �إتمام ال��زواج، و�شردت �أهله وع�شيرته َّ َّ بينهما. الكاتب في روايته ق�ضية عدوان الأتراك تب َّنى ُ ممثلة في حملة الوالي على وطنه ،و�إظهار م�شاهد المقاومة لهذا المحتل ،كما �أن ال��رواي��ة تحمل �إ�سقاطات �أظهرت الفجوة الح�ضارية بين بل ٍد يمتلك تاريخ ًا ح�ضاري ًا قديم ًا ،في الوقت الذي كانت �أوروبا فيه عمياء تتخبط في ظالم الجهل، وبين حملة مكونة من �أجنا�س مختلفة من الجنود الأت ��راك وال�شرك�س والبدو والمغاربة ،وبع�ض الجن�سيات الأوروبية و�أجنا�س �أخرى غير معروفة، ما�ض ج��ا�ؤوا من المجهول ،جمعتهم جنود بال ٍ المطامع ال�شخ�صية لال�ستحواذ على ثروات تلك الممالك وجلب الرقيق. قرر (�سعد) تحقيق حلمه بالذهاب للدرا�سة في الأزه� � ِر ال�شريف ،ليعود �إل��ى قريته خطيب ًا وي�صلح بين على المنبر ،وليعقد ال��زي��ج��اتُ ، المتخا�صمين ،ثم يتزوج (�سعدية) حبه الأول والأخير ،لكنه يلتقي هناك بزميل درا�سته ومواطنه (�سراج) ،والذي كان يعمل جا�سو�س ًا للبا�شا ،وقائداً من قواده في حملته على (بربر ِ و�س َّنار). تقرب (�سراج) من (�سعد) وتودد �إليه و�أكرمه ،ثم �أقنعه باالن�ضمام �إلى الحملة ،و�أوهمه ب�أن الغر�ض من الحملة هو مطاردة بقايا المماليك الهاربين
من مذبحة القلعة ،لكن(�سعداً) اكت�شف كذب �صديقه، عندما ر�أى بنف�سه وح�شية جنود الحملة من الأتراك �أثناء طريقها في قتل الأبرياء من الن�ساء والأطفال وال�شيوخ ،في كل القرى التي مروا فيها وحرقهم �أحياء ،واغت�صاب الن�ساء وت�شويههن بقطع �آذانهن، ونهب و�سرقة الآثار وتدمير مراقد ومقابر �أجداده الأقدمين ،ليت�أكد من الغر�ض الحقيقي للحملة، وه��و نهب الأم����وال وب�سط النفوذ على ب�لاده، بمباركة ودعم �أوروبي للبا�شا ،فقد التقت الم�صالح بينهما وتوحدت الجهود ،فقد كانت بريطانيا تمهد لل�سيطرة على تلك الأقاليم فيما بعد. يعود ف�ضل اهلل للرمزية الغرائبية مجدداً عبر حوار �سعد مع (الأر�ض) التي تحدثت معه لت�شكو له ظلم بني الإن�سان وطمعه وبغيه وق�سوته ،و�أن جوفها �أم�سى مقبر ًة كبير ًة جمعت رفاتهم جميع ًا الحروب في النهاية ،وهنا �إ�شارة ترمز �إلى � َّأن َ والحب هما الخالدان، ال�سالم الظالم َة ال تفيد و� َّأن َ َّ ولع َّل اختياره للأر�ض ،باعتبارها رمزاً م�ستقراً في الذاكر ِة الجماعية ب�أنها رمز للوطن وال ِع ِ ر�ض، وهي من جعلت �سعد ينتف�ض وي�ستفيق من توغله في خيانة وطنه� ،إل��ى محاربة �أع��دائ��ه ،وحمله لل�سيف لأول مرة في حياته ،بعد �أن �أ�شعلت فتيل �ضميره ِ وغ ْي َرته على وطنه. حب ًا لل�سيا�سة ،لكنه م أو � ا �سيا�سي �سعد يكن لم ً ُ َّ وجد نف�سه مقحم ًا فيها ،عندما عاد �إلى قريته ،فلم يجد فيها حي ًا يرزق وظل يبحث عن �أبويه وعن
عنوان الرواية ال يخلو من الرمزية بغمو�ضه الفني
نجح(ف�ضل اهلل) في �سرد الأحداث بحقائقها و�شخ�صياتها التاريخية
قدم الكاتب لنا ق�صة واقعية �أظهرت الح�س االجتماعي وانفتاحه
من م�ؤلفاته العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
93
�سرد خطيبته (�سعدية) فلم يجدهم ،ف�أيقن �أن من قتلهم هم الجنود المجرمون. (�سعدية) فتاة ب�سيطة جميلة و ِل� َ�دت ون�ش�أت ولعبت مع (�سعد) ،حتى �أ�صبحت ملهمة ونجح في خطبتها ،ولم يمنعه من ال��زواج بها �سوى �سفره للدرا�سة بم�صر. عر�ض لنا ف�ضل اهلل م�شاهد رومان�سية راقية فهمنا من خاللها قوة هذا الحب ال�سرمدي الذي �أظ��ه��ره لنا ال��ك��ات��ب ،م��ن خ�لال عر�ض م�شاهد ومواقف ل�سعدية ظهرت فيها �أ�صالتها ووفا�ؤها تتخل عن �أبيه لخطيبها وزوجها الم�ستقبلي ،فلم َ و�أمه ،وكادت تفقد حياتها بر�صا�ص الجي�ش من �أجل حمايتهما من القتلِ في مخاط ٍر متكررة ال الكاتب يقوم بها �إال فار�س �شجاع ،وهنا جعل ُ �سعدية رم��ز المقاومة ورم��ز ال��م��ر�أة ال�سودانية الوطنية الفدائية بالفطرة ،فلم تكن �سعدية ُتجِ يد القراءة والكتابة ،لكنها كانت عالمة بدينها ،وفية لأهلها ولم تتخ َل عن �أمانة �سعد ،المتمثلة في �أبويه حتى فارقا الحياة ودفنتهما بنف�سها ،بل وكانت ت�شعر بالذنب تجاه �سعد؛ لأنها لم تحافظ عليهما حتى يعود من �سفره. أح����داث ال��رواي �ةِ ِ ِ نجح ف�ضل اهلل ف��ي ���س��رد � دونها كما التاريخية بحقائقها و�شخ�صياتها َّ التاريخ حتى تتوافر الم�صداقية بها ،ومزجها ٍ ب��أح� ٍ و�شخ�صيات خيالية على �شكلِ ق�صة �داث مت�سل�سلة مكتملة ،فيها الو�صف الدقيق للزمان والمكان اللذين ُيثريان الأح��داث والحوار الذي خال من الرتابة والملل وال�صراع المتغلغل في ثنايا الرواية. الكاتب ق�صة واقعية ثرية �أظهرت ق� َّ�دم لنا ُ ال��ح���� َّ�س االج��ت��م��اع��ي ،وان��ف��ت��اح��ه ع��ل��ى البيئة المجتمعية ،وتعرفه �إل��ي��ه��ا ،وتمتعه بخبرات ِ و�صف ال ِ أحداث اجتماعية كثيرة ،جعلته ينجح في لنا و�صف ًا �سينمائي ًا ،وك�أنه ي�صورها بكاميرا. الكاتب طريقة �سرد الرويات الحديثة اختار ُ وهي طريقة (ال�سرد المتداخل) ،وهذا النوع من ال�سرد ِ الحدث وتفتيته ،ثم بعثرته على تقطيع يعتمد على ِ �أج��زاء الرواية ،ولي�س تتابع الف�صول في الرواية، وفق هذا ال�سرد ،تتابع ًا مت�ص ًال في الزمان. يبد�أ بمنت�صف الق�صة �أو بنهايتها ،ثم تم�ضي الف�صول في �سرد ال ِ أحداث التي �سبقتها و�صو ًال �إلى هذه النهاية ،ربما عن طريق االرتداد واال�سترجاع (تقنية الفال�ش ب��اك) ،وه��ذا ما ح��دث في هذه الرواية ،فقد بد�أ الراوي وهو �شخ�صية البطل (�سعد) ِ في �سر ِد ال ِ منت�صف الحكاية ،بداية من أحداث من الف�صل الثاني ،وفيه ي�سترجع ال��راوي ذكرياته عندما كان طف ًال �صغيراً مع �أ�سرته ،وعمله مع
94
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
�أبيه بالمركب ،وت�أثره ب�أجواء القرية وعاداتها وتقاليدها ،ودرا�سته عند �شيوخ المجاذيب ،وحلمه في الذهاب للدرا�سة بالأزهر ،ثم يروي لنا �أجواء المجتمع الم�صري عندما عا�ش فيه. لم يكن ف�ضل اهلل هو الراوي العليم ،بل جعل الراوي �شخ�صية غير معروفة اال�سم وهو �شخ�ص تقم�ص �شخ�صية (الأمين) ال�شيخ من روا ِد المقهى َّ الم ِ�سن الذي كان َي ُق�ص ق�صة (�سعد و�سعدية) ،قبل ُ مماته. قام ب�سر ِد �أح� ِ �داث الق�ص ِة مخاطب ًا المتلقي وحكى له حكايتين: حكاية (�سعد) �أو ًال ،ثم حكاية (�سعدية) ،وما وقع فيهما من �أح� ٍ �داث تت�صل بهما �أو بغيرهما، كل منهما الداخلية والتي ليعر�ض للمتلقي ر�ؤية ٍ ّ ت�سمى بعر�ض (ال�سيرة الذاتية). الكاتب الحري َة لأبطالِ الرواي ِة في التعبي ِر ترك ُ عن ر�ؤيتهم ،فلم يتدخل في نفو�س ال�شخ�صيات، وه ��ذا الن�سق ال ي��ع��رف فيه ال��ق��ارئ �شيئ ًا عن ال�شخ�صية� ،أكثر مما تعرفه هي عن نف�سها ،وال يظهر للمتلقي �إال ما تظهره ال�شخ�صية نف�سها ،وك� َّأن المتلقي ينظر �إليها من خالل ت�صوير �سينمائي. تنتهي ال��رواي��ة بنهاية ال� ��راوي لحكاية (�سعدية) لكنها حملت مفاج�أة تمثلت في معرفة هوية �شخ�صية (الأم��ي��ن) ،ال��ذي ات�ضح �أن��ه ابن (�سعد و�سعدي) ودف��ن بجوارهما ،و�أن (�سعد و�سعدية) رجعا مع ًا �إلى القرية ليعيدا �سيرتهما الأولى مرة �أخرى.
الخرطوم
تناولت الرواية �شخ�صيتين محوريتين جاء �سرد الرواية على ل�سانيهما
يعود الراوي �إلى الرمزية الغرائبية عبر حوار (�سعد) مع الأر�ض
مقاالت
ن�سيم
هل غيرت الكلمات العالم.. (قد تكون بع�ض الكلمات ق��ادرة على تغيير العالم ،ولبع�ضها القدرة على تعزيتنا وتجفيف دموعنا ،لكن هناك كلمات هي ر�صا�صات ف��ي بندقية ،و�أخ���رى نغمات ق��ي��ث��ارة ..بع�ضها ق��ادر على �إذاب ��ة الثلج ال��ذي يع�صر قلوبنا ،وم��ن الممكن حتى ا�ستدعا�ؤها ،مثل زمر من المنقذين عندما ت��ك��ون الأي����ام معاك�سة) .ه��ذا م��ا يكتبه الروائي الآي�سلندي جون ملكوم �ستيفان�سون (1963م) الحائز ع��دة ج��وائ��ز �أدب��ي��ة في بالده ،والمترجم عالمي ًا �إلى عدد كبير من اللغات ،في روايته ال�شهيرة (ما بين ال�سماء والأر�ض) (2010م) الجزء ال ّأول من ثالثية، يتبعه (ح��زن المالئكة ،وقلب الإن�سان)، وهي �أ�شبه بق�صيدة ذات �شاعرية ا�ستثنائية تحاكي الطبيعة القا�سية و�شروط العي�ش تحول الحياة �صراع ًا للبقاء ،ومواجهة التي ّ دائمة للموت. نحن في بداية القرن التا�سع ع�شر ،في جزيرة �آي�سلندا الق�صية الباردة ،في �إحدى قرى ال�صيادين ،حيث �شظف العي�ش ،وق�سوة المناخ ،والبرد ال��ذي قد يكون مميتاً ،في حياة مجموعة من الأ�شخا�ص ي�ضطرون �إلى �أن يركبوا بحراً عاتي ًا عا�صياً ،لت�أمين لقمة القد .هكذا عي�شهم من خالل �صيد �سمكة ّ نتعرف �إلى �شخ�صية (ال�صبي) وهو مراهق ّ يتيم ال �أه��ل وال عائلة له ،تربطه �صداقة قوية جداً بـ(بارور) ،ال�صياد ال�شاب الذي يكبره �سناً ،الحالم والمغرم بالآداب وال�شعر مثله ،وجميل الهيئة الذي تع�شقه (�أندريا). يعد ال��ع� ّ�دة ا�ستعداداً لركوب ب��ارور ال��ذي ّ البحر ،من�شغل بحفظ �أبيات الملحمة ال�شعرية (الفردو�س المفقود) التي كتبها ال�شاعر الإنجليزي جون ميلتون عام (1667م)، وهو ما �سيجعله غير قادر على التركيز على
الرواية ..ق�صيدة ذات �شاعرية ا�ستثنائية تحاكي الطبيعة القا�سية و�شروط العي�ش في جزيرة �آي�سلندا
عمله ،فين�سى �أخذ �سترته ال�سميكة الحامية من المياه والبرد. يركب بارور و(ال�صبي) �أحد المركبين الخ�شبيين البدائيين اللذين يحمل كل منهما �ستة �صيادين ال �أكثر ،ي�ضطلع كل محددة ال ينبغي �إهمالها و�إال منهم بمهمة ّ تعر�ضوا جميع ًا لخطر الموت ،خا�صة و�أن �أي ًا ّ مجدفين، منهم ال يجيد ال�سباحة .ينطلقون ّ على �أن يعودوا بعد �أن يفردوا �شراعهم، محملين بغاللهم. ت�سوقهم الريح هذه المرةّ ، القد لي�س �صعب ًا �أو م�شاك�ساً ،كما و�سمك ّ يخبرنا الراوي ،بل �إنه (ي�سبح طوال حياته فاتح ًا فاه على مداه ،فهو �شره ب�شكل يعدو الحية ،با�ستثناء الإن�سان �شراهة كل الأنواع ّ بالطبع ،ويبتلع كل ما ي�صادفه في الطريق، وال ي�شبع �أبداً) ...لكن بارور الذي يكره ال�صيد يحب �سوى ال�شعر ،يرافقهم لكي ي�سترزق وال ّ يردد خالل عمله مقطع ًا من ال �أكثر ،لذا تراه ّ ق�صيدة ميلتون: (ي�أتي الم�ساء /ملقي ًا قلن�سوته /الملأى بالظالل /فوق كل �شيء /ي�سقط ال�صمت/ وتلتف على ذات��ه��ا /البهيم ُة على �سرير ّ ع�شه /لراحة ليلية). التربة/ والع�صفور في ّ ُ بيد �أن الكلمات التي يع�شقها ب��ارور، لن تنقذه هذه المرة ،بل هي �ستكون �سبب وتهب العا�صفة، موته حين �سينقلب الطق�س، ّ وت�صفر الريح ويعلو الموج ،فيبت ّل ال�شاب وينتهي ميت ًا من البرد لأنه لم يجلب معه �سترته الواقية ،تلك التي �أن�ساه ال�شعر �إياها. �أما (ال�صبي)؛ ف�ست�سوء حاله جداً بعد موت �صديقه الأوحد ،و�سيت�ساءل عن معنى البقاء بعده على قيد الحياة( .لقد مات لأن��ه قر�أ ق�صيدة .بع�ض الق�صائد تقودنا �إل��ى تلك الأمكنة التي ال تبلغها كلمات� ،أو �أفكار، �إنها تقودنا �إل��ى الخال�صة� ،إل��ى الجوهر. الحياة تجمد خالل لحظة وت�صبح جميلة، �صافية ،خالية من الح�سرات �أو ال�سعادة. تغير نهارك ،ليلك ،حياتك. هناك ق�صائد ّ بع�ضها ي�أخذك �إلى الن�سيان ،فتن�سى حزنك، ي�أ�سك� ،سترتك الواقية ،يقترب البرد منك :لقد �أ�صبتك ،يقول لك ،وها �أنت ميت)... يقرر (ال�صبي) �أخيراً البحث عن القبطان ّ
نجوى بركات الأعمى الذي كان قد �أعار بارور الملحمة ال�شعرية ،لكي يعيد �أمانته �إليه� ،أي الكتاب، الق�سم الثاني من الرواية. فيبد�أ مع رحلته تلك ُ فالق�سم ال ّأول هو رحلة فعلية في طبيعة قا�سية ،متوح�شة ،معزولة عن الح�ضارة (في بداية القرن التا�سع ع�شر) ،حيث ال�ضباب عالق بين البحر والجبل ،وحيث العتمة �أكثر ح�ضوراً من النور ،وحيث (ت�أتيك رغبة النوم ما �أن تراودك فكرة اال�ستيقاظ والنهار الذي يعلن عن قدومه)( .من جهة ،هنالك البحر، ومن الجهة الأخرى ،جبال �شاهقة كال�سماء: هذا هو كل تاريخنا) .هي �إذاً بالد ك�أنها في نهاية العالم ،ذات طبيعة عدائية ،باردة، تغمرها الثلوج ،ويبدو الإن�سان �أمامها ه�شاً، �ضعيفاً ،ال �شيء( .الجبال تغرق في المياه)، مزرق من البرد)� .أما الق�سم الثاني؛ و(البحر ّ فهو رحلة داخلية ،رحلة بحث عن معنى الحياة والموت ،يقوم بها (ال�صبي) بحث ًا عن قبطان فقد ب�صره ،ليعيد �إليه كتاب ًا �أ ّلفه �أعمى ثانٍ (فقد ال�شاعر جون ميلتون ب�صره تمام ًا وهو في الأربعين) ،ليكت�شف �إن كان مازال يقوى على العي�ش �أو يملك رغبة اال�ستمرار في الحياة ،بعد موت �صديقه. هنا ربما يكمن معنى الرواية �أو �س�ؤالها الحقيقي :ه�شا�شة الحياة وحتمية الموت، وذلك الخيط الرفيع الذي ي�صل ما بينهما. وه��و �س�ؤال ينطبق على جميع الكائنات: ال�ضاج على بارور ،ال�شاب المتعافي الجميل ّ القد التي بالحياة والرغبة ،وعلى �سمكة ّ ت�سبح �سعيدة قبل �أن تختطفها �صنارة ال�صياد ،وعلى الكلب الذي �سيبتلعه القر�ش ال�ص َدفة الملقاة على في لحظة� ،أو حتى على َّ ال�صخور الباردة التي تتقاذفها الأمواج.
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
95
الإ�سكندرية عالمي الأدبي
الـروائـي م�صطفى ن�صر :تـكريـم ال�شارقة الثقافي توج م�سيرتي الأدبية الروائي م�صطفى ن�صر مواليد (� 30أغ�سط�س 1947م) بمدينة الإ�سكندرية ..وفدت �أ�سرته من جهينة محافظة �سوهاج جنوبي م�صر ،وح�صل على دب��ل��وم ت��ج��ارة عام (1965م) ،وك��ان �آخ��ر عمل وظيفي تقلّده مدير �إدارة ب�شركة ال��ورق الأهلية ،وه��و ع�ضو اتحاد كتّاب م�صر، وع�ضو نادي الق�صة.
خليل الجيزاوي
�أ���ص��در �سبع م��ج��م��وع��ات ق�ص�صية: (االختيار ،حفل زف��اف ،وجــوه الطيور، حجرة وحيدة ،حكايات زواج العباقرة، والم�شاهير� ،سيدة القطار) ،و�أ�صدر �سبع ع�شرة رواي��ة( :ال�صعود فوق ج��دار �أمل�س، ال�شركاء ،جبل ناع�سة ،الجهيني ،الهماميل، النجعاوية� ،شارع � ،8إ�سكندرية � ،67سوق عقداية ،ليالي الإ�سكندرية ،ظم�أ الليالي، ليالي غربال� ،سينما �إل��دورادو ،الم�ساليب، يهود الإ�سكندرية ،دفء المرايا ،ال�ستات)، وتم تكريمه في ملتقى ال�شارقة للتكريم الثقافي بالقاهرة في �سبتمبر (2021م). حول م�شروعه الروائي وتكريم دائرة الثقافة كان لنا معه هذا الحوار..
¯ كيف تلقيت خبر تكريمك في ملتقى ال�شارقة الثقافي في المجل�س الأعلى للثقافة؟ فوجئت بخبر غير متوقع �أن دائرةالثقافة بال�شارقة اختارتني للتكريم تتويج ًا لم�سيرتي الأدب��ي��ة التي طالت ،فتكريمي وتكريم زمالئي دليل على �أن القائمين على الثقافة في ال�شارقة يح�سون بقيمة الثقافة و�أهميتها ،و�أنهم يعلمون �أن الثقافة ق��ادرة على ربط البالد العربية ببع�ضها بع�ض ًا ،ومن ح�سن حظنا �أن �صاحب ال�سمو ال�شيخ الدكتور �سلطان بن محمد القا�سمي ع�ضو المجل�س الأع��ل��ى حاكم ال�شارقة، يحب الفنون ب�أنواعها ،ويقدر قيمة الأدباء في كل الدول العربية ،فبف�ضله يتم تكريم الأدب��اء في بالدهم وبين �أهاليهم تقديراً لهم ،ما ي�ؤكد مدى ثقافة حاكم ال�شارقة وق��درت��ه على تمييز الأدب ال��ج��اد ..نعم كان التكريم مفاج�أة غير متوقعة ،خا�صة للأدباء الذين يعي�شون خارج القاهرة� ،أما عن اختيارنا لكي نكرم في ملتقى ال�شارقة للتكريم الثقافي ،الحظ �أن الأربعة المكرمين من خارج القاهرة ،وهو ما �أثلج �صدورنا وعو�ضنا عن بع�ض التجاهل. 96
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
حوار ¯ هال حدثتنا عن بدايات التكوين الأدب��ي والوفاء للعادات والتقاليد ال�صعيدية على الرغم من �أنك ولدت بالإ�سكندرية؟ لقد ولدت في الإ�سكندرية ،لكنني ع�شتمع �أهلي الذين جا�ؤوا للإ�سكندرية من ال�صعيد ك��ب��اراً ،وعندما ماتت �أم��ي ف��ي ب��داي��ة عام (1956م)� ،أخذتنا جدتي لنعي�ش معها في حي غربال ،وهو حي يجمع الكثير من المراغية من �أهل بلدتنا ،فع�شت معهم وك�أنني �أعي�ش في المراغة .فكتبت روايتي (الم�ساليب) ،وقال لي عبدالوهاب الأ�سواني :كنت �أريد �أن �أكتب عنهم، لكن �أنت �سبقتني .وقال لي �إيهاب م�صطفى وهو �صحافي من �أ�صل �صعيدي :كنا نعي�ش معهم في ال�صعيد ولم نكتب عنهم ،و�أنت الذي تعي�ش في الإ�سكندرية كتبت عنهم! ¯ هل هناك بالفعل �أدب��اء مفرو�ضون على ال�ساحة الثقافية كما جاء بروايتك (�سينما �إلدورادو) التي �صدرت عام (2006م)؟ طبع ًا الدكتور �سيد حامد الن�ساج قال�أمامي �إنه يكتب �أمام كل كاتب ن�شر ق�ص�صه في عهد من؛ ليحدد الزمن والمناخ الذي ن�شرت فيه الق�صة ،وهذا وا�ضح جداً في بع�ض الجرائد والمجالت الأدبية ،عندما ي�سيطر البع�ض على و�سائل الن�شر. ¯ تدور معظم رواياتك بمدينة الإ�سكندرية.. م���اذا ُت��م� ّث��ل ل��ك الإ���س��ك��ن��دري��ة؟ ول��م��اذا لم تغادرها للقاهرة كما فعل بع�ض الأدب��اء؟
عزت عو�ض اهلل
�إدوارد الخراط
خيري �شلبي
�صالح عبدال�سيد
الحظت �أن كل �إن�سان يتعلق بالمدينةالتي ن�ش�أ وعا�ش فيها طفولته ،فكثير من �أقاربي ال�صعايدة الذين جا�ؤوا للإ�سكندرية بحث ًا عن العمل ،يعودون لبالدهم عندما يقترب �أجلهم، يف�ضلون �أن يدفنوا في البالد التي ولدوا ون�ش�ؤوا فيها ،لكن الأمر يختلف مع الإ�سكندرية ،فهي �أكثر مدينة في العالم ت�ستحق �أن تحب جوها وتخطيطها ،وتاريخها ال�سكندري يمتلك قدرة عالية على ال�سخرية ،ومعا�شرته للجاليات الأجنبية المتعددة� ،أعطته قدرة هائلة على حب الفن وتقديره له ،و�أنا عا�شق للإ�سكندرية ،كتبت عن كل �شيء فيها ،مقاهيها وحدائقها وك ّتابها و�شوارعها� ..أي �شخ�ص �أكت�شف �أنه من �أ�صل �سكندري� ،أح�س ب�أنه يخ�صني ،لقد كتبت عن مطربيها :بدرية ال�سيد وعزت عو�ض اهلل ،وع���ن م��ؤل��ف��ي الأغاني والملحنين، وقد عر�ض �صديقي نجيب محفوظ ال� ��ك� ��ات� ��ب ���ص�لاح عبدال�سيد �أن �أعمل م ��ع ��ه ف����ي �إدارة الأدب ،لكني خفت م��ن التجربة ،ف�أنا م����ت����زوج وع ��ن ��دي �أ���س��رة ،فال �أ�ستطيع ال ��م ��غ ��ام ��رة ب��ت��رك د� .صالح ف�ضل مدينتي الإ�سكندرية.
(حي بحري) يمثل �أهمية كبيرة للإ�سكندريين وكتبت روايتي (�إ�سكندرية )٦٧عنه لكنني لم �أ�سكنه �أبداً
نجيب محفوظ قال في �أحد البرامج الإذاعية �إن روايتي (الهماميل) لفتت نظره
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
97
حوار ¯ في روايتك (عيون البحر) ت��ح��دث��ت ك��ث��ي��راً ع��ن (ح��ي بحري) ال��ذي تحبه كثيراً.. كيف ي�ش ّكل المكان م��ادة روايتك؟! الإ�سكندرية مع�شوقةك ��ل ال��م�����ص��ري��ي��ن ،ومعظم �شعراء م�صر تغزلوا في جمال الإ�سكندرية ،وال �أعتقد �أن هناك �أديب ًا م�صري ًا ال يعرف الإ�سكندرية كل المعرفة ..هذا بالن�سبة �إل��ى ال��م��دن ،وحي بحري يمثل بالن�سبة �إل��ى ال�سكندريين الأهمية نف�سها، ف�أنا لم �أ�سكن ط��وال عمري في حي بحري؛ لكنني �أعرفه جيداً ،وعندما كتبت روايتي (�إ�سكندرية )67التي ت��دور في حي بحري، تقابلت مع الم�ست�شار محمود بيرم ،ب�صحبة الكاتب �إدوارد الخراط ،وقال محمود بيرم لي: �أنت من حي بحري؟ وانده�ش عندما قلت له :ال، ف�صاح في حدة� :إزاي الكالم ده؟! ما ذكرته في روايتك ي�ؤكد معرفتك بحي بحري ..قال لي �إنه قر�أ الرواية و�أر�سلها لأخته التي تعي�ش خارج م�صر ،واتفقا على �أنني من �سكان حي بحري، فقلت له �أنا كنت �أذه��ب كل يوم لحي بحري لمقابلة �أ�صدقائي هناك ،وحي بحري يجمع بين الأر�ستقراطية وال�شعبية ،ففيه �صيادو ال�سمك الفقراء ،وفيه �أي�ض ًا رجال �أعمال �أغنياء، والكثير من نجوم ال�سينما من حي بحري، والكثير من العبي الكرة الم�شهورين �أ�ص ًال من حي بحري ،وك��ل من يقر�أ رواي��ات��ي عن حي بحري ،يظن ب�أنني ولدت وع�شت عمري كله فيه. ¯ هل بالفعل الحركة النقدية تتجاهل ما ي�صدر من �إبداع خارج مدينة القاهرة؟! طبع ًا هناك مثل يقول (البعيد عن العين..بعيد عن القلب) ،كتبت روايتي (الهماميل) و�صدرت عام (1988م) في رواي��ات الهالل، وعندما �س�ألوا نجيب محفوظ ف��ي برنامج (�سمار الليالي) :ما الرواية التي لفتت نظره بعد ح�صوله على ن��وب��ل؟ ق��ال (الهماميل) لم�صطفى ن�صر ،وكثيرون اهتموا بها وقالوا �سنكتب عنها ،لكن لم يحدث؛ لأنني بعيد عنهم، 98
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
الإ�سكندرية فيها عدد كبير من كتاب الق�صة وال��رواي��ة الجيدين؛ لكن حركة النقد لي�ست قادرة على االهتمام بكم الق�ص�ص والروايات. ¯ كيف تابعت الحركة النقدية �أعمالك الأدبية؟ وهل و�ضعتك في مكانك ال�صحيح بين ك ّتاب الرواية؟! الحمد هلل ،خيري �شلبي كتب مقالةفي مجلة الإذاع ��ة والتلفزيون عن روايتي (الجهيني) ،بما يعني �أنني �أف�ضل روائ��ي يعي�ش الآن في الإ�سكندرية ،وقابلني في م�ؤتمر بدمياط ،فقال لي( :ياااه على ما فعلوه فيه ،كيف تقول عنه هذا الكالم؟!) .كتاب من الإ�سكندرية قابلوه والم��وه ،لأن��ه كتب هذا، وتكرر �أي�ض ًا عندما كتب الدكتور �صالح ف�ضل مقالة عن روايتي (يهود الإ�سكندرية) بعنوان: كبير �أدب ��اء الثغر ،لقد الم��ه البع�ض لذلك، وحكى لي عبدالوهاب الأ�سواني ب�أنه عقب قراءته لروايتي (جبل ناع�سة) تذكر ما حدث بين ال�شاعرين جرير وعمر بن �أبي ربيعة الذي كان في بداية �شاعريته ،وكلما كتب ق�صيدة، يعر�ضها على جرير� ،أ�ستاذه ،فيعيدها جرير قائ ًال( :قري�ش لم تنجب �شاعراً)� .إلى �أن و�صل عمر بن �أب��ي ربيعة لدرجة الكمال ،ف�صاح جرير قائ ًال�( :أول مرة قري�ش تنجب �شاعراً). قال لي عبدالوهاب الأ�سواني :لقد تراجعت عن ذكر هذا ،حتى ال �أغ�ضب باقي الروائيين ال�سكندريين.
�أثناء التكريم بح�ضور وزيرة الثقافة والعوي�س والق�صير
ع�شت مع جدتي بعد وفاة �أمي في (حي غربال) �إذ ي�ضم الكثيرين من �أهالي بلدنا (مراغة)
خيري �شلبي كتب مقالة في �إحدى المجالت الم�صرية معتبراً �إياي �أهم روائي �سكندري
مقاالت �ضفاف
د .عمر فروخ م�ؤرخ الوجدان الأدبي كانت الكتابة و�سع �أحالمه ،فكان و�سع ف�ضاءاتها ال�شا�سعة ،تحمله �إل��ى م�شارف �أزمنتها ،فيحملها �إلى م�شارف ر�ؤيته فل�سفة وتاريخ ًا ونقداً ودرا�سة و�أدب�� ًا ،دليله �إيقاع روح��ه المن�سجم مع �إي��ق��اع الإن�سانية ،كان مو�سوعي المعرفة ،مو�ضوعي ًا ف��ي البحث والنقد ،والحوار المعرفي. �أراد �أن ي�ؤرخ للذاكرة العربية ،لي�ضع تلك الذاكرة في مقامها الالئق على ال�سلم الح�ضاري، فقر�أ التاريخ لي�ؤوله بالح�ضارة ،وليختبر الح�ضارة في ذاك��رة التاريخ ،فالتاريخ كما يرى لي�س �سرداً للأخبار والأحداث المت�شابهة، بل هو و�صف الأدوار التي قامت الأم��م في �أثنائها برفع بناء الح�ضارات ،وبالتالي ،ف�إن (تاريخ الأمم �إنما هو تاريخ ح�ضارتها ،وعظمة الأمة من�سوبة �أبداً �إلى طول الفترة التي كانت قد حملت فيه م�شعل الح�ضارة) .فالميزان الح�ضاري هو الذي يحدد معيارية التاريخ في الم�شهد الإن�ساني. وبرغم تعدد منجزه الكتابي وات�ساع �أفقه البحثي ،ف ��إن معياره الح�ضاري في ق��راءة التاريخ والأدب والثقافة كان الرهان الأكثر ا�ستجابة لمنظوره الثقافي ،لأن��ه ينظر �إلى الثقافة من جانبها الإن�ساني ،لذلك؛ فحيثما ت��رد كلمة التاريخ في م�ؤلفاته ،تعني الأث��ر الح�ضاري ،بهذا المعنى ال يعني تاريخه للأدب �أو للفكر �أو لل�شعر ،الجمع والت�صنيف والنقل، بل يعني البحث والت�أمل في ذاكرة التاريخ عبر منهج اختار �أن يكون عربي ًا خال�ص ًا. ل��ذل��ك؛ ح��ي��ن �أراد ���ص��اح��ب (ال��ح�����ض��ارة الإن�سانية وق�سط العرب فيها -تاريخ العلوم عند العرب -الفل�سفة اليونانية في طريقها �إلى العرب� -أثر الفل�سفة الإ�سالمية في الفل�سفة الأوروبية)� ،أن يبين ف�ضل العرب على الح�ضارة الإن�سانية ،اختبر فعلهم في الأث��ر الح�ضاري الإن�ساني دون �أن ي�ستغرق في م��دح ال��ذات، ودون �أن يطرب لمقوالت المديح التي كان يطلقها بع�ض الم�ست�شرقين على العرب ،بل كان مو�ضوعي ًا في طرحه و�آرائه ،كي ي�ضع الأ�شياء في مقامها من الوعي الح�ضاري ،فالعرب،
يعنى بالبحث في ذاكرة التاريخ بمعيار عربي ح�ضاري
كما ي��رى د.ع��م��ر ف ��روخ ،ال��ذي��ن فتحوا �أم��ام التفكير الأوروبي �آفاق ًا جديدة من المعرفة (لم ي�ستفيدوا من نتاج الفكر الب�شري فقط ،بل قاموا بدورهم بتنمية هذا النتاج و�إعداده لت�ستفيد منه ال�شعوب الأخ��رى) .فقد كان هدفه من درا�سة العبقرية العربية في التاريخ والعلوم والفل�سفة والأدب في ما�ضيها� ،أن يم ّكن ذلك اال�ستناد �إلى الما�ضي في ذاكرة الأجيال ..وح�سب برغ�سون؛ قوة اال�ستناد هي التي تحدد قوة االندفاع نحو الم�ستقبل (فالأمم رهينة بحياة تراثها ،ف�إن الأمة التي ال تراث لها ال تاريخ لها ،والأمة التي ال تاريخ لها لي�ست �إال كت ًال ب�شرية ال وزن لها في ميزان الأم��م) .لذلك يرى �صاحب (عبقرية اللغة العربية) �أن اللغة هي المنطلق لت�أ�صيل هذا اال�ستناد (فال�شعب الذي يفقد لغته يفقد كيانه ثم يمحى هو نف�سه من ذاكرة التاريخ). بهذا المقيا�س �أي�ض ًا ،نقر�أ كتابه المو�سوعي (تاريخ الأدب العربي) بمجلداته ال�ستة ،حيث لم يكن فيه مجرد جامع وناقل وم�صنف، بل ك��ان يختبر الكثير من الق�ضايا الأدبية والتاريخية في مختبره الخا�ص ،ليقدم ر�أيه ور�ؤيته الخا�صة التي تجعل من كتاباته معين ًا خ�صب ًا للدر�س النقدي والتاريخي ،محاو ًال �أن يبني منهج ًا عربي ًا خال�ص ًا في تاريخ الأدب ،ال ي�أخذ من المناهج الغربية �إال ما ينق�ص المنهج العربي ،دون �أن ينكر ف�ضل من �سبقه في هذا المجال؛ كالم�ؤرخ الألماني كارل بروكلمان في كتابه (ت��اري��خ الأدب العربي) وجرجي زيدان في كتابه (تاريخ �آداب اللغة العربية)، �إال �أنه �أراد في كتابه �أن يقدم �إ�ضافة منهجية وعلمية �إلى من �سبقه ،بدرا�سته التي ال تقف عند الترجمات ال�شعرية فح�سب ،بل تغطي مختلف الحياة االجتماعية واالقت�صادية وال�سيا�سية لكل �شاعر �أو �أدي��ب ،ف�ض ًال عن منهجيته في ترجماته ل�ل�أدب��اء ،التي ق�سمها �إل��ى �أربعة �أق�سام( :حياة الأديب -خ�صائ�صه -المختار من �آث ��اره -الم�صادر والمراجع لدرا�سته)، ليقرب المو�ضوع للدار�سين والباحثين ويب�سط ذخائر الجانب الوجداني من الأدب العربي للمطالعين ،وبالتالي ليكون ه��ذا الكتاب المو�سوعي مرجع ًا مهم ًا� ،سواء بمنهجيته، �أو بمعياريته في اختيار الن�صو�ص و�شرحها �شرح ًا واف��ي � ًا لغوي ًا وفني ًا وب�لاغ��ي� ًا ،دون االلتفات �إلى كثرة الإنتاج الإبداعي �أو قلته، ٍ بترجمات ل�شعراء لم وبهذا ينفرد كتاب فروخ
د .بهيجة م�صري �إدلبي يتعر�ض لهم م�ؤرخو الأدب من قبله ،كما يتفرد بمختبره التاريخي والح�ضاري والفني .وهنا نفهم لماذا �أراد فروخ �أن يختار ال�شعراء �أو الأدباء الذين كان لهم نتاج وجداني ،و�أهمل من كان ظهورهم لغايات بعيدة عن المنجز الأدبي الجمالي والوجداني ،لأنه يريد �أن ي�ؤرخ للوجدان الأدبي ،عبر معيار جمالي ينه�ض من فنية ذلك الخطاب ومن خ�صو�صيته في النتاج الإن�ساني. لعمر فروخ �أكثر من مئة كتاب مطبوع، تنوعت بين الفل�سفة والتاريخ والأدب ،منها: (تاريخ الأدب العربي ب�ستة مجلدات -تاريخ الفكر العربي -التب�شير واال�ستعمار -الأ�سرة في ال�شرع الإ�سالمي -تجديد في الم�سلمين ال ف��ي الإ����س�ل�ام -ال��ع��رب ف��ي ح�ضارتهم وثقافتهم -الت�صوف في الإ�سالم -الإ�سالم والتاريخ) .وكتب كثيرة في التراجم منها: (�صخر بن حرب� -سهيل بن عمرو -عمر بن �أب��ي ربيعة -ب�شار بن ب��رد� -أب��و تمام� -أبو العالء المعري -ابن زي��دون -ابن الرومي- اب���ن ح����زم -اب���ن خ���ل���دون -ال��ح��ج��اج بن يو�سف الثقفي -الفارابيان :الفارابي وابن �سينا� -إخ��وان ال�صفا)� ،إ�ضافة �إل��ى ال�شعراء المعا�صرين�( :أحمد �شوقي� -إبراهيم طوقان- �أب��و القا�سم ال�شابي) ،ف�ض ًال ع��ن درا�ساته المختلفة في الت�صوف والر�سائل والمقامات وال�شعر الحديث ،دون �أن نغفل الكتب المدر�سية للمرحلة االبتدائية ،و�أخرى للمرحلة الثانوية، في اللغة العربية والفل�سفة والتاريخ .ليقدم في كتابه (غبار ال�سنين) ف�صو ًال ومحطات م��ن �سيرته ال��ذات��ي��ة ،التي كانت حافلة في الفكر والر�ؤية والتربية والتعليم ،ليكون (غبار ال�سنين) في مختبر الأجيال القادمة ،وهي تنف�ض الغبار عن ذاكرة اختبرت ذاكرة التاريخ والح�ضارة في معيارية الإن�سان.
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
99
ثقافة عالم البحار
حامد جوهر
رائد البحريات وفار�س البالغة الأدبية عرفناه بذلك البرنامج الممتع (عالم البحار) الذي ب���د�أ يقدمه على �شا�شة ال��ق��ن��اة الأول����ى بالتلفزيون الم�صري ع��ام (1973م) ،وه��و البرنامج الأ�سبوعي ال����ذي واظ����ب ع��ل��ى �إع������داده وت��ق��دي��م��ه ح��ت��ى واف��ت��ه ال��م��ن��ي��ة� ..إن���ه ح��ام��ل ل���واء (الأوق��ي��ان��وغ��راف��ي��ا)� ،أو ع��ل��م ال��ب��ح��ار ال����ذي وه��ب��ه ح��ي��ات��ه ك��ل��ه��ا� ،إن����ه ح��ام��د جوهر فهو لي�س مجرد �أ�ستاذ جامعي بل هو مو�سوعة
100
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
جاء �إل��ى الدنيا في ( 14نوفمبر عام 1907م) بالقاهرة ،وهو �أي�ض ًا الأديب الذي كان �ضليع ًا في اللغة العربية؛ حيث قر�أ لأحمد �شوقي وحافظ �إبراهيم ،ومن القدامى �أعجبه البحتري و�أبو تمام وابن المعتز ،كما ت�أثر بالمنفلوطي ومحمد المويلحي و�أحمد ح�سن الزيات و�أحمد �أمين. حاتم ال�سروي تمتع جوهر �إذاً بذخيرة �أدبية �أهدته ب�شرية ناطقة .قلم ًا ر�شيق ًا و�أ�سلوب ًا ف�صيح ًا في م�ؤلفاته العلمية التي ن�ستفيد منها ويطربنا ما فيها من جزالة العبارة وبالغة المعنى، وقد واتته هذه المهارة اللغوية من مدر�سة الجمعية الخيرية الإ�سالمية االبتدائية التي تعلم فيها �أو ًال ،ثم التحق بعدها بالمدر�سة الملكية الثانوية ،وفيها التقى �أ�ستاذه عبداهلل العفيفي الذي م ّكن حب العربية في قلبه ،وحب الثقافة عام ًة. بد�أ جوهر طالب ًا في كلية الطب ،وبعد عام واحد فقط من درا�سته فيها �أن�شئت كلية العلوم فقرر الذهاب �إليها ،ولم يكن وهم (كليات القمة) حينها قد تمكن من العقول بعد ،كما كانت لكلية العلوم �أهمية ت�ضاهي ما لكلية الطب من �أهمية في وقتنا هذا، و�ضمن �أول دفعة للكلية عام (1929م)، ت��خ��رج ب��ام��ت��ي��از م ��ع م��رت��ب��ة ال�����ش��رف، وتخ�ص�ص في ثالثة علوم دفعة واح��دة، وهي( :الحيوان -النبات -الكيمياء) ..ثم عمل معيداً بالكلية ،ونال درجة الماج�ستير في (ف�سيولوجيا الحيوان) عن �أطروحته ال��ت��ي ج ��اءت ب��ع��ن��وان (الت�شريح الدقيق وه�ستولوجيا الغدد ال�صماء في الأرن��ب)، وكان م�شرفه العالم ال�سوي�سري المرموق (البروفي�سور �أدولف نيف) والذي كان ير�أ�س وقتها ق�سم علوم الحيوان. وبرغم �أن �أطروحته الآن��ف��ة هي �أول ر�سالة يتم تقديمها لكلية العلوم لنيل درجة الماج�ستير منذ �إن�شائها ،ف�إنه قرر �أن يتحول
�شخ�صيات
�إل��ى عالم البحار بعد �أن ا�ستهوته الكائنات البحرية في البحر الأحمر ،وقد ُع ِّين م�ساعداً لمدير محطة الأح��ي��اء البحرية الإنجليزي بالغردقة (د� .سيريل كرو�سالند) ،وهناك تابع بحوثه على �أحياء البحر الأحمر ،وتو�صل �إلى نتائج مهمة ن�شرها في مجلتين �شهيرتين ب�إنجلترا هما (مجلة الطبيعة ،ومن�شورات االتحاد البيولوجي البحري بالمملكة المتحدة). وقد و�صلت هذه النتائج �إلى المخت�صين في علوم البحار والمهتمين بدرا�سة (الجوف َم َعو َِّيات) ،وال �سيما نتائج �أبحاثه على �أنواع
مدينة الغردقة في البحر الأحمر
جديدة من المرجانيات اللينة ،فعرف بها ك ٌل من :رئي�س ق�سم علم الحيوان بجامعة كامبردج البريطانية (ال��دك��ت��ور ج��اردن��ر) ،والرئي�س ال�سابق للق�سم (الدكتور هيك�سون) ،وكان هذا المجال مو�ضع اهتمامهما فدعياه �إلى جامعة كامبردج ليكون باحث ًا زائ��راً لها ،وبالفعل �سافر �إلى هناك عام (1937م) ،و�أم�ضى قرابة عامين في بريطانيا ،وتعلم المزيد و�أث��رى �أبحاثه التي جعلت علماء تلك البالد يطلبونه ود َ�أ ِب ��ه ،وكان في بلهفة لي�ستفيدوا من علمه َ بريطانيا ع��دد من المراجع بالغة الأهمية والتي لم تكن متوافرة في م�صر� ،إ�ضافة �إلى م��ج��م��وع��ات للعينات المرجعية ،كما �أن��ه زار ع����دة م�����رات م��ت��اح��ف ال��ت��اري��خ الطبيعي في لندن و�أدن��ب��ره وبرلين وباري�س وفيينا وغيرها، ثم �إنه �أعد النتائج التي تو�صل �إليها في المعاهد والمتاحف التي زاره��ا للن�شر.
من مقتنيات عالم البحار حامد جوهر
ا�شتهر من خالل برنامجه الأ�سبوعي الجماهيري (عالم البحار)
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
د .حامد جوهر
101
�أثار �إعجاب �أ�ساتذته الإنجليز �أثناء درا�سته وعمله
وفي �أكتوبر من عام (1938م) ،عاد �إلى وطنه وت��ول��ى من�صب مدير محطة الأح��ي��اء المائية بالغردقة ،ونجح في ذلك نجاح ًا الفت ًا، برغم �أن الإنجليز حين تولى �إدارة المحطة قالوا :كيف يمكن لم�صري �أن يتحمل ق�سوة الحياة في تلك المنطقة النائية المنعزلة؛ لهذا علي �أن تكون ه��ذه هي وجدناه يقولَ : (ع � َّز َّ النظرة �إلينا ،ولأنني كنت �أول م�صري يتولى هذه الوظيفة فقد ر�أيته تحدي ًا ال بد من قبوله، وال بديل �أمامي عن النجاح). وف��ي مطلع (1940م) ،ن��ال عن �أبحاثه التي عاد بها من بريطانيا درجة الدكتوراه في العلوم ،وهي مرحلة علمية ودرجة �أرقى من دكتوراه الفل�سفة التي يح�صل عليها معظم الباحثين في تخ�ص�صاتهم ،ويخبرنا الدكتور محمد فتحي فرج �أن جوهر بذلك هو �أول من ح�صل على الدكتوراه من خريجي الجامعات الم�صرية ،وكان عمره وقتها ( )33عام ًا فقط، مع العلم �أن الدكتور طه ح�سين -وهو �أول م�صري يح�صل على الدكتوراه� -إنما ح�صل عليها من فرن�سا. وتحت عنوان (�شهادة عالمة �أمريكية) يعر�ض لنا الدكتور محمد فتحي فرج في كتابه (فر�سان الثقافتين� ..أدباء العلماء) ر�أي عالمة بحار �أمريكية في الدكتور جوهر؛ حيث كانت قد اط َلعت على �أبحاث جوهر البحرية التي �أجراها َّ في محطة الغردقة ،وتم ن�شرها في مجالت عالمية وهي حول العالقة بين الأ�سماك ،ال �سيما تلك ال�سمكة المعروفة بالمهرجة ال�صغيرة Clown fishو�شقائق النعمان ،Anemones وات�ضح للعالمة الأمريكية ال�شبه الكبير بين 102
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
البحر الأحمر ،والمياه اال�ستوائية في المحيط وده�شت ه��ذه الدكتورة الأمريكية ال��ه��اديُ ، �أول من تعرف �إلى وا�سمها «�أوجيني كالرك» حين علمت �أنه منذ �أكثر من ( )70عام ًا لم ُتك َتب تقارير علمية عن (عرو�س البحر) مع بالواليات �أ�سماك هذا البحر ،و�أن المتاحف العالمة الأمريكية المتحدة لي�س فيها مجاميع تمثل �أحياء �أوجيني كالرك هذه النواحي ،وكان عمل الدكتور جوهر في الأ�سا�س من�صب ًا على المرجانيات �أكثر من الأ�سماك ،فتراءى للدكتورة �أوجيني �أن تقارن بين �أ�سماك البحر الأحمر و�أ�سماك المحيط الهادي ،لهذا كتبت فوراً لجوهر ،وعلمت من رده �أن محطة الأح��ي��اء البحرية في الغردقة على �ساحل البحر الأحمر تقدم كل الت�سهيالت للزائرين العلميين ،و�أن��ه��ا ترحب ب��ال��دك��ت��ورة الأم��ري��ك��ي��ة، فو�صلت �إلى القاهرة م�ساء يوم عيد الميالد من عام (1950م) ،وبعد �أ�سبوعين و�صلت �إلى محطة الأحياء �أحمد �شوقي حافظ �إبراهيم ال��ب��ح��ري��ة ف��ي ال��غ��ردق��ة، وهالها �أن ترى لأول مرة (عرو�س البحر). وال�س�ؤال ال��ذي يطرح نف�سه طبع ًا :ما هي عرو�س البحر؟ كانت �أوجيني تنظر �إل���ى ع��رو���س ال��ب��ح��ر في الأع���ل���ى ح��ت��ى ت ��أل��م��ت رقبتها! غلبتها الده�شة �أوجيني كالرك �أحمد ح�سن الزيات
�شخ�صيات
حتى جعلتها تردد wonderfulكل ثانيتين! لقد ر�أت مخلوق ًا قائم ًا و�صل طوله �إلى ()11 قدم ًا ،وله وج ٌه جامد غريب ال يعبر عن �شيء، بعينين �صغيرتين ،من ال�صعب ر�ؤيتهما �إال بالفح�ص القريب ،وذراعاه ت�شبهان المطارف ظاهري ًا ولو �أن التركيب العظمي يدلنا على �أ���ص��اب��ع ك��ان��ت ف��ي �أج����داد ذل��ك ال��ك��ائ��ن ثم طرف حلمة ثدي كبيرة، تدهورت ،وتحت كل ُم َ وبهذا يكون ذلك الكائن �أنثى ،وي�ستدق الج�سد الناعم ال�ضخم تدريجي ًا حتى ين�ساب في �آخره، وينتهي �إل��ى زعنفة ذيل بحجم �صغير ي�شبه زعنفة �سمكة مو�سى .هذه العرو�س التي �أده�شت �أوجيني كانت �صلعاء الر�أ�س ،ولها �شعر حول الفم على �شكل �شارب �شعراته خ�شنة و�صلبة. �س�ألت �أوجيني جوهر فقال :هذه عرو�س
د .حامد جوهر �أثناء درا�سته الجامعية و�أيام �شبابه
البحر ،لقد ح�سب النا�س �أن عرائ�س البحر انقر�ضن من البحر الأحمر حتى اكت�شفناهن نحن ب�شباكنا ..ثم برقت عيناه ال��زرق��اوان، وظهر الجد في لحيته الحمراء التي بد�أ يخالطها ال�شيب.. في مذكراتها �أو�ضحت لنا �أوجيني �أن هذا المخلوق �أنثى من �سمك (الأطوم) والتي ت�سمى �أحيان ًا بـ(بقرة البحر) �أو عرو�س البحر ،وقد ف�ضل جوهر اال�سم الأخير ،لأن كلمة عرو�س البحر تملأ خيال �سامعيها لأول وهلة ب�صور جميلة ورائعة ومثيرة لل�شعور بالرقة والت�أمل، ف ��إذا داخلهم ذل��ك ال�شعور خ��رج عليهم ذلك الوح�ش البحري ،وهذه الأنثى التي لها �شارب! ويميل جوهر �إلى �أن هذا المخلوق الغريب هو �أ�صل �أ�سطورة عرو�س البحر ،وربما �شاهدها ال��ب��ح��ارة ق��دي��م � ًا ،ولأن��ه��م ك��ان��وا يغيبون كثيراً عن زوجاتهم �سموها (عرو�س البحر) ،وبرغم �إطاللتها ٍ ظروف ما توحي الجريئة ،لكنها في بالأنوثة ،وه��ي من �أكبر و�أعجب �أحياء البحر الأحمر ،وقد افتتن بها جوهر ،الذي �أكد �أي�ض ًا �أنها واحدة م��ن �أح��ي��اء كثيرة تعد بالمئات، وتملأ النف�س عجب ًا و�إعجاب ًا بالبحر الأحمر وعالمه الرائع الفريد.
من المتحف
يعتبر مو�سوعة علمية �أدبية لم�ؤلفاته و�أطروحاته ودرا�ساته البحرية
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
103
مقاالت
المن�صف المزغني
الجاحظ قارئاً: عا�ش الجاحظ حياته الطويلة ومات على مقربة من بلوغ قرن من الزمان ،وا�شتهر ب��أن��ه ك��ان كاتب ًا محترف ًا وم��ن مجانين الكتب جمع ًا وق��راءة وج ��دا ًال ،وخا�ض في التاليف والت�صنيف والنظر والنقد وال�س�ؤال حتى �صار نجم ع�صره المزحوم بالمذاهب، وح� ّ�دق في ت�صادم الأق��وال والأف��ع��ال ،ولم يكف عن ال�س�ؤال الجريء والمقارنة الفاح�صة ّ وم��ق��ارع��ة الحجة بالحجة ،واال�ستطراد والتلميح والت�صريح ،ولكن -عموم قراء �سيرة الجاحظ عرفوا هذا الجاحظ �أي�ض ًا بالنهاية التي �أقفلت حياته الطويلة ،كما و�صلتنا للتخيل، وك�أنها لقطة (�سينمائية) باتت قابلة ّ لما انطوت عليه من �إمكان عقد القران بين الواقع والخيال في حياة الجاحظ : فهل �شيخنا الت�سعيني قد ق�ضى نحبه، حق ًا ،تحت كومة من الكتب كما ج��اء في متواتر الأخبار؟ وه��ل كانت نهاية �شخ�ص كبير ال�سن امتدت يده نحو كد�س والقدر ،قد بد�أت �ساعة ّ من الكتب في بيته ،وكان يرغب في �أن ي�ست ّل منها كتاب ًا ،فوقعت عليه مخطوطات ثقيلة، فان�سدت دونه نعمة الأوك�سيجين تحت وط�أة ّ الكتب ،ليوا�صل حياته بيننا عبر تلك الروح التي �أودعها في لطائف ت�آليفه وقطائف ت�صانيفه (وبع�ضها �ضائع في المكتبات الوطنية العربية والأوروبية ،وهذه حكاية �أخرى)؟ �رج��ح �أن ال��ج��اح��ظ ك��ان �شخ�صية ال��م� ّ
104
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
في القراءة والكتابة من الجاحظ �إلى الحا�سوب
واقعية وغرائبية في �آن ،وقد �أبى معا�صروه يتوجوا نهاية عمره بهذه الحادثة �إال �أن ّ الالئقة ب�شيخوخته ،وك ��أن الجاحظ �صار كتاب ًا ال ينتهي النا�س من البحث عنه �إال بين الكتب.
والن�سيان بعد ،ورغم مرور �أكثر من �ألف عام على تاريخ قوله ال�شعري. لقد �أ�شار المتنبي �إلى عالقته بالكتاب ق��راءة واطالع ًا عند ذك��ره للكتاب كما في قوله (وخير جلي�س في الأنام كتاب).
�أبو نوا�س والمطالعة: و�أم ��ا �أب��و الح�سن ب��ن ه��ان��ئ ،المك ّنى بـ (�أبي نوا�س) فله ق�صة معروفة مع الثقافة والتثقيف وال��ك��ت��اب ،وال ع�لاق��ة لحقيقة �صورته بما و�صلنا من ال��ذاك��رة ال�شعبية عامة النا�س .ويمكن الخفيفة الطريفة لدى ّ �أن يكون هذا ال�شاعر نموذج ًا رائع ًا لل�شاعر المثقف ال��ذي ك��ان يغتذي ب��ق��راءة ال�شعر والفل�سفة ،ويطلع على �أفكار ع�صره لي�صير ج��زءاً من الجدل ،وي�سمع �آراء مختلفة في �ش�ؤون الحياة ،يناق�شها بالحجة والنظر، وا�ستطاع �أن يتحدى الأدعياء �ساخراً: يدعي في الع َلم فل�سفة /حفظت (قل لمن ّ �شيئ ًا وغابت عنك �أ�شياء).
دون كيخوته من الكتاب �إلى الحراب: لقد �أراد ثيرفانت�س الإ�سباني �أن ي�سخر من بع�ض �أهل الفرو�سية في ع�صره ،فاختار ل�سخريته بط ًال �سماه (دون كيخوته :ترجمها �إل��ى العربية الدكتور عبدالرحمن ب��دوي)، وكان دون كيخوته رج ًال من طبقة النبالء، وهمه الأكبر ال��ذي ا�ستولى على ذهنه هو ّ �أن ي�صبح فار�س ًا بين الفر�سان ي�شار �إليه بالبنان وت�سير بذكره الركبان ،ولم يبق له، لبلوغ هدفه الأ�سمى �إال �أن يتعلم كيف ي�صير اليفوت فر�صة فار�س ًا ،وي�صلح العالم ،ف�صار ّ القتناء كتب مو�ضوعها (الفرو�سية و�أنواع الأ�سلحة في ع�صره وكيفية ا�ستخدامها)، و�أثارته ق�ص�ص االنت�صار التي زرعت في الحمى) (حد نف�سه روح الأمل ورغبة قوية ّ ّ في �أن ي�صير الفار�س المغوار الذي ال ي�شق له غبار. وفي �أول خروج تجريبي بهدف الحرب، ت ��راءت لهذا (المتفار�س) طواحين الريح أح�س ب�أ ّنه فظ ّنها ّ عدوة له ذات �أذرع طويلة ،و� ّ في حالة جهوزية كاملة للقتال والنزال، ولم يطل في حربه �ضد الطواحين حتى نال �أق�سى العقاب من �أذرع هذه الطواحين التي كادت تطحن ر�أ�سه..
المتنبي والمطالعة: �أم��ا �أب��و الطيب المتنبي ،فكان مثقف ًا كبيراً بمقيا�س ع�صره ،وما و�صل من �أخباره يفيد ب�أ ّنه كان يرتاد دكاكين الوراقين ،حتى تم ّكن من ثقافة متنوعة تو ّزعت بين معرفته ب�شتى المذاهب في الفكر وال�شعر والفل�سفة، م�صهور ًة بنار ال�شعر وهذه الثقافة نراها ْ في ديوانه ،ودا ّل��ة على � ّأن ثقافة المتنبي كانت حامية ل�شعره �إلى اليوم من االندثار
ع�صفور من حبر
هكذا �صار دون كيخوته نموذج ًا للحالم الواقع والحلم .وهنا تلتقي بوفاري الحب ،مع ال��ذي هزمه الوهم ،كما غدا من �أ�سو أ� الرموز دون كيخوته الحرب. للمحاربين الذين ال يعرفون :ما معنى الحرب؟ الكتب والحرب والحب: العدو الحقيقي؟ وما الحرب وما قبلها ومن هو ّ وم��ا ال��ج��ام��ع بين دون كيخوته وم��دام وما بعدها؟ وهي �أمور كان قد �أدركها ،قبل دون كيخوته ،بقرون� ،شاعر من �أ�صحاب المع ّلقات بوفاري �سوى �شغف القراءة ،ويبدو مثل هذا وبديهي ًا ،وق��د يغري اال�ستنتاج ال ّأول �سه ًال زهير ابن �أبي �سلمى وهو القائل: ّ ب�سذاجة الت�شويه �سمعة ال��ق��راءة�( :إن نتيجة الح ْـر ُب �إِ َّال َما َع ِل ْم ُت ْم َو ُذ ْق ُت ُـم (و َما َ َ ِ ِ الم َر َّجـم) القراءة وخيمة!). يث د ـ ِالح ب ا ه ن ع ـو ه ا م و ْ ََ ُ َ َ َ َ ُ فهل كانت قراءة الكتب م�س�ؤولة عن الم�صير الم�أ�ساوي ،لكل من المتفار�س الإ�سباني العجوز، �إي ّما بوفاري :قلب من ورد في كتب الو ّد في الف�صحى ،عالقة ال تبدو بريئة في �ضمير وال�شابة الفرن�سية الحالمة؟ لا من دون كيخوته �سرفانتي�س هذه اللغة ،فاذا حذفنا حرف الراء من مفردة �أم �أن ك� ًّ حرب ح�صلنا على كلمة ثنائية م�ضموم �أولها ومدام بوفاري فلوبير قد ر�سما بطلين رمزيين من ذكر و�أنثى �سلبيين لفعل القراءة؟ وم�شدد �آخرها :حب. ّ أحب (دون كيخوته) الفرو�سية ،فرغب � وهل �رز � أب ل ا �ي � �روائ � ال النموذج في و�إذا بحثنا ّ عالمي ًا ،عن معادلة لـ (دون كيخوته) الحب ،في ق��راءة كتب عن الفرو�سية وكانت النتيجة إيما بوفاري �ستعلن عن نف�سها ،وبقوة ،في ف�شل في الحرب؟ ف� ّإن � ّ إيما بوفاري) الحب ،ف�أخل�صت � ( ت أحب � وهل حملت وقد فلوبير) (غو�ستاف الفرن�سي رواية ّ ّ الرواية ا�سمها( ،مدام بوفاري) وترجمها �إلى في قراءة كتب الحب ،وخابت في �سيرة الحب؟ وه��ل الكتاب يقود قارئه /قارئته �إلى العربية الدكتور محمد مندور. ك� ّأن الروائي الفرن�سي قد �أراد� ،أو لم يرد� ،أن الف�شل في الحرب ،كما في الحب؟ �دوة لهذين ينجز معار�ضة روائية لدون كيخوته ،بعد �أن وه��ل الكتب كانت �صديقة ع � ّ الفا�شلين؟ ن البطلي الحب ،ومن ْ ْ نقل قارئه الأوروبي من الحرب الى ّ من خالل هذين النموذجين ،قد يح�ضر فعل الدونكيخوتية الحربية الهائمة الى البوفارية الحب ّية الحالمة ،ليجد القارئ في �صورة الفتاة القراءة كعامل �إحباط� ،أو كمثال على �أن القراءة ّ حد �إمكان القول :ت��ودي بالمواظب عليها �إل��ى التدمير وتعا�سة لها ا قريب ا �شبه ا) إيم � ( الحالمة ً ً ّ ّ � ّإن الروائي غو�ستاف فلوبير قد �أراد من وراء الم�صير. وقد يالقي �أعداء القراءة في كل من (الفار�س كتابه (مدام بوفاري) �أن ينجز معار�ضة �أدبية دون كيخوته وال�سيدة ب��وف��اري) نموذجين �أوروبية لرواية ً(دون كيخوته). لقد غرقت الفتاة (�إيما) في بحيرة الكتب كافيين لالبتعاد عن فعل ال��ق��راءة ،وللحديث الحالمة ،وقر�أت او عا�شت متماهية مع ق�ص�ص المطول عن م�ساوئ المطالعة! �سعيدة في �سيرة الحب ،ودافئة مثل ربيع الحب، و�أن مثل هذه الأ�سئلة تالقي ا�ستقبا ًال حاراً من خ�لال رواي ��ات �أب��ط��ال من ورق ،ف�أحبت من �أعداء الكتاب والقراءة. ولكن ،ما �أكثر ه�ؤالء النافرين بطبعهم من الحب وحلمت ان تعي�شه مثل بطالتها الورقيات، ّ وتزوجت على �أمل �أن يفوح قلبها ال�صغير بتلك الكتاب والقراءة. ّ وه��ل يجب في ال�صفحات الأول��ى من كل الرائحة ،غير �أنها انتهت �إلى �صدمة خلفت في خافقها البريء خيبة وم��رارة ،لت�صير فري�سة كتاب �أن ن��ورد العبارة التالية( :م�ؤلف هذا م��ا �صنعته كتب تبيع وه��م ال��ح��ب ،وكانت الكتاب غير م�س�ؤول عن �أي �ضرر يح�صل للقارئ، �ضحية�صدمة انتهت بها �إلى قرار مغادرة الحياة فالقارئ م�س�ؤول). لقد كانت الكتب التي تمحورت على الحرب الخائبة ولم تدرك بقلبها الحالم �أن الوهم الذي �صارت في ح�ضنه ،كان بفعل المواظبة على والفرو�سية ،تتمر�أى لدون كيخوته ك�ساحات الحد بين حرب. حد الت�صديق واختالط ّ كتب الغرام ّ
كان الجاحظ �شخ�صية واقعية وغرائبية في �آن
ال عالقة لحقيقة �أبي نوا�س بما و�صلنا من الذاكرة ال�شعبية
المتنبي كان مثقف ًا كبيراً بقيا�س ع�صره و�صهر ثقافته في ديوان �شعره
دون كيخوته نال �أق�سى العقاب من جراء محاربته طواحين الهواء
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
105
متخ�ص�صة في ترجمة الأدب ال�صيني المعا�صر
يارا الم�صري:
�أعتمد على �أهمية الكتاب والم�ؤلف في ترجمتي
¯ ن�ش�أت في �أ���س��رة فيها مكتبة وتهتم بالقراءة والفكر والأدب والثقافة ،فوالدك هو ال�شاعر �إبراهيم الم�صري .نود �أن نقترب من هذه الن�ش�أة ،و�إلى �أي مدى �أ�سهمت في تثقيفك؟ نعم ن�ش�أت في منزل مليء بالكتبوالمو�سيقا ،وكنت �أذهب لح�ضور الندوات م��ع وال���دي منذ ���ص��غ��ري ،وط��ب��ع� ًا لدينا اهتمامات م�شتركة مثل القراءة والمو�سيقا وغيرها ،وتدور بيننا الكثير من النقا�شات ح��ول الكتب والق�ضايا الثقافية ،وقد نختلف وق��د نتفق ،وه��و من دفعني �إلى اال�ستمرار في الترجمة الأدبية بعد ترجمة عدة ن�صو�ص في البداية ،وهو القارئ الأول لترجماتي والمحرر الأول ..ل��ذا؛ يمكنني القول �إن هذه الن�ش�أة م�ستمرة في تثقيفي وتوجيهي �إلى اليوم.
ي��ارا الم�صري؛ مترجمة م�صرية ول��دت بالإ�سكندرية، وهي متخ�ص�صة في ترجمة الأدب ال�صيني المعا�صر ،ولها العديد من الترجمات المهمة مثل( :العظام الراك�ضة 2015م) -مجموعة ق�ص�صية لـ(�آ�شه) ..وغيرها الكثير. �شاركت في م�ؤتمر المترجمين لترجمة الأعمال الأدبية �أحمد الالوندي ال�صينية الذي عقد بال�صين (2016م) ،وفي ور�شة للكتابة والترجمة ب�أكاديمية لو�شون ل�ل�أدب في بكين (2017م) .كما نالت عدة ¯ قبل التحاقك بالجامعة؛ كنت تميلين جوائز ،منها :جائزة (�أخبار الأدب) في الترجمة (2016م) عن ترجمتها �إلى درا�سة العلوم ،لكنك اتجهت �إلى درا�سة لرواية (ال��ذ ّواق��ة) للكاتب والأدي��ب ال�صيني لو وين فو ،وجائزة الدولة اللغة ال�صينية .لماذا ه��ذه اللغة التي ال�صينية للترجمة عن مجمل �أعمالها المترجمة �إلى العربية (2019م) .ا�ستحوذت على اهتمامك؟ -بعد ح�صولي على الثانوية العامة؛
106
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
لقاء كنت �أريد درا�سة الجيولوجيا في كلية العلوم، �أو الأدب الإنجليزي في كلية الآداب ،ومع النقا�ش؛ اقترح والدي درا�سة اللغة ال�صينية، كون ال�صينية لغة بلد �صاعد في القرن الحادي والع�شرين ،وم�ؤثر في المنطقة وفي العالم، واتجهت بالفعل �إلى درا�ستها في كلية الأل�سن بجامعة عين �شم�س ،ث��م بكلية �شاندونج للمعلمين بجامعة جينان في ال�صين. ¯ ح ّدثينا عن �أول ترجمة لك من ال�صينية �إلى العربية ،وعن رحلتك �إلى ال�صين لدرا�سة ال�صينية في بلدها ..ب�أي مجال كانت الترجمة، وما الذي جعل تلك الرحلة التزال حا�ضرة بكل تفا�صيلها في مخيلتك؟ ���س��اف��رت �إل���ى ال�صين ل��ل��درا���س��ة عام(2010م) لمدة ع��ام .وب��د�أت ترجمة ق�ص�ص ون�صو�ص ق�صيرة من عام (2011م)� ،أي بعد عودتي من ال�صين .كانت هذه الرحلة ال ّتما�س الأول مع �أهل اللغة والبلد ،و�أ�سهمت في ت�أ�سي�س اللغة ب�شكل �أك��ب��ر ،وخ�ضت تجربة درا�سية مختلفة عن تجربة الدرا�سة الجامعية في م�صر .ويمكنني القول؛ �إن رحلتي لدرا�سة اللغة الكتاب �أو ذاك مالئم ًا للقارئ العربي ،وفي كل أحبها� ،سواء في ال�صينية في بلدها ،كانت ذات ت�أثير حا�سم في الأحوال؛ �أنا �أترجم الكتب التي � ُّ ال�شعر� ،أو الق�صة الق�صيرة� ،أو الرواية� ،إ�ضافة ا�ستيعاب و�إدراك هذه اللغة. �إلى عوامل �أخرى ،ك�أهمية الكتاب والكاتب في ¯ على �أي �شيء تعتمدين في اختيارك للكتب اللغة الأ�صلية. المراد ترجمتها من ال�صينية �إلى العربية؟ وهل هي جميعها من اختيارك �أنت؟ ¯ ما �أه��م ال�صعوبات التي قد يواجهها من �أخ��ت��ار الكتب بذائقتي �أو ًال كقارئة ،يت�صدى للترجمة من اللغة ال�صينية �إلىثم �ألتفت �إل��ى ال�شروط التي تجعل من هذا العربية؟
من �أعمالها المترجمة
ن�ش�أت في بيئة ثقافية وبيت يهتم بالكتب والمو�سيقا
لعب والدي ال�شاعر �إبراهيم الم�صري الدور الأهم في اهتماماتي الأدبية
تم تكريمها ومنحها عدة جوائز العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
107
لقاء ال�����ص��ع��وب��ات ال��ت��ي ت��واج��ه��ن��ي؛ هيال�صعوبات التي تواجه كل مترجم ،من حيث تجدد قامو�س اللغة ،ودخ��ول كلمات جديدة، وتغير دالالت كلمات قديمة ،وارتباط العمل بمجتمع الأ�صلي بثقافة مختلفة ،وخا�صة ٍ ما ،ومعرفة الإ���ش��ارات التاريخية والثقافية والتراثية التي ت�أتي في �سياق ن�ص �إبداعي معين� ،إ�ضافة �إلى مقا�صد الكاتب في عمله التي قد تكون غام�ضة ،وهذا يجعلني �أحيان ًا �أتحاور مع �صاحب العمل الأ�صلي ،و�أناق�شه كما حدث مرات عديدة في ترجمة ال�شعر. ¯ �أن��ت على دراي��ة كبيرة ب��الأدب ال�صيني، وبالجديد فيه ب�شكل دائم� .أين هو موقع �أدبنا العربي؟ و�أي��ن هي ثقافتنا وح�ضارتنا عند ال�صينيين؟ يعرف ال�صينيون الأدب العربي منخ�لال الكال�سيكيات �إل��ى ح��د كبير ،ككتاب (�ألف ليلة وليلة) مث ًال� ،أو من خالل ترجمات لل�شاعرين �أدوني�س ومحمود دروي�ش ،لكنهم بد�ؤوا في التعرف �إلى الأدب العربي من خالل ترجمة ك ّتاب �آخرين معا�صرين ،ومع ذلك؛ ف��إن الإجابة عن �س�ؤال موقع الأدب العربي والثقافة العربية عند ال�صينيين ،تتطلب درا�سة �أكثر �شمو ًال ،تت�صل بالتبادل الح�ضاري ب�شكل عام بين الوطن العربي وال�صين ،وكما نعرف؛ ف�إن التوا�صل بين الجانبين قديم ،ويتجلى في طريق الحرير القديم ،وغيره من �سبل التوا�صل الإن�ساني.
يارا مع والدها ال�شاعر �إبراهيم الم�صري
108
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
¯ ح�صلت على ع��دة جوائز في الترجمة، وخ�صو�ص ًا عن روايتك المترجمة من ال�صينية �إلى العربية (الحب في القرن الجديد) للروائية والأديبة ال�صينية (ت�سان ُ�ش ّييه) .كيف ترين ح�صولك على هذه الجوائز ،وما الذي جذبك في تلك الرواية كي تقومي بترجمتها؟ �أنا �سعيدة للغاية بالح�صول على تلكالجائزة التي تحفزني على اال�ستمرارية، و�أعتبرها مكاف�أة معنوية؛ ���س��واء ل��ي �أو ل ��دار الن�شر ولفريق العمل ف��ي ال��دار، لتقديم ال��ك��ت��اب ب�أف�ضل �شكل ممكن .بالن�سبة �إلى الكاتبة (ت�����س��ان ُ�ش ّييه)؛ ف�أنا على دراية ب�أعمالها، وترجمت لها ق�صتين من ُ واخترت تلك الرواية قبل، ُ باالتفاق م��ع دار الن�شر، كونها و�صلت �إلى القائمة الطويلة ل��ج��ائ��زة البوكر ال��دول��ي��ة ع��ام (2019م)، فر�أيت و�صولها �إلى القائمة مدخ ًال منا�سب ًا للتعريف بالكاتبة وب�أعمالها.
عندما التحقت بمعهد اللغات في ال�صين
كثيراً ما �أتحاور مع �صاحب العمل الأ�صلي و�أناق�شه قبل قيامي بترجمة كتابه
ال�صينيون يعرفون الأدب العربي من خالل الكال�سيكيات و�أدوني�س ومحمود دروي�ش
مقاالت �سبر
الكتاب ..وجدل التطور والبقاء في م�سيرة التطور( :الجديد ال يلغي القديم) ،ه��ذا ر�أي �شائع ،ي��ردده البع�ض عند الحديث عن كل اختراع جديد ،فمث ًال يلغ المذياع، التلفزيون ،كما يقال ،لم ِ والإنترنت لم تلغي الكتاب ..وهكذا �أ�صبحت هذه المقولة مخدراً لطم�أنة الذين يخافون م��ن ال��ت��غ��ي��ي��ر ،وي��ت��وج�����س��ون م��ن ال��ق��ادم المجهول. ولكن الواقع ي�ؤكد عك�س ذلك تمام ًا، ف�أي اختراع جديد يمكن �أن يلغي القديم، وف��ي �أق ��ل الأح����وال ي ��أخ��ذ م��ن جماهيره فيتقل�ص نفوذه في الحياة ،وي�صبح حكراً على كبار ال�سن ..لقد �أخذ التلفزيون جزءاً كبيراً من جماهير ال��رادي��و ،وتكاد تنهي الإنترنت حقبة ال�صحف الورقية. هناك �أ�شياء كثيرة �أخرجها التطور من دائرة الحياة و�أحالها �إلى المتاحف ،ففي المخترعات؛ هناك الجرامافون ،والكا�سيت، والهاتف ذو القر�ص ،وغيرها ..وفي مجال الأدب اختفت المقامة والمو�شحات. الكتاب من الأ�شياء التي دار حولها جدل البقاء ،فبرغم طوفان التطور ،واالنفجار المعلوماتي ،وظهور �أه��م اخ��ت��راع حققه الإن�سان في الع�صر الحديث وهو الإنترنت، مازال الكتاب �شجرة عتيقة في العا�صفة، لكن هذا ال ينهي الخطر. مع ت�سليمنا بالحرب غير المتكافئة بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني، ف�إن الم�شكلة لي�ست في التقنية التي تتطور كل يوم ،بل كل ثانية ،الم�شكلة في الكتاب
الكتاب ..بعد عقود من التقليدية يجب �أن يخ�ضع لالبتكار والتطور
المطبوع الذي لم يتطور منذ اختراع الطباعة عام (1456م). حتى يبقى ،ال بد للكتاب العربي �أن يتطور ،وهذا التطور باب مفتوح ال يمكن التكهن به ،فمث ًال يجب �أن ي�شمل التطور ال�شكل والحجم والطباعة والم�ضمون، وطريقة التوزيع .يجب �أن يخ�ضع الكتاب بعد عقود من التقليدية والتكرار والك�سل، �إلى االبتكار والإبداع والخلق والتطوير. الغالف بحد ذاته يجب �أن يكون عم ًال �إبداعي ًا ،يتخطى الإخراج التقليدي الرتيب.. �إذا �أردت �أن تقترب من ال�صورة؛ ادخل ق�سم الكتب الأجنبية في المكتبات ،وقارن بين الغالف العربي والغالف الأجنبي� ،ستكت�شف �أن الفرق هائل. الورق يجب �أن يكون من نوعية خفيفة �سهلة الحمل وال�شحن� .أه��دت��ن��ي �إح��دى الجهات حديث ًا بع�ض الكتب ،بع�ضها �ضخم جداً ،مطبوع على ورق م�صقول ثقيل ،وهو ما يعيق حمله� ،إ�ضافة �إل��ى تعار�ضه مع قواعد ال�سالمة. وق� ْ�ط��ع ال��ك��ت��اب /مقا�سه ،يجب �أن يتنا�سب مع ال��ق��ارئ ،فيمكن و�ضعه في الجيب �أو حقيبة الظهر ال�صغيرة ،ومن �أمثلة ذلك �سل�سلة (روايات الجيب) التي بد�أ �إ�صدارها عام (1984م) بروايات الكاتب ال��راح��ل نبيل ف���اروق ف��ي �سل�سلة (رج��ل الم�ستحيل) ،والتي من �أهم �سماتها الحجم ال�صغير. توزيع الكتاب يجب �أن ي�شهد نقلة نوعية، وفي هذا الإطار �أدعو اتحاد النا�شرين العرب �إلى تبني م�شروع �إعفاء الم�ستلزمات الداخلة ف��ي �صناعة الكتاب م��ن ال��ج��م��ارك ،ومن ر�سوم ال�شحن ،واعتبار الكتاب �سلعة ثقافية تعليمية توعوية ،ت��وازي جهود الإغاثة،
الأمير كمال فرج وذلك بموجب اتفاقية عالمية تن�ص على المعاملة بالمثل. الكتاب نف�سه يجب �أن يتغير �شكله العام، و�أن يتجلى فيه �إبداع الت�صميم ،هناك كتب تطلق المو�سيقا عند فتحها ،و�أخرى تتحول �إلى مج�سمات و�أ�شكال ور�سومات وعبارات تو�ضيحية ،والإب���داع في ه��ذا المجال ال ينتهي. ت�سويق ال��ك��ت��اب ف��ن ،ل��ذل��ك يجب �أن نتعامل م��ع الكتاب ك�سلعة فنبدع في ت�سويقه وتقديمه والترويج ل��ه ،و�أمامنا اليوم و�سائل �إعالمية �شتى ،بدءاً من و�سائل االت�صال �إلى مواقع التوا�صل. الإع�ل�ان ع��ن الكتاب يجب �أن يكون بالمجان ،باعتباره �سلعة هدفها التثقيف والتنوير� ..إن محطات التلفزيون العربية كانت تحذف ا�سم الكاتب باعتباره عنوان ًا. الخوف من التغيير �صفة �إلإن�سانية، خا�صة في الثقافة ال�شعبية التي تحتفي بالعادات والتقاليد وتمجد التراث ،لكن الم�شكلة الحقيقية تحدث عندما نعي�ش في الما�ضي ،ونم�سك بتالبيبه ،ونرف�ض التطور. في ع�صر الإنترنت والثقافة الم�سموعة و�أنماط �شتى من الثقافات التي جلبتها ث� ��ورة ال��م��ع��ل��وم��ات ،ال��ت��ح��دي الحقيقي للم�ؤ�س�سات الثقافية هو تطوير الكتاب. عندما نتحدث عن �أزمة الكتاب ،يجب �أن ن��درك �أن الم�شكلة لي�ست في الو�سيلة، ولي�ست في القديم والجديد ،الم�شكلة في ع��دم ال��ت��ط��ور ،فالع�ضلة التي ال تتحرك ت�ضمر ،وال�شيء الذي ال يتطور يموت.
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
109
عك�س هموم مجتمعه وطموحاته
في عام (1952م) م��د ًة ،ثم هرب ليعود �إلى الجزائر للعي�ش با�سم م�ستعار (عبدالحميد م�صطفى) زم��ن � ًا قبل �أن ي�شد ال��رح��ال مرة �أخرى �إلى فرن�سا ليلتحق بالإذاعة الفرن�سية، ثم الإذاع��ة التون�سية .وبعد ا�ستقالل الجزائر (1962م) ،ترك تون�س لي�شتغل من�سق ًا عام ًا للبرامج الفنية بالإذاعة الجزائرية ،ثم تقلد العديد من المنا�صب الإذاعية الرئي�سية قبل �أن يطلب التفرغ لإنجاز �أعماله الإبداعية الم�ؤجلة بعد ت�سع ���س��ن��وات م��ن ا�ستقالل ال��ج��زائ��ر (1962م)، عام (1983م). ك��ت��ب رائ���د ال���رواي���ة ال��ج��زائ��ري��ة ال��م��ك��ت��وب��ة باللغة ق��دم اب��ن ه��دوق��ة خ�لال عمله ب��الإذاع��ة العربية ،عبدالحميد ب��ن ه��دوق��ة (1996 -1925م) التون�سية ع��دي��داً م��ن ال��ب��رام��ج الإذاع ��ي ��ة، �أهمها برنامج (�أل� ��وان الثقافي) للتعريف رواي��ة (ري��ح الجنوب) عام (1971م) ،ف�أحدث انقالب ًا ب��الأدب المغاربي� ،سواء المكتوب بالعربية داخ��ل الأو���س��اط الأدبية والثقافية بالجزائر بو�صف �أو بالفرن�سية� ،إ�ضافة �إل��ى برنامج خا�ص وليد رم�ضان الرواية �أول رواي��ة جزائرية مكتوبة باللغة العربية، بالأطفال تحت عنوان (جنة الأطفال)� ،إ�ضافة كما �أن ال��رواي��ة تتناول ال��م��ر�أة ك�إن�سان ل��ه دوره الكامل ف��ي الحياة� .إل��ى تمثيليات �إذاع��ي��ة �أ�سبوعية تمزج بين االجتماعي والبولي�سي. زاول ابن هدوقة التدري�س بمعهد الكتاتية ن�ش�أ اب��ن ه��دوق��ة و�سط عائلة ا�شتهرت جامعة الزيتونة ،و�شهادة التمثيل العربي من بق�سنطينة ،كما عمل مخرج ًا �إذاع��ي� ًا ما بين بالعلم في مدينة المن�صورة التابعة لوالية معهد فنون الدراما في تون�س. �سطيف الجزائرية� ..أنهى درا�سته االبتدائية انخرط عبدالحميد بن هدوقة في ن�شاط (1958-1956م) ف��ي الإذاع����ة الفرن�سية، بالمن�صورة وق�سنطينة ،والتحق بعدها بجامع الحزب الحر الد�ستوري التون�سي ،بعدها �سجن وك��ت��ب ع ��دة تمثيليات لمحطة (،)B.B.C الزيتونة بتون�س� .أم��ا وال ��ده؛ فكان فقيه ًا در���س القر�آن و�أ�صول اللغة والأدب ومعلم ًا ّ ف��ي مختلف ق��رى المنطقة ،فحر�ص على �أن يلتحق االب��ن بالمدار�س العربية ليحفظ القر�آن الكريم و�أ�صول الفقه� ،إ�ضافة �إلى ما �سمعه من ق�ص�ص �ألف ليلة وليلة ،و�سيرة بني هالل ،و�ألفية ابن مالك ،وغيرها من الكتب التي توافرت في مكتبة العائلة ،وكانت تزخر ب�أمهات الكتب التي يعود تاريخها �إلى قرون �سابقة وال تقدر بثمن. التحق ابن هدوقة بالمدر�سة الفرن�سية، كما التحق بمدر�سة التمثيل العربي بتون�س، ثم �سافر �إلى فرن�سا عام (1945م) بعد الحرب العالمية الثانية ليلتحق في مر�سيليا بمعهد التكوين ،ويح�صل على �شهادة الدبلوم ،ثم ليلتحق بم�صنع لتحويل المواد البال�ستيكية. وطوال ثالث �سنوات كان له احتكاك بالواقع المرير للمهاجرين الجزائريين الذين كانوا في فرن�سا طلب ًا للقمة العي�ش ،ذلك الواقع الذي �سينقله من بعد في (الكاتب وق�ص�ص �أخرى). تتلمذ ابن هدوقة على عديد من الأ�ساتذة الزيتونيين ،من بينهم :عثمان كعاك ،ومحمد الفا�ضل بن عا�شور ،ومحمد ال�صالح ،ولحبيب بن خوجة ،ال�شاعر الم�شهور ..وغيرهم من الأ���س��ات��ذة الممتازين ف��ي الثقافة العربية الإ�سالمية ،لينال �شهادة العالمية في الأدب من
عبدالحميد بن هدوقة من رواد الرواية في الجزائر
110
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
�سيرة و�أبدع م�سرحيات �إذاعية نالت �شهرة وا�سعة .كما كتب نحو ( )30تمثيلية في الإذاعة التون�سية تتناول مو�ضوعاتها الثورة التحريرية والجزائر .كما �أ�شرف بعد تكليفه من قبل وزارة الأخبار التابعة للحكومة الجزائرية الم�ؤقتة ،على �إخراج (جيو�ش الجزائر) الذي كان يبث لمدة ربع �ساعة مرتين في الأ�سبوع قبل �أن يتم بثه ب�صفة يومية لمدة �ساعة كاملة. بعد �شهور قليلة من نيل الجزائر ا�ستقاللها ،عاد ابن هدوقة �إلى بالده في �أكتوبر (1962م) ليلتحق بالإذاعة والتلفزيون الجزائري ،والتي كانت ت�ضم �أغلب الممثلين والفنانين الجزائريين قبل �أن يتقلد عدداً من المنا�صب في الم�ؤ�س�سة ،منها مدير للقناة الأولى والثانية الناطقة باللغة الأمازيغية. ب��د�أ اب��ن هدوقة الكتابة مت�أخراً (1951م) بعد �أن �سقط طريح الفرا�ش ،عندما كان يعمل في فرن�سا ،وبين عامي (1958 -1955م) بد�أ ي�ؤلف تمثيليات �إذاعية باللغة العربية لمحطتي (B.B.C و .)O.R.T.Fو�أثناء وج��وده في تون�س كتب ابن هدوقة مقاالت لجريدة (المجاهد) ،ثم طلبت منه الحكومة الجزائرية الم�ؤقتة ت�أليف كتاب يحمل عنوان (الجزائر بين الأم�س واليوم) الذي �صدر في تون�س عام (1958م) .وفي عام (1960م) �أ ّلف مجموعة ق�ص�صية تحت عنوان (الظالل الجزائرية) �صدرت في بيروت. وفي العام نف�سه �صدرت له (الأ�شعة ال�سبعة) بتون�س ،وفي عام (1967م) (الأرواح ال�شاغرة)، وهي مجموعة �شعرية .وفي عام (1971م) �صدرت له رواية (ريح الجنوب) والتي ترجمت �إلى الفرن�سية في عام (1975م) من قبل مار�سيل بوا ،ثم ترجمت �إلى نحو ( )20لغة ،منها :الإ�سبانية والإيطالية والألمانية والهولندية والرو�سية وال�صينية ،وعدة لغات �أخرى ..وفي عام (1997م) �صدرت له ق�صة (ذكريات وجراح مارينو) بعد رحيله. في ع��ام (1975م) �صدرت ال��رواي��ة الثانية له وهي (نهاية الأم�س) ،والتي ترجمت في عام (1977م) �إلى الفرن�سية من قبل مار�سيل بوا ،و�إلى عدة لغات �أخرى .وفي عام (1974م) �صدرت له المجموعة الق�ص�صية (الكاتب وق�ص�ص �أخرى). وفي عام (1980م) �صدرت له رواي��ة (بان ال�صبح) التي ترجمت في عام (1981م) .وفي عام (1983م) قدم رواية (الجازية والدراوي�ش) .وقدم ابن هدوقة من الأدب العالمي مجموعة ق�ص�ص ترجمها الكاتب واختار من الأدب العالمي عام (1983م) (الن�سر والعقاب) ،وفي عام ()1985 (ق�صة في �أبركوت�سك) وهي م�سرحية �سوفييتية، وفي (1986م) (دفاع عن الفدائيين) وهي درا�سة مترجمة عن عمل قام به فيرجي�س عام (1975م). ترجمت بع�ض �أعماله �إلى عدة لغات ،و�أقيم
ر�شيد بوجدرة
الطاهر وطار
ملتقى دولي با�سمه في والية برج بوعريج ت�شرف عليه وزارة الثقافة منذ عام (1998م). عبدالحميد بن هدوقة �أحد كبار رواد الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية ،وواحد من م�ؤ�س�سيها بجانب الطاهر وط��ار ،وقد ارتبط �إبداعه بهموم الإن�سان الجزائري والتون�سي مع ًا ،وي�صنف النقاد �أعماله �ضمن التيار الواقعي ،غير �أن واقعية ن�صو�ص ابن هدوقة واقعيتان؛ الأولى تميزت فيها كتاباته بت�سجيلية تقليدية ،بينما الثانية تحولت �إلى واقعية. في درا�سة تحليلية قام بها الناقد الجزائري الطيب ال��ع��رو���س ،ق��ال �إن اب��ن ه��دوق��ة ق��د يكون الأدي��ب الجزائري الوحيد من جيله ال��ذي تناول المر�أة ب�شجاعة دون نفاق ،لم يكن يكتب لير�ضي �أو لي�ستجيب لرغبات �سيا�سية بقدر ما كتب عن الأو�ضاع الجزائرية من �أعمق الأعماق ،وهو �إلى جانب كونه �أحد الم�ؤ�س�سين للرواية العربية في الجزائر ،نراه يعالج مو�ضوع المر�أة دون مواربة. ويقول الناقد الفرن�سي جان بول �إيفري� :إن ابن هدوقة جزائري حتى النخاع ،لأنه يعك�س هموم الطبقات وال�شرائح االجتماعية وطموحاته عبر �أعماله الأدبية �شعراً �أو رواية ،وو�ضع المر�أة في المقام الأول ،ذلك �أنها �أهم مدر�سة ،فالمر�أة احتلت المكانة التي يجب �أن تحتلها اليغر في �أعمال ابن هدوقة. في �سبتمبر (1990م) ،انتخب اب��ن هدوقة �ضمن �أع�ضاء اللجنة المديرة المنبثقة عن الم�ؤتمر الخام�س التحاد الكتاب الجزائريين ،كما انتخب �أمينا عام ًا م�ساعداً ،ور�شيد بوجدرة �أمين ًا عام ًا. كما تقلد من�صب المدير العام للم�ؤ�س�سة الوطنية للكتاب ،ثم رئي�س ًا للمجل�س الأعلى للثقافة قبل �أن يعين ع�ضواً ونائب رئي�س المجل�س اال�ست�شاري الوطني من قبل الرئي�س الراحل محمد بو�ضياف. ث��م �أ�صبح اب��ن ه��دوق��ة رئي�س ًا للمجل�س الأعلى للثقافة قبل �أن يعين ع�ضواً ونائب رئي�س المجل�س اال���س��ت�����ش��اري ال��وط��ن��ي ،ث��م �أ���ص��ب��ح اب��ن هدوقة رئي�س ًا للمجل�س قبل �أن يقدم ا�ستقالته في يوليو (1993م) .وفي عام (1996م) رحل رائد الرواية الجزائرية عن الحياة.
مار�سيل بوا
كتب �أول رواية جزائرية باللغة العربية عام (١٩٧١م)
يعد الأديب الوحيد من جيله الذي تناول �أو�ضاع المر�أة الجزائرية دون مواربة
ترجمت �أعماله الروائية والق�ص�صية �إلى �أكثر من ( )٢٠لغة عالمية
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
111
مقاالت
جمال ّية البالغة بين الت�أثُّر والت�أثير
غنوة عبا�س
تتفاوت ال ُّلغات في حقيقتها وجوهرها العربية ِمن ت�أدية المعاني والت�أثير ،و� َّإن للغ ِة ّ بحر ال ين�ضب ِمن الراجح في هذا ،فهي ٌ الميزان َّ ِ الدور الأكبر المرادفات والف�صاحة والعلم ،ولها ُّ ُ البالغي وازده��ار ِه ،فالبالغة ر التطو ج �ض ن في ِ ُ ْ ُّ ِّ ِ�صناعة ال� َ�ع��رب الأُول����ى وم��ه��ار ُت��ه��م ال ُكبرى باعتبارها ِعلم ًا ِمن ُعلوم اللِّ�سان ،حيث �إن ِعلم العلوم منازِلها الكلمة والكالم هو ا َّلذي ُيعطي ُ دل على �أ�سرارها. وي ُّ َ وبلغ و�صل بمعنى غة ل ال في ة الغ الب ف عر ت و ُ ُّ َ َ ُ َّ ال�شيء �أي و�صل �إليهَّ � ،أما معناها اال�صطالحي الف�صيح ِل ُمقت�ضى الحال، الكالم عبر عن مطابق ِة ِ ِ ُي ِّ ِ ِ ِ الفنية د والقواع ة الجمالي م ي ق ال ن م ة مجموع فهي ٌ َِ ّ ّ ِ الح ْكم على الن�صو�ص اللها خ من ا َّلتي ُيمكن ُ ال�ضعف أدبية من ناحية التميز والجودة �أو َ ُّ ال ّ حقيقي عن مكنونِ تعبير وال� ��رداءة� ،إذ �إنها ٌ ٌ جمالِ الكالم ببديع الألفاظ وبحث في ال َّنف�س، ِ ٌ والمعانيَ ،يعك�س ُق��در َة الإن�سانِ على التعبير الم َتل ِّقي ِب ُك ِّل ما بِها المق ِنع ليتذوقها ُ الم�ؤ ِّثر ُ ُ وفني ف�صيح يبعث في ُنفو�سنا أدبي من � ٍ ٍ إنتاج � ٍ أقرب طريقٍ ، ا�ستجاب ًة انفعالي ًة َت ِ�صل للقلب عبر � ِ ِ لك غاي ٌة ال ُيدركها � َّإل من �أح��اطَ ب�أ�ساليب و ِت َ وع َر َف ُبحور مفاخرا ِتهم وهجا ِئهم العرب ُخبراً َ َ ِ ِ ٍ مقام وتخاطبهِ مِ ،ل ُيلب�س ل ُك ّل حالة رداءها ول ُك ِّل ٍ وكثير ال ُي�س�أَم. فهم َمقال فهي قلي ٌل ُي َ ٌ �أي�ض ًا البالغة كما عرفها القزويني في علوم البالغة) �أ َّنها ُمطابق ُة كتاب ِه (الإي�ضاح في ِ الكالم لمقت�ضى حال ال�سامعين مع ف�صاحته، إتقان في وبذلك يكون ميزة وال ُ ُ الم َّ انتقاء الألفاظ ُ
112
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
ال�صرف. َ�صنع ِة ُ الج َمل مع ُح�سن ال َّن ْظ ِم وجود ِة َ الغمو�ض م��ازال ي�سود َن�ش�أة البالغ ِة � َّإن َ �ضبط العربية ،لذلك َي ُ المنطَ لق �أن ُت َ �صعب من هذا ُ ّ ِ عين ،حيث َم َّرت بمراحل ع َّدة� ،إ َّنما هي م بتاريخ ٍ ُ َّ تدريجية ُمت�سل�سلة ا َّت�سعت دا ِئر ُتها ِلتك َت ِمل عملية ّ ّ في ال ِّنهاية� ،إلى �أن �أ�صبحت ِعلم ًا ُم�ستق ًال قا ِئم ًا أدب بِ�شعره و َنثره، بِذات ِه ،فهي قديم ٌة ِق� َ�دم ال ِ العرب في الع�صر الجاهلي بف�صاحةِ ا�شتهر فقد ُ َ ّ اللِّ�سان وبالغت ِه� ،إ ْذ ُخ ِل َق ال�شعراء بالفطرة على الأداء البليغ و�أَ ِل َف ْت ُه �أل�سنتهم و�آذانهم فكانوا قادرين على تمييز جميل الكالم من رديئه، ٍ مناف�سة بقبته الحمراء �ساحة وكان �سوق عكاظ َّ ٍ الح َك ْم (ال َّنابغة الذبياني)، كبيرة بينهم بوجود َ الطبقة وهو �شاعر جاهلي ِمن ُفحولِ ُ�شعراء َّ ٌ الأُولى ا َّلذي كان يقول كلم َة ال َف�صل ،ويراعي في والنتاج ال�شعري الكامل َنق ِده الق�صيد َة كامل ًة َ لل�شاعر ،وما يرتبطُ ب ِه من مقام وِ فق االن�سجام و�صحة المعنىُ .ث َّم جاء الإ�سالم ال َّتام في الوزن ِّ وت��زاي��د االهتمام بالبالغة و�صياغة الكالم ٍ ال�سبب الرئي�سي هو رفيعة جذابة ،ولع َّل بِ�صورة َ المعجز ،فقد وجد العرب الكريم آن � ر ق ال نزول ُ ُ �أن ُف�سهم عاجزين �أم��ام بالغته وع��ن الإتيانِ الب�شر �أم��ام ف�صاحته بمثله ،فحارت عقول َّ ِلما لهذه الآيات من الأث ِر العظي ِم في ُنفو�سهم �وي جاء الع�صر الأُم� ُّ وت�سامي �أحا�سي�سهمُ .ث َّم َ البالغية وتنوعت الأ�ساليب فزادت المالحظات ّ الخطباء َي ِ نط ُقون بل�سان الخطابية ،فقد كان ُ ّ القبائل ويحر�صون على نيل �إعجاب الم�ستمعين، فنية تجعلهم بل وك��ان��وا يخلقون فيهم ل � َّذة ّ
البالغة �صناعة العرب الأولى ومهارتهم الكبرى باعتبارها علم ًا من علوم الل�سان
عرفها القزويني ّ ب�أنها مطابقة الكالم لمقت�ضى حال ال�سامعين مع ف�صاحة
دروب
ُمقتنعين بِما َ�س ِمعوا� ،إلى �أن �أ�صبحت ِعلم ًا لغوي ًا لماء قائم ًا بذاته في الع�صر العبا�سي ،فبد�أَ ُع ُ البالغية ُم�ستندين الدرا�سات ال ُّلغة بتدوين علم ِّ ّ �إل��ى المالحظات النقدية ،ع�ل�او ًة على ذل��ك، كانت هناك مفارقة وا�ضحة بين من يميلون القوية ا ّلتي ُت�ستخرج �إل��ى المعاني الغام�ضة ّ بالغو�ص وال ِفكرة وال تلوي على غير ذلك ،وهو ف�ضلون َ�سهل مذهب �أبي تمام و�أ�صحابه ،ومن ُي ّ وح�سن الكالم وقريبه ُ َ ال�سبك ُ وي�ؤ ِثرون ِ�ص ّحة ّ والرونق وهو العبارة ُ وحلو ال ّلفظ وكثرة الماء َّ البحتري ورِف��اق��ه ،فاجتمعت رواب��ط َمذهب ُ البالغة وتعا�ضدت من زمن �إلى زمن ومن َ�سلَف �إلى َخلَف ح ّتى و�صلت �إلى �صورتها الكاملة، فا�ستقرت على يدي (�أبي يعقوب ال�سكاكي) ،في ّ القرن ال�سابع الهجري. ارتبطت البالغة ِعند العرب قديم ًا وحديث ًا بفن القول ِمن خالل �أق�سامها ال َّثالثة (المعاني ّ دور المعاني لعلم كان فقد والبديع)؛ والبيان ٌ هنية للمق�صود ال�صورة ال ِّذ َّ مهم في البالغة �إ ْذ �إ َّنه ُّ ٌ وير�شدنا �إلى اختيار التركيب ال َّلغوي ِمن ال َّلفظُ ، وج ْعل ال َقول �أقرب ما يكون المنا�سب للموقفَ ، ُ لل ِفكرة الموجود ِة في �أذهاننا ،في�شمل عالقة كل الن�ص كام ًال ،حيث يبحث ُجملة بالأُخرى ليحوي َّ الجملة وكل ما َيطر�أ عليها من تغيير. في نواحي ُ عرف بِه �إيراد المعنى الواحد � َّأما ال ِعلم ا َّلذي ُي َ ِبطُ رق مختلفة مع و�ضوح الداللة عليه ،فهو ِعلم ال�صنعة البيان؛ �أي تكون به الإبانة مع جمال َّ فيروق لل�سامعين وي�ستميل قلوبهم عبر مجموعة من القواعد منها اال�ستعارة والت�شبيه والكناية، أهم ركا ِئز ُفنون ويمكن و�صف ِعلم البيان �أ َّنه � ُّ ِ العربية و�آدابها ،ويتم َّثل بِذكاء ال َقلب مع ال ُّلغة ّ ِ البالغة ،مما ة ج الح د �را � إي � في في�ضرب �سان ال ّل ُ َّ َ يجعلنا َنقف على خ�صو�صية البيان في البالغة، �إذ �إن الإجادة في قوانينه و�إبداع مهاراته و َف ِ همه َي�ستلزمان ركيز ًة قوية و َتو ُّف َر � ٍ أدوات ِمثل ِعلم وال�صرف� ،إ�ضافة العرو�ض وال َّنحو والقوافي َ َّ �إلى القر�آن الكريم ،لذلك ينبغي على الأديب �أن قواعد وقوانين هذا ال ِعلم في ترتيب �أفكاره ي َّتبِع َ الجمالية. وتن�سيق كلماته وِ ْف َق المعايير ّ مهم في البالغة دور ٌ �أي�ض ًا لعلم البديع ٌ فيقوم بتح�سين �أوجه الكالم ال َّلفظية والمعنوية الداللة ويتمثل في بعد رعاية المطابقة وو�ضوح َّ ا�ستخدام القواعد النحوية وال�صرفية مع ح�سن
دعمة مع طابعها الم َّ اختيار المفردات الف�صيحة ُ ح�سنات البديعية التي الجماليِ ،من خالل ُ الم ّ ُتزينه �إلى �أن ُتح ّقق وظيفتها بالت�أثير في نفو�س الم�ستعمين من خالل �ألوانها ا ّلتي ت�سرق عقول ُ النا�س مع ِ الحر�ص على االبتعاد عن الخط�أ في �إيراد المعنى واالكتفاء باالخت�صار َعن الإكثار، و�ضع قواعد هذا العلم الخليفة العبا�سي وقد َ الأديب «عبد اهلل بن معتز» في كتابه ا ّلذي يحمل عنوان «البديع» وقد تاله العديد من ت�أليفات ح�سنات الأُدب��اء ا َّلذين تناف�سوا في تو�سيع ُ الم ّ البديعية وزيادة �أق�سامها و َن ْظ ِمها في الق�صائد. وال ُب َّد من ِذكر َدور ال َّنقد الأدبي في ن�ضج التطور البالغي وازدهار ِه ،حيث َن�شطَ ت في القرن درا�سات الرابع حركة ال َّنقد الأدب��ي� ،إذ تكونت ٌ َّ بالغية ،فالبالغة وال َّنقد ة بياني دعائم مع ة نقدي ٌ ّ ّ الن�ص الأدبي مما ينتج عنه يلتقيان في ِمنطقة ِّ بالغيِ ، بالغي بذوقِ وع ٌلم علم فن نقدي بطع ِم ٍ ٌ ٍ ٌّ ٌ أدبي ال ل ا النتاج أمام � أدبي ل ا اقد ن فال ، نقدي فنٍ ِ َّ ٍ ِّ ُّ ِ الحكم على �شئ � َّإل بمعرفة قواعد علم ي�ستطيع ُ �ادن��ا كثيراً في � أف � �ذي � ل ا «كالجاحظ» البالغة، َّ َ ِح�سه ال َّنقدي و�أي�ض ًا َل ُه في ثقافت ِه ّ المو�سوعية ب ّ البالغة كتاب وي� َ�ع��د م��ن �أعظم «ال��ب��ي��ان والتبيين» ب��ل ُ م�ؤلفاته بالإ�ضافة لكتابات النحوي «عبد القاهر الجرجاني» في البالغة . أهمية البالغة و�أخيراً َخل ََ�ص ْت ّ الدرا�سة �إلى � ّ ودوره ��ا في تنمية ال�� َّذوق ال َّنقدي ،و�ضرورة المتعلمين على التذوق البالغي و�إعمال تدريب ُ أدبية ِمن خالل �إ�شباع ال ِفكر في ال ُّن�صو�ص ال ّ ِ المتلقي في الخطاب و�إي�صال معناه الى لُب ُ ِ �سواء كان �سامع ًا �أو قارئ ًا ،فالعلم �أح�سن �صورة ً ف�صلة بالتعابير الم ور ال�ص بقرن ال َّنافع يكون ُ َّ ُّ جملة ِل ُتحقق �أهدافها في خدمة المجتمع ُ الم َّ ِ �صبح َف َّنا َيطمح الجميع ل َتع ُّلمه ت ل به، واالرتقاء ُ َ والعمل به وفق كافة فئات المجتمع� ،إل��ى �أن �ساهم في تطور ال ِفكر الإن�ساني ،بل � َّإن الكاتب ُي َ ال�شاعر الحقيقي يمتلك بِعلم البالغة نا�صية �أو َّ كان �أو نثراً ،فال ُيتاح َل ُه هذا � َّإل �إذا الأدب ِ�شعراً َ ِ ِ دد َقلمه بما ُيتقنه من و�س َّ � َّ ألم بقواعد هذا العلم َ الرفيعة ُلي�صبح ذواق ًا في ال ُّلغة أ�ساليب ل ا تركيب َّ عبر عن ي فالبليغ بكلماتها، وجمالها ويتم َّتع ُ ّ رهاف ِة ِح ّ�سه و�صفاء ذوقه ونقائه حين ينطق ما في كنوز �أعماقها وبدا ِئعها من الجمال.
وجد العرب �أنف�سهم عاجزين �أمام بالغة القر�آن الكريم فحارت العقول �أمام ف�صاحته
علم البيان تكون به الإبانة مع جمال ال�صنعة فيروق لل�سامعين وي�ستميل قلوبهم
البليغ يعبر عن رهافة ح�سه وذوقه حين ُينطق ما في اللغة من جمال
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
113
تميز بين �شعراء ع�صره بروح الدعابة والفكاهة
محمود غنيم..
�شب على حب العربية وبالغتها يعد ال�شاعر الم�صري محمود غنيم واحد ًا من جيل الأعالم الكبار ،الذين �شبوا على حب العربية وبالغتها و�شعرها وتراثها ،ولعل البيئة االجتماعية والظروف االقت�صادية التي عا�شتها م�صر منذ الثلث الأول من القرن الع�شرين وحتى قيام ثورة (1952م) ،وما عاناه هو و�إخوانه من �شعراء م�صر في هذه الفترة من غالء في المعي�شة ،وانقالب الأو�ضاع والمعايير االجتماعية ،جعل منه �شاعر ًا للب�سطاء ،وكانت وراء العديد من مداعباته ال�شعرية وفكاهاته الأدبية ،حتى �صار ملك الظرفاء في �أحمد �أبو زيد ع�صره ،فال يكاد يخلو ديوان من دواوينه من باب (دعابات) ،والذي ي�ضم كل منها عدد ًا من الق�صائد التي قيلت في منا�سبات مختلفة ،ومواقف اجتماعية عا�شها ال�شاعر ،ما يدل على نف�سه الطويل و�إمعانه في الفكاهة. ول��د محمود غنيم ع��ام (1902م) في قرية (مليج) �إح��دى ق��رى الريف الم�صري بمحافظة المنوفية ،وعا�ش و�سط �أ�سرة تتمتع ب�سمعة طيبة ،وتحترف الزراعة والتجارة ،ثم بد�أ حياته العلمية في ال ُك ّتاب ليحفظ القر�آن الكريم وينهل من علوم العربية والعلوم ال�شرعية ،وفي الثالثة ع�شرة من عمره التحق بمعهد طنطا الأزه���ري ،لأرب��ع �سنوات ،ثم التحق بمدر�سة الق�ضاء مدة ثالث �سنوات (1919م1923-م) ،وقبل �أن ينهي درا�سته فيها تم �إلغا�ؤها ،فالتحق بالمعاهد الدينية، ونال منها ال�شهادة الثانوية ،وعين مدر�س ًا في المدار�س الأولية ببع�ض القرى ،منها قرية (كوم حمادة) ،التي عمل فيها ت�سع �سنوات مدر�س ًا في مدر�ستها االبتدائية. وفي عام (1925م) ،التحق بدار العلوم وتخرج فيها �سنة (1929م) ،وا�ستمر في التدري�س ،ثم �صدر قرار عام (1938م) بنقله �إلى القاهرة مدر�س ًا للغة العربية ،واختير لمدر�سة (الأورم��ان) الم�شهورة ،ثم رقي �إلى من�صب (مفت�ش) للغة العربية ،ثم عميداً للغة العربية بوزارة التربية والتعليم .وفي القاهرة عا�ش مع ال�شعراء والأدب��اء ودور الن�شر وال�صحف والمجالت ،وفي مقدمتها مجلة (الر�سالة) التي كانت تن�شر له �آنذاك �شعره باحتفاء كبير .واختير ع�ضواً في لجنة ال�شعر بالمجل�س الأعلى لرعاية الفنون 114
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
�أعالم والآداب ،ونال كثيراً من الجوائز على �أعماله ال�شعرية ،وم��ن �أهمها دي��وان��ه (�صرخة في واد) ،الذي كان �أ�سا�س ًا لمجده ال�شعري ،ونال الجائزة الأولى من المجمع اللغوي بالقاهرة عام (1947م). وفي ظ��روف م�صر في ذلك الوقت ،حيث االح��ت�لال البريطاني ،وم��ا اعترى المجتمع في ظله من ف�ساد �إداري واقت�صادي وظلم اجتماعي ،بدت وا�ضحة في ق�صائد ال�شاعر، فنجده عندما كان ي�شكو حاله ،و�أنه لم ي�أخذ ن�صيبه من الدنيا ول��م ينل ما يريده ،ت�أتي �شكواه في قالب فكاهي هزلي للترويح على النف�س من هموم الحياة� ،إذ يقول: رب �ضيمي؟ �إل���ى م��ن �أ�شتكي ي��ا ُّ �أرى نف�سي غ��ري��ب�� ًا ب��ي��ن قومي ل��ق��د ه��ت��ف��وا ل��م��ح��م ٍ ��ود �شكوكو وم���ا ���ش��ع��روا ب��م��ح��م ٍ ��ود غ��ن��ي ِ��م! وفي دي��وان (�صرخة في واد) ،نجد باب ًا كام ًال عن دعابات ال�شاعر ،فقد فقدت منه �ساعة يده ذات يوم ولم يعثر عليها ،وكان ولده ال�صغير وراء �ضياعها ،فكتب ق�صيدة تحت عنوان (فجيعة في �ساعة ،عام 1937م) ،يقول فيها: و���س��اع��ة ك��ال�����س��وار ح����ول ي��دي �ضاعت ف���أوه��ى �ضياعها جلَدي! م����ازال ي��ط��وي ال���زم���ان عقربها ح��ت��ى ط���واه���ا ال����زم����ان ل�ل��أب ِ ���د ���ض��ي��ع��ه��ا ن��ج��ل��ي ال�����ص��غ��ي��ر وك��م ح�� ّم��ل��ن��ي م����ن خ�������س���ارة ول����دي ق���ال���وا :ف����داء ل���ه ،ف��ق��ل��ت لهم: ك�ل�اه���م���ا ف���ل���ذت���ان م����ن ك��ب��دي قالوا :التم�س غيرها ،فقلت لهم: وه���ل م��ع��ي م��ا يقيم ل��ي �أ َودي؟ وفي واقعة �أخرى ،تعر�ض �أحد �أ�صدقائه من ال�شعراء لحادثة ن�شل� ،سلبه فيها �أحد الل�صو�ص �سبعة جنيهات ،وذلك عام (1938م) ،فحزن �صديقة على ما فقد منه ،فداعبه بقوله: ه ّون عليك وجفف دمعك الغالي ال يجمع اهلل بين ال�شعر والمالِ ! �إن����ا ل��ف��ي زم���ن ف�� ْق��د ال��ن��ق��ود به يدمي العيون كف ْقد ال�صحب والآلِ من �أي��ن �أ�صبحت ذا م��ال فت�سلبه يا �أ�شبه النا�س بي في رقة الحالِ ؟ ٌ �سبعة من جيبك انطلقت فيا لها و�أن����ت �أح����وج م��خ��ل��وق ل��م��ث��ق��الِ !
مجموعة غنيم ال�شعرية
ثم يقول له مهون ًا عليه م�صيبته: لم يبق عندك ما تخ�شى عليه فنم ك��م��ا �أن�����ا ُم ق���ري���ر ًا ن��اع��م ال��ب��الِ نف�سي فدا�ؤك! ليت الل�ص �صادفني قد يغلب الل�ص بالإفال�س �أمثالي! ونجده في ق�صيدة �أخ ��رى ،في الديوان نف�سه ،ي�سخر من راتبه ال�ضعيف الهزيل ،الذي يح�صل عليه من وزارة المعارف العمومية، حيث كان يعمل معلم ًا للغة العربية ،وذلك عام (1935م) ،فيقول: ولي راتب كالماء تحويه راحتي فيفلت م��ن بين الأ���ص��اب��ع هاربا �إذا ا�ست�أذن ال�شهر التفت فلم �أجد �إل���ى جانبي �إال غ��ري��م�� ًا مطالبا و�ض ِع ِه ف�أم�سيت �أرج��و نع َيه ي��وم ْ ولي�س الذي يم�ضي من العمر �آيبا ويترقب ال�شاعر العالوة االجتماعية ،التي ت�ضاف �إلى راتب الموظف العمومي ،لعلها ترفع راتبه الهزيل ،فيكتب في �أبريل (1935م) ،تحت عنوان (العالوة) مناجي ًا هذه العالوة ،طالب ًا منها الو�صال ،فيقول: قد حلّ (مايو) فا�سمحي بو�صالي م��� ّن���ي ع��ل��ي ول����و ب��ط��ي��ف خ��ي��الِ (عرقوب) وعدت ف�أنجزي يا �أخت ٍ يكفي ج��ف��ا�ؤك م��ن �سنين ط��والِ ف��ي �أي ن��ج��م ن���ازح ح��ج��ب��وك �أم ف��ي �أي ���س��ج��ن م��ح��ك��م الأق���ف���الِ ه��ل �أن����ت �إال ك��ال��غ��وان��ي طالما �سقن ال��دالل على رقيق الحالِ ؟
مجلة (الر�سالة)
ديوانه (�صرخة في واد) نال الجائزة الأولى من المجمع اللغوي بالقاهرة
عانى ظروف ًا اجتماعية واقت�صادية انعك�ست على مداعباته ال�شعرية
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
115
�أعالم هيفاء يحظى الم�ست�شار بو�صلها وت�����ص��د ك���ل ال�����ص��د ع���ن �أم��ث��ال��ي ثم يقول في الق�صيدة نف�سها معتر�ض ًا على الأو�ضاع االجتماعية المقلوبة بم�صر في ذلك الوقت: م��ا ل��ي �أرى �أم�����وال م�صر ك�أنها �إلى بع�ض الجيوب تكال بالمكيالِ ؟ حتى �إذا طلب ال�صغير حقوقه �شكت ال��خ��زان��ة ق��ل��ة الأم�����والِ ؟ ف����از ال�����س��ع��ي��د ب��ع�� ّم��ه وب��خ��ال��ه وفقدت عمي في الحياة وخالي! ويرثي لحاله في ق�صيدة تحت عنوان (ال تخدعوني بالمنى) عام (1929م) ،فيقول: �أف��ت��ل��ك ع��اق��ب��ت��ي وذاك م���آل��ي؟ خطوا الم�ضاجع وادف��ن��وا �آمالي ال تخدعوني بالمنى وحديثها قد ك��ان ذل��ك في الزمان الخالي ولقد برمت بم�صر حين وجدتها ق��ب��ر ال��ن��ب��وغ وم�����س��رح ال��ج�� ّه��الِ ب��ل��د ت�سربل ب��ال��ح��ري��ر َج��ه��و ُل��هُ وم�����ش��ى الأدي����ب ب��ه ب�لا ���س��رب��الِ وي��أت��ي عيد الأ�ضحى على ال�شاعر عام (1933م) ،في ظل الأزمة االقت�صادية وغالء المعي�شة ،فال يجد ما يتطلبه العيد من �سمن وع�سل و�أ�ضحية ،وت�ضيق به الحيل ،فيكتب تحت عنوان (العيد والأزمة) قائ ًال: �أي�����ه�����ا ال����ع����ي����د ه�����ل ت����رى ك��ي��ف ���ض��اق��ت ب��ن��ا ال��ح��ي��لْ ؟ ف���ت�������ش ال�����م�����دن وال����ق����رى ه��ل ت��رى ال��ن��ا���س ف��ي ج��ذل؟ ه����ل ت�����رى ط���ف�ل�اً اح��ت��ف��ى ه����ل ت�����رى ك���ه�ل�اً اح���ت���ف���لْ ؟ �أي�����ه�����ا ال�����زائ�����ر اخ��ت�����ص��ر ُز ْر وف���������ارق ع���ل���ى ع���ج���لْ �أق����ف����ر ال���ب���ي���ت واخ���ت���ف���ى ����ش���ب���ح ال�������س���م���ن وال���ع�������س���لْ وخ����ل���ا ال����ب����ي����ت ف����ال����ذي م������ع������ه دره���������������م ب�����ط�����لْ وفي جريدة (الأهرام) كتب ال�شاعر (محمد الأ�سمر في يوليو 1938م) ،كلمة زج��ر بها ال�ضيوف الذين يقلقون راحة النا�س ،واقترح على كل ذي بيت �أن يكتب على باب بيته قول محمد الهراوي: �إن ف����ي ال���ف���ن���دق م�������� َ أواك غ���������ذاء ْك وف������ي ال���������س����وق َ 116
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
محمد الأ�سمر
ل����ي���������س ذن������ب������ ًا لأن�����ا������س أق������رب������اء ْك �أن ي���ك���ون���وا � َ وكان غنيم �صديقا للأ�سمر ،فرد عليه في (الأهرام) بق�صيدة تحت عنوان (�إكرام ال�ضيف)، قال فيها: ج��اءك �صم �إذا م��ا ال�ضيف ْ ع�����ش��اء ْك وام���ن���ح ال�����ض��ي��ف َ َ غ��ط��اء ال��ـ �����ص��وف واج��ع��ل ال َ ���ض��ي ِ غ��ط��اء ْك ��ف ��ف وال�����س��ق َ َ �أن����ت �إن ل���م ت�����س��خ م��ث��ل ال��ـ إخ��������اء ْك �������رب �أن���ك���رن���ا � ُع ِ َ و����ش���ك���ك���ن���ا ف����ي����ك ي�����ا ���ص��ا دم�����������اء ْك ِح وح����لّ����ل����ن����ا َ ال �أواك ال���ب���ي���ت وال���فُ���ن���ـ أق������رب������اء ْك ُدقُ ي���������أوي � َ ٌ ���ض��ي��ف �إن ي���ه���ن ع����ن����دك ج���������زاء ْك ي����ك����نِ ال�����ه�����ون َ ف���������دع ال�����ح�����ر������ص و�إال ف���ن���اء ْك ���ر����ص ّ َ ع���ج���لَ ال���ح ُ وله في الدعابات والم�ساجالت بينه وبين �أقرانه من ال�شعراء باع طويل ،وال نح�سب �أن �أحداً من معا�صريه قد بلغ �ش�أنه في هذا الباب.
محمد الهراوي
الريف الم�صري
اختير ع�ضواً في لجنة ال�شعر في المجل�س الأعلى لرعاية الفنون والآداب
مقاالت
كنوز
وهم التغيير والت�أثير.. ندعي نحن الكتاب� ،أننا بالكلمة التي نمتلكها ن�ستطيع �أن ن�صوغ ب�شراً ي�شبهوننا، �أو على نقي�ضنا تمام ًا ليعو�ضوا ما نبتغيه وما ا�ستطعنا الو�صول �إليه� ،أو نطرد ب�شراً ال ي�شبهوننا وال يجوز لهم دخ��ول مملكتنا المثالية ،كما نظن ب�أننا قادرون على ابتكار عالم جميل مختلف ،عادل ،مت�سامح ،نحدده ون�ضع معاييره كما نت�صوره� ،أو كما ن�شتهيه، وبالتالي نختار من يمتثل لقوانينه ويقدر �أن يتعامل معه ،ليرتفع بدرجات على �سلم الوعي والحب واالختالف. ه��ك��ذا ن��ح��ن ال��ك��ت��اب ،ن��دم��ج ال��وع��ي ب��ال�لاوع��ي ،والحقيقة ب��ال��وه��م ،وال��واق��ع بالخيال ،ال�شائك والمت�شابك من الأ�شياء مع المب�سطة واللطيفة منها. وم ��ن ي��ت��اب��ع ت�����ص��ري��ح��ات المبدعين، ويتلم�س �أحالمهم و�أفكارهم المنثورة بين طيات ال ��ورق ،ي��درك تمام ًا �إيمانهم بما يجادلونك فيه ،على �أنهم ال��ق��ادرون على تغيير العالم ،و�أن الكتاب المم�سكين بر�سن الزمن الجامح ،وحدهم هم �أبطال التجديد والتغيير والتطوير االجتماعي والثقافي ،حتى ال�سيا�سي واالقت�صادي ،وبالتالي ف�إن دورهم �أكبر و�أخطر من دور الر�صا�صة ،ولعل الأمر كذلك حق ًا لأن الكتابة فعل �إبداعي ،تغييري، �إن�ساني ،فردي وتراكمي ،ومن �أ�سمى غاياته و�أه��داف��ه محاربة الجمود و�إ���ض��اءة العالم بالكلمة ،التي تعتبر الحامل الأ�سا�سي للفكر والمعرفة والجمال ،ولكن -وهنا قا�صمة الظهر -كيف تقف الكلمة �أمام الر�صا�صة في عالم يت�سارع �إلى الهاوية ؟ وكيف للكلمة �أن تجادل في الزمن المت�سارع وتم�سك به، وتوقفه عن تدحرجه وهي ت�سير على عكازين في الطريق ال�سريع الذي ال ينتظر العكازات وال يلتفت �إلى �شيء ..بل يجرف معه كل �شيء، حتى قناديل ديوجين وعكازاته ،فالوقت من ذهب في هذا العالم االفترا�ضي� ،إما �أن
ال بد من االعتراف بكل جر�أة �أن الر�صا�صة �أ�سرع في التغيير والت�أثير من الكلمة
تقتله و�إما يقتلك؛ لذلك ال بد من االعتراف، وبكل الجر�أة والأ�سف� ،أن الر�صا�صة �أ�سرع في التغيير والت�أثير ،والخوف منها �أكبر ،وحين يتملك الخوف �شعب ًا ،لن يدير ظهره �إلى الكلمة ليحتمي بها ،بل �سيهرب ولن ينتظر ،فالوقت لي�س لم�صلحته ،ولي�س لم�صلحة الكاتب ،الذي يدعي �أن��ه ق��ادر على �إيقاف الزمن وتغيير م�ساره .لقد �صدقنا لزمن طويل �أن الكاتب ي�ستطيع �أن يوقف الزمن ،و�أنه يكتب ليجعل العالم �أجمل ،و�أكثر �إن�سانية ورقة ،ولكن ظهر في الآونة الأخيرة من بين الكتب المتراكمة، كاتب �أكثر �شرا�سة و�أ���ش��د م��ه��ارة ،و�أ�سرع و�صو ًال� .إن��ه هذا الخامد المتلون المختبئ بين �أزرار كمبيوترك ال�صغير المركون على طاولة المطبخ ،حيث الخبز والزيتون وال�شاي المحلى لتقدر �أن تبتلع مرارة الحا�ضر؛ هذا الجهاز اللعين ما �إن تفتحه حتى يتدفق �إليك عالم عجيب غريب ،لم ت�صغه �أنت ،ولم ت�شارك في ا�ستدراجه كي ي�أتي �إلى ذاكرتك ويدخل ال��ر�ؤو���س ال�صغيرة لأبنائك .لكنه دخ��ل ،وجعلك تقف على الباب ،منتظراً �أن ي�أخذ مقعده المنا�سب ،وال��ذي �سيكون في ال�صدارة طبع ًا� .سيلتف حوله �أه��ل بيتك، وف��ي البيت المجاور �أي�ض ًا� ،سيكون الأم��ر على �شاكلتك� .ستحاول �أن تجل�س بالقرب منه ،ولكنك لن تجد مكان ًا منا�سب ًا .المكان �أخذته الر�ؤو�س ال�صغيرة المعب�أة بخياالت كبيرة ال تتنا�سب وعقلك المقولب ،ف�أنت لك مكانك الآخ��ر؛ مكانك هناك ،وراء الطاولة والأوراق والأق�ل�ام� ،أو هناك قرب المكتبة التي يتكد�س فيها عمرك وزمانك الذي تدعي ب�أنك قب�ضت عليه و�سجنته .للأ�سف ،هو اليوم هارب منك� ،سارح على هواه ،تلتقطه الر�ؤو�س ال�صغيرة ،وت�ستدرجه ليقدم لها �أ�شكا ًال ،ال ت�شبهك ،بل وجودها يحيرك ،ويجعلك تفقد الإيمان بجدوى الكتابة كلها ،فهي بطيئة والكاتب الجديد �سريع جريء ،ال تعنيه القيم التي �آمنت بها ،وال يقف عند القوانين التي حفظتها واحترمتها ،هذا الكاتب المختلف، الع�صري ال�����ش��ر���س ،ال ��ذي يتحرك ف��ي كل اتجاه ،عابراً الإ�شارات الحمراء والخ�ضراء مع ًا ،يحمل ال�سيف بيد والقلم باليد الأخرى، له القدرة �أن ي�ضرب على الر�أ�س بمعلومات و�أفكار تغير تعاريج الذاكرة� ،سواء ر�ضيت
�أني�سة عبود �أم لم تر�ض ،وقد يقدم لك المعلومة الغائبة ويفتح لك مغاليق الأ�سرار دون �أن تطلبها، فتتوه وت�شعر بالعجز لأنك غير قادر على �أن تحقق ر�سالتك في التغيير الذي تنهجه وتعمل عليه� .ستهز ر�أ�سك �أيها الكاتب -التحرير- وتر�شف قهوتك مهدهداً روحك المتعبة وقلمك ال��ذي تحجر الحبر فيه ،ف�أنت ال تقدر على الدخول في �سباق� ،أو مواجهة مع الكاتب يفرخ الأفكار والآراء والأخبار الجديد الذي ّ عبر جهاز عجيب ،يبث في كل جهات الأر�ض، وي�سود الفكر ال�صالح والطالح ،ويزين لهذا، ّ �صورة ذاك ،محو وهدم وبناء مع ًا ..وخطاب مرتفع النبرة ي�ضج في قاعات كثيرة ،بينما �أنت وحدك في قاعتك المغلقة تن�شد ال�شعر، وتغني على ليالك التي هجرتك و�سارت مع الركب باتجاه ما ي�سمى حداثة الأفكار والأ�شياء ،من هنا قد يعمم الخط�أ وتعمم الخطيئة ،ول�ست بقادر بعد هذا الهدم ال�سريع على البناء ال�سريع ،فهذا الجهاز العجيب (الحا�سوب) له �سطوة وله �أذرع خفية ت�ستطيع �أن تهدم كل �شيء (ب�سحبة او تمرير الماو�س)، على م�صنفات الزمن وعلى ذاك��رة الأدب��اء و�أحالمهم وعناوينهم وتراثهم. �إن تمرير الأ���ص��اب��ع على ه��ذا الجهاز العجيب ال ي�شبه تمريرها على الورق ،وفتح الكوى والأيقونات فيه فيما ي�شبه ت�صفح ال��ورق؛ فالزمن فيه �سريع ،متغير كزمان ر�صا�صة ،بينما زمن الحبر بطيء ،وحركته مترددة ولم يعد قادراً على الو�صول �إلى كل الجهات الغائبة �أو الحا�ضرة؛ لذلك وجب علينا ،نحن الكتاب� ،أن نكف عن الأح�لام والهيام والكالم ،ونيران الإلهام واالدع��اء ب�أننا ق��ادرون على تغيير الأ�سماء والأي��ام، لكن كيف نكتب �إذا ما خ�سرنا كل هذه النيران المتقدة في غابة الإبداع؟!
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
117
«الوزير العا�شق» �أ�شهر م�سرحياته ال�شعرية
فاروق جويدة :الطبيعة �أول معلم في الفن يعتز ال�شاعر فاروق جويدة ب�أنَّه فالح ب�سيط ن�ش�أ وترعرع ككُلّ الفالحين ال�شرفاء من �أبناء م�صر ،وهو ال يدعي ذلك زيفاً ،ولكن مواقفه و�أفعاله تدل على �أنَّه لم يفقد� ،أبداً، �صالبة �أهل القرية وق َّوة �شكيمتهم وفطرتهم التي جبلوا عليها ..لهذا فهو �شاعر ثابت الخطى ،ال يلين عن ر�أي وفيق �صفوت مختار اعتنقه و�آمن به ،وال يحيد عن ر�ؤية يراها �صائبة ،حتى � َّإن حمالته ال�صحاف َّية جميعها لم يكن الغر�ض منها دعائي ًا �أو نفعياً ،بقدر ما حد �سواء. كانت بهدف الدفاع عن الم�صلحة العامة؛ الم�صرية والعربية على ٍّ ول ��د ال�����ش��اع��ر ف� ��اروق ج��وي��دة بقرية (�أفالطون) ،بمركز (قلين) ،محافظة (كفر ال�شيخ) في العا�شر من �شهر فبراير عام (1945م) .تخرج في كلية الآداب ،ق�سم ال�صحافة بجامعة القاهرة عام (1968م). 118
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
حرراً بالق�سم االقت�صادي بجريدة عمل ُم ِّ «الأهرام» في نف�س عام تخرجه ،ومنذ عام (2002م) �أ�صبح �شاعرنا رئي�س ًا للق�سم الثقافي بجريدة «الأهرام». العربية �أكثر من ()32 ق� َّ�دم للمكتبة َّ
إبداعية في ال�شعر، كتاب ًا خالل رحلته ال َّ والثقافية، ال�سيا�سية والم�سرح ،والق�ضايا َّ َّ و�أدب ال���رح�ل�ات ،ف��م��ن ب��ي��ن دواوي��ن��ه ال�شعرية نذكر�« :أوراق من حديقة �أكتوبر» َّ (1974م)« ،حبيبتي ال ترحلي» (1975م)، ِ عينيك عنواني» (1979م)�« ،شيء «في �سيبقى بيننا» (1983م)« ،ل ��ن �أب��ي��ع الع ْمر» (1989م)« ،زمان القهر ع َّلمني» ُ (1990م)« ،كانت لنا �أوطان» (1991م)، ال�شعرية فنذكر منها: � َّأما �أهم م�سرحياته َّ «الوزير العا�شق» (1981م)« ،الخديوي» (1994م) ،وفي �أدب الرحالت �أ�صدر كتاب ًا بعنوان« :بالد ال�سحر والخيال» (1981م)، التقديرية وقد فاز �شاعرنا بجائزة الدولة َّ في الآداب من المجل�س الأعلى للثقافة، عام (2001م).
�إبداع الثقافية» هذا وك��ان لمجلة «ال�شارقة َّ الحوار ال�شيق مع ال�شاعر فاروق جويدة: ¯ متى؟ وكيف تو َّلد �إح�سا�س فاروق جويدة بع�شق ال�شعر؟ ال �شك � َّأن ميالد ال�شاعر فيه جزء قدري،وفيه جزء موهبة ،وفيه �أي�ض ًا جزء درا�سة، الجزء القدري � َّأن هناك �إن�سان ًا ما ُخلق لكي حددها اهلل �سبحانه يكون �شاعراً ،وهذه م�س�ألة ُي ِّ وتعالى .الجانب الثاني هو � َّأن الموهبة مثل �أي �شيء ،من الممكن جداً �أن تظهر في مناخ وتموت� ،أنا �أ�ؤمن ب� َّأن المواهب مثل الأ�شجار تمام ًا� ،إذا وفرنا لها الرعاية الكافية والمناخ المنا�سب ،فمن الممكن �أن تكبر وتعطي الثمار .بعد ذلك ت�أتي الدرا�سة ،ف�أنا م�ؤمن الفن ،ل َّأن االطالع وال�سفر جداً بالدرا�سة في ِّ ّ والم�شاهدة وتنمية الإح�سا�س وال��ذوق ،هذه ٍ ٍ حقيقية. تنمية ُك َّلها تحتاج �إلى ٍ ٍ ثقافية ،وال��دي كان من ن�ش� ُأت في بيئة َّ علماء الأزهر ،وكان يهوى الثقافة ،وكان رجل مرة دين متفتح ًا ،كنا نتكلم في ُك ّل �شيء ،و�أذكر َّ �أنني كنت �أقر�أ ،وعمري ع�شر �سنوات�( ،ألف ليلة وليلة) ،وكنت �أذهب �إليه لأ�س�أله فيما ا�ستغلق علي فهمه ،وكان يجيبني ب�صدر رح��ب ..لقد َّ كانت في بيتنا مكتبة �ضخمة تحوي �أمهات الكتب من تراثنا العربي والإ�سالمي. ال نن�سى دور الطبيعة في تكوين المبدع، الفن ،لي�س هناك لوحة فالطبيعة � َّأول ُمعلِّم في ِّ �أجمل من التي ر�سمها اهلل �سبحانه وتعالى، لي�س هناك مو�سيقا �أجمل من مو�سيقا الكون، ال�سماء لي�س هناك ف� ّ�ن ت�شكيلي �أجمل من َّ والغروب و�أ�سراب الطيور القادمة والذاهبةُ ،ك ّل هذا عندما يتر�سب في �أعماق طفل �صغير يبقى هو ال��زاد الذي ُي�ش ِّكله ،بعد ذلك ت�أتي الر�ؤية الجمالية وال��ق��درة على التذوق والإح�سا�س َّ بالأ�شياء والعالقات بين الأ�شياء نف�سها ،ل َّأن والفن �أي�ض ًا عالقات ،و�إذا الكون عالقات، ّ كانت الق�صيدة عالقة بين كلمة وكلمة تنتج المعنىُ ،ث َّم تقوم بتو�صيله لل َّنا�س في �إطارٍ من الم�شاعر والأحا�سي�س فالكون كذلك. لدي �إخوة �صبيان، �إ�ضافة �إلى ذلك لم يكن َّ لع ْمر خم�سة ع�شر عام ًا ابن ًا وحيداً على �أنا مكثت ُ ٍ مجموعة من الإناث ،وقد يكون هذا �أعطاني نوع ًا جداً ،والأوالد �صغيرة القرية كانت الوحدة، من ّ �أبناء الفالحين كانوا يقومون بزراعة الأر�ض مع �أهليهم ،و�أنا الوحيد الذي يمكنه �أن يجل�س
في البيت ليقر�أ ،ل َّأن والدي كان يقوم بت�أجير الأر� ��ض للآخرين ،فهذا �أعطاني فر�صة لأن �أجل�س مع نف�سي كثيراً� ،أت� َّأمل الكون من حولي ُث َّم ينعك�س هذا بداخلي ،ومازالت هذه الخا�صية من �إحدى �سماتي ،ف�أنا �أ�ستطيع �أن �أجل�س في مكاني في البيت ع�شر �ساعات ال �أتحدث مع �أحد � َّإل كتبي و�أوراق ��ي ،دائم ًا �أق��ول :الإن�سان بد �أن يعتاد الوحدة حتى ال ين�سى حقيقته ال ّ الأول��ى التي ُول��د بها وال ب� ّ�د �أن يرحل معها. الح ّب، ¯ يطلق عليك بع�ض النقاد ب�أ َّنك �شاعر ُ �شخ�صي ًا في العديد وهذا بالطبع ما �ألم�سه �أنا ّ ال�شعرية ،ما تعليقكم؟ من ق�صائدك َّ ال� ُ�ح� ُّ�ب ق�ضية عندي ولك َّنه لي�س ُك� ّلالح ِّر َّية �أي�ض ًا ق�ضية مهمة الق�ضايا ،فق�ضية ُ في �شعري ،ق�ضية العدالة ،ف�أنا م�ؤمن بالعدالة االجتماعية وم ��ؤم��ن بطبقية الفكر ،وغير َّ االجتماعية ،وال بالطبقية بالطبقية م�ؤمن َّ االقت�صادية ،لذلك �أنا �أحترم �إن�سان ًا فقيراً لأ َّنه َّ مثقف ،ول َّأن عقله م�ستنير ،وال �أحترم على الإطالق �صاحب ماليين جاه ًال ،هذا هو الفرق بينهما .دعني �أقل لك � َّإن الح�ضارة �صنعتها ال�صفوة ،ولم ي�صنعها القطيع ،ف�أنا بقدر ما االجتماعية ،بقدر ما �أ�ؤم��ن �أ�ؤم��ن بالعدالة َّ بد �أن يكون لهم بطبقية �أ�صحاب الفكر ،و�أ َّنه ال ّ
ميالد ال�شاعر موهبة ت�صقل بالدرا�سة والمعرفة
لي�س هناك فن ت�شكيلي �أجمل من الطبيعة
الحزن من �أنبل الم�شاعر ويرتبط قيمي ًا ب�شفافية الإن�سان
من م�ؤلفات فاروق جويدة العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
119
�إبداع
خا�صة في المجتمع ،لذلك ُّ تميز خا�ص ومكانة َّ الح ّب هي الق�ضية ق�ضية إن � تقول أن � ت�ستطيع ال ُ الأ�سا�س عندي. ¯ م� ٍآ�س عديدة و�أح��زان جمة تنطوي عليها العديد من ق�صائدك ،فهل معنى ذلك � َّأن ال�شاعر ٍ بنظرة فاروق جويدة ال ينظر �إلى الحياة � َّإل ٍ حزينة؟ ال��ح��زن �شعور م��ن �أن��ب��ل الم�شاعر منحيث القيمة ،والحزن كما �أعتقد يرتبط بدرجة �شفافية الإن�سانُ ،ث َّم � َّإن تجربة جيلي تجربة أت�صور �أي�ض ًا � َّأن تجربة الإن�سان في حزينة ،و� َّ الحياة عموم ًا تجربة حزينة� ،إذا كنت ال تعرف نقطة البداية وال نقطة النهاية ،وما بينهما من ال�سعادة، فراغ!! ي�ستطيع الإن�سان �أن يزيف وجه َّ الحزن! ولك َّنه ال ي�ستطيع �أبداً �أن يزيف لحظات ُ �أحيان ًا �أت�����س��اءل :لماذا ُنفكر دائ��م� ًا في نهايات الأ�شياء برغم �أ َّننا نعي�ش بداياتها!؟ هل لأ َّننا �شعوب تع�شق �أحزانها؟ �أم لأ َّننا من كثرة ما اعتدنا �أ�صبحنا نخاف على ُك ِّل �شيء،
غالف كتاب «�ألف ليلة وليلة»
120
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
ومن �أي �شيء! حتى �أوق��ات �سعادتنا نخ�شى عليها من النهاية .ولكن ال�شاعر �سيبقى دوم ًا ُيب�شر بالأحالم ،لأ َّننا �إذا افتقدنا القدرة على الحلم ف�سوف نفقد قدرتنا على ال�صمود ،ومهما عيني و� َّأرقني الأجل ,مازلت توارى الحلم في َّ الع ْمر �شيئ ًا من �أمل. �ألمح في رماد ُ ¯ ما ر�أي ال�شاعر فاروق جويدة في ما يطرح أدبية من ن�صو�ص �شعرية غارقة على ال�ساحة ال َّ والرمزية المكثفة ،على �أ�سا�س � َّأن في الغمو�ض َّ هذا من متطلبات التجديد �أو التجريب الذي تنادي به الحداثة في ال�شعر؟ �أن ��ا �أك��ت��ب �شعري م��ن خ�لال ه�ضميللفن ،لي�س هدفي �أن �أهتم بـ(التقاليع) ،لأني ِّ ُ �ب ال��ت��راث العربي والإ�سالمي �أن��ا �شاعر �أح � ّ الذي �أنتمي �إليه� ،إذاً �أنا حلقة من حلقات هذا التراث ،ال ي�ستطيع �أي �إن�سان �أن ي�ضرب بثالثة �آالف �سنة من ال�شعر عر�ض الحائط� ،أنت ترى الجمهور بد�أ ين�صرف عن ال�شعر وال�سبب في ذلك محاوالت التجريب التي ال تمتلك مواهب حقيقية ،ه�ؤالء الأدعياء �أ�سا�ؤوا لل�شعر وكانوا �سبب ًا في ابتعاد ال َّنا�س عن قراءة �أ�شعارهم� ،أنا مع التجريب ولكن ب�شرط �أن ي�ستند �إلى وعي وفهم� ،أنا �ضد التجريب الأعمى ،في اعتقادي � َّأن بع�ض ال�شعراء الذين يكتبون �شعراً غام�ض ًا ال يفهمون ما يكتبونه !! �أ�صارحك �إذا قلت لك �أنا �شخ�صي ًا �أحتاج �إلى (مذكرات تف�سيرية) لفهم ّ تلك الأ�شعار .عمليات التجريب لم تهتم مطلق ًا بم�شكالت ال َّنا�س ومعاناتهم ،فكان هدفها هو االهتمام بال�شكل على ح�ساب الجوهر ،ال �سيما المتلقي ي�ستنفد ُع ْمره �أمام و�سائل عندما بد�أ ُ ال�صعب �أن من أ�صبح � ف االجتماعي، التوا�صل َّ أت�صور تقع يقر�أ ال�شعر ،للأ�سف .الم�س�ؤولية كما � َّ بالدرجة ال َّأولى على ال�شعراء الذين تخلوا عن الجمهور تحت دعاوى التجريب والحداثة..
فاروق جويدة في �إحدى الندوات
المبدع الحقيقي مع التجريب �شريطة �أن يعتمد على وعي وفهم
ال ي�ستطيع �أي �إن�سان �أن ي�ضرب بثالثة �آالف �سنة من ال�شعر عر�ض الحائط
الأدعياء �أ�سا�ؤوا لل�شعر وال يفهمون ما يقولونه بدعاوى التجريب الأعمى
فن.وتر .ريشة الفنون ال�شعبية يف بور �سعيد
¯ المزج الت�صوري للت�شكيل ¯ �سيد الوكيل ور�أب ال�صدع بين الناقد والمبدع
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
121
في كتابـه «عند منعطـف النـهـر»
�إ�سماعيل الرفاعي..
ير�سم الأ�شعار ويكتب اللوحات منذ بداياته الإبداعية المبكرة ،ا�ستطاع الفنان الت�شكيلي والأدي��ب ال�سوري �إ�سماعيل الرفاعي� ،أن يجد لنف�سه عالم ًا خا�ص ًا ب��ه ،يت�سم بالموا�شجة بين �صنوف الأدب المختلفة ،ما يجعل من الرفاعي متفرد ًا عن الكثير من معا�صريه .في كتاب (عند زمزم ال�سيد منعطف ال��ن��ه��ر) ال�����ص��ادر ع��ن (م��ي��ادي��ن للفنون 2021م) ،ن��رى �أن الر�سام ير�سم �أ���ش��ع��اره ،وال�شاعر يكتب لوحاته، و�إذا ما �أردن��ا �أن نف�صل بينهما نجد �أنف�سنا �أم��ام �أم��ر �صعب التحقيق. وكما يقول �إ�سماعيل الرفاعي في مطلع كتابه (في الر�سم ثمة دائم ًا حكاية م�ضمرة، وف��ي الكتابة ثمة دائ��م� ًا �أل ��وان م�ضمرة، لطالما كان هذا واقع الحال بالن�سبة لي، ولطالما كانت الأل��وان التي �أنثرها على �سطح القما�ش ،ت�ش ّكل في �سرها ما يوازيها من حروف على ال�صفحات البي�ضاء).
122
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
يعتبر �إ�سماعيل الرفاعي من القامات الفنية التي حققت ح�ضورها ،ووجودها الفاعل في ال�ساحتين المحلية والعربية، وهو يتمتع بح�ضور ثقافي الفت ك�شاعر وروائي وفنان ت�شكيلي ،حيث قدم م�شروع ًا متكام ًال ات�ضحت فيه العديد من المكونات الإبداعية ،وقد انحاز الرفاعي في م�شروعه
الإب ��داع ��ي منذ ب��واك��ي��ره �إل ��ى الإن�����س��ان، باعتباره المكان الأول لبدايات الأ�شكال المتجددة. يقول الأديب والباحث اللبناني �شربل داغ��ر في �سياق تقديمه لكتاب �إ�سماعيل الرفاعي (عند منعطف النهر) الذي يت�ضمن دفتر الطفل ،ودفتر الر�سام( :الجل�سة عينها: جل�سة الفنان �إلى دفتره .القلم عينه :يكتب مرة ،وير�سم مرة �أخرى ،في الدفتر نف�سه. الورقة عينها :ينبثق من بيا�ضها ،من غب�شها� ،شك ٌل لمكان مخفي ،و�آخ� ُ�ر لمكان غائب؛ �شك ٌل لوجه خفيف المالمح �أو غائر في العتمة. الإلحاح عينه :مرة بخط الكلمة ،ومرة بخط الر�سم .الم�سافة عينها ،وال�شغف عينه، ما يجعل ف�ضاء الدفتر غا�ص ًا بذكريات، و�أط��ي��اف ،ووج���وه ،و�أج�����س��اد ،و�أ���س��م��اء، و�أ�شكال تخرج من ال�سواد �إلى ف�ضاء العين. كما لو �أن الفنان ي�ستطيع ا�ستح�ضار ما اندثر في مهاوي ال��ذاك��رة ،كما لو �أن ِ ٍ ب�سط ح��ي� ٍ كافية �اة الكلمات تقوى على لأ�شباح خرجت من عتمة الألفاظ �إلى حياة الح�ضور.
ت�شكيل دفترين، ما �أقدم عليه �إ�سماعيل الرفاعي ،في َ ي�شبه ورقة ب�صفح َتين ،من دون �أن تكون الواحدة منهما �أول��ى ،والأخ ��رى ثانية .ورق��ة من دون �أن يكون لها وج ٌه وقفا .ورقة �شفافة ،تتبادل العالقات في ما بينها. (مو�ضوعه)� ،إذا غر�ضه� ،شاغلُه، لكل دفت ٍر ُ ُ جاز القول� ،أي نقطة االبتداء فيه .هذا ما ير�سم خياراً افتتاحي ًا للفنان الذي له يدان :تتبادالن التعبير بين دفقة �شعرية ودفقة فنية. يده المم�سكة بالقلم ،لكنها ت�ستعذب لك ّل دفت ٍر ُ ما تراه فتحفظ هيئ َته� ،أو ت�ستخرجه من عتمة الذاكرة فنراه يطفو فوق موج الكالم). وف��ي �إط���ار اه��ت��م��ام الأدب����اء والمثقفين بالكتاب يقول �إ�سماعيل الرفاعي :من �أجمل ما و�صلني من تعليق حول كتابي « عند منعطف النهر» الر�سالة الرائعة التي تلقيتها من الكاتب والم�سرحي الدكتور يو�سف عيدابي« :عند منعطف النهر» �أيقونة من روح الفنان خرجت من طفولة �إلى ر�شد يطال ال�شعر/الر�سم في توا�شج ذاكرة من حنين و�شجن� .أحببت ال�سفر المليء في دثار الال لون والغبار .لك الود الذي يليق بك». وح��ول مزجه بين ال��ل��وح��ات والن�صو�ص الب�صرية��� ،ص��رح ال��رف��اع��ي ف��ي �أح ��د لقاءاته ال�صحافية فنجده يقول� :أعتقد � ّأن حال الر�سم أتحيز لأحدهما هو ذاته حال الكتابة ،ف�أنا لم � ّ أف�ضل �أحدهما على الآخر ،ولم �أختر مطلق ًا ،ولم � ّ لمرة واحدة ب�شكل م�سبق ما ينبغي �أن �أتناوله في هذا �أو ذاك .وربما �أ�ستطيع القول �إنهما متكامالن أعو�ض بالكتابة تمام ًا .قد يحدث �أحيان ًا �أن � ّ أعو�ض بالر�سم ما ما عجزت عنه في الر�سم� ،أو � ّ عجزت عنه بالكتابة .لكن حقيقة الأمر �أن لكل منهما �سبيله ونكهته الخا�صة و�أخيراً ا�ستطعت �أن �أمزج بينهما في م�شروع واحد �أ�سفر عن ثالث مخطوطات ،هي( :الطفل عند منعطف النهر) ،و(دفتر الر�سام) ،و(الدائرة المغلقة) ،وه��ذا الم�شروع عبارة عن مزج بين الب�صري وال�سردي في تلك المخطوطات ،حيث عمدت �إلى تدوين كتبي بخط يدي ،م�ستخدم ًا ُ الأحبار الطبيعية وري�شة المعدن. وحري بنا �أن ننوه ب�أن الرفاعي ا�ستحدث
�شربل داغر
خط ًا عربي ًا خا�ص ًا به للكاتبة ،حيث يمازج الخط ما بين الكتابة والر�سم في �آن ،حتى �صار يعرف هذا الخط الم�ستخدم في كتابته بالخط الرفاعي ن�سبة �إلى �صاحبنا. ون�ست�شهد هنا بمقطع من �أح��د الن�صو�ص التي وردت في الكتاب ،حيث يقول �إ�سماعيل الرفاعي :لل�سماء �أجنحة تخفق بها هذا الم�ساء ..وللأر�ض �أي�ض ًا .وعلى كتف �أمي حين ترتحل يهب من تلقاء نف�سه ..كي ت�ستدل على كن�سيم ُّ نف�سها في خطوط راحتيها� ،أن تفرد لك الملكوت على ات�ساعه ،وتومئ لك بطيورٍ تتهادى بزغب تحف بك و�أنت ت�سبر الك�شف ..و�أي�ض ًا بمالئكة ُّ العتمة بعينين مغم�ضتين ،وقلب يتلم�س �ضوء أرت���ك م��ا �أع��دت��ه ل��ك في عينيها ..حتى �إن��ه��ا � َ غيابها وغيابك ،و�أرتك ما �أعدته لك في غفلتك وارتقابك.. �إلى �أن يختتم الرفاعي بقوله ( �ألم تكن يا ولد النهر ..على �ضفاف النهر� ..أينما كنت). وي�شار �إل��ى �أن الفنان الت�شكيلي والكاتب ال�سوري �إ�سماعيل الرفاعي ،من مواليد (1967م) بمدينة الميادين ب��دي��ر ال���زور .حا�صل على بكالوريو�س فنون جميلة ،جامعة دم�شق. ع�ضو نقابة الفنون الجميلة ب�سوريا ،وع�ضو جمعية الإمارات للفنون الت�شكيلية. تت�ضمن م�شاركاته العديد من المعار�ض الفردية والجماعية عربي ًا ودولي ًا� ،إلى جانب م�شاركاته ف��ي البيناليهات وال��ت��ظ��اه��رات الدولية .نال الرفاعي العديد من الجوائز الفنية والأدبية ،مثل جائزة دبي الثقافية (2015م). الجائزة الأولى في المعر�ض ال�سنوي لجمعية الإم ��ارات للفنون الت�شكيلية عام (2013م). ج��ائ��زة ال�شارقة ل�ل�إب��داع العربي ع��ن رواي��ة (�أدراج الطين) عام (2006م) .جائزة نقيب الفنون الجميلة � -سوريا عام (2002م)� .أ�صدر مجموعة �شعرية بعنوان «وعد على �شفة مغلقة» عام (2002م).
من �أعماله
ا�ستحدث خط ًا عربي ًا خا�ص ًا به ..يمازج فيه بين الكتابة والر�سم وقد عرف با�سمه
د .يو�سف عيدابي
غالف الكتاب العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
123
مقاالت
نجوى المغربي
ال م�شهد بغير �صورة ملونة �أو متحركة، فماذا لو �صار ال�سياق تمازج ًا واقع ًا بين الإح�سا�س الب�صري وال�صورة اللونية .بين تطوير الفكرة وان�سجام ال��خ��ام��ات يت�سع ال�سطح لم�ضمون عالقة متجان�سة بين الكل ال��ق��ادر على المواجهة المجدد والمكت�شف طالما احتوته لوحة �أو مج�سم ،ت�ست�أثر به لغة الخامة فت�صبح هدف ًا قبل ال�شكل ،وقد ت�ستر�سل فتخرج على نف�سها �أو ت�ؤمن انك�ساراً عن المعتاد والم�ألوف لتخبرك بتفردها ،عك�س كثير من الحقائق الملونة التي تظل مظلمة �أو ما عك�سه دافيد عن نابليون (المحاكاة) واعتبر ذخيرة ك�أعمال �أنجلو �سليلة نظريات الثراء وال�ضوء و�أحداث �أ�سقف الكاتدرائيات �أو م��رور الفاتحين و�إب��ح��ار ق��وارب دانتي، �إن اعتالء بع�ض المعالجات �ساحة اللوحة ال يعني تجردها م��ن خ�صائ�ص ع�صرها ورمزية مدر�ستها مثل كوربيه ،ال��ذي ي�ؤكد ق�ضيته ولو اعتماداً على الإث��ارة الوجدانية والعقل المجتمعي ،وح��ي��ن تعتمد اللوحة على النبوءات عليها �أن تلتزم الحياد ،وال تفر�ض مغازلة عالم ما ،ولعل مورو و�شاجال و�سي�سلي قد ق�سموا ما بينهم من �سماء و�أر�ض بدت بتجلياتهم المتوا�ضعة �إنجازات لتحديد 124
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
المزج الت�صوري للت�شكيل
�أهم طرائق االن�سجام اللوني والحرفي؛ فذهب التكثيف وظل الالمرئي المنبثق من الخيال ال��م��رئ��ي ،وه��و م��ا م��ال �إل��ي��ه بيكا�سو حين حرر المادة و�صو ًال �إلى براك الذي �أفرط في تجزئتها؛ فعند بيكا�سو حا�ضر يعود ب�آلة، وعند ب��راك ودو�شامب �آالت متعددة تثبت وجودها وم�ستقبلها .تعمل عنا�صر الر�سمة في اللوحة بجد وتدبر لتفوز بمراحل النقد الأعلى ،ففي �أرن�ست وماجريت وفراند دالي، تبتعد العنا�صر عن العقل والمبا�شرة ،وتتجز�أ �أم ًال في م�ستقبل خيال الرائي المنوط بوعيه، وهو في ذاته تنوير يوازي الحداثة مجرد وغير منقو�ص وغير عابئ كذلك بالت�أليف بين �إدارة العنا�صر؛ فاللوحة المن�سجمة من قبيل الر�سم للعوام ،و�إذا ما كان هناك �شكل ملمو�س بين الب�صر واللوحة ،فليكن تكوين ًا ،من كتل وقيم ومنهاج ال ي�سل�سل الم�شاهد والمتتبع، ولعل ذل��ك هو ما يعطي تو�صيف ًا مختلط ًا ومختلف ًا بين عنا�صر المجتمع ال��واح��د. في هذه الفترة ال بد �أن تقلد اللوحة �سلوك متلقيها ،فكراً و�إبداع ًا �إ�ستاتيكي ًا ،لمبدع ير�سم لنف�سه حالة خا�صة وخال�صة ،تقول بع�ض المج�سمات ال�ساخرة �إن دالالت وطيدة تن�ش�أ بين مكوناتها ،والفنان طوال قيامه بالعمل
�أعمال مايكل �أنجلو �سليلة نظريات الثراء وال�ضوء و�أحداث مرور الفاتحين
بيكا�سو مال �إلى تحرير المادة وبراك �أفرط في تجزئتها
مقاربات
يكون طرفيها؛ الر�ؤية والت�صور ،وهو خطاب عين وعقل ،ي�صل فيه ال�صانع �أو قد ي�صل �إلى �أنه ال �صورة ،و�أنه يحتفي فقط ب�إ�سقاطه ال��وج��دان��ي ،وكلها م�ضامين و�أط��روح��ات ظاهراتية يحتفي بها �أي�ض ًا العمل والرائي، وت��ق��دم م�ساهمة كبيرة ف��ي �إب�ستمولوجيا الم�ضامين وال������دالالت ،وك��م��ا �أن هناك مجموعات متطابقة في النوع والخط كامر�أة ال��ق��رط و�أ���ص��ح��اب ط ��اوالت ال ��ورق ومداخل زن��اب��ق ال��م��اء و�أ���ش��ك��ال ال��ح��روب والطغيان وم�شاهد المقد�سات وغيرها من المراحل الزرقاء والخيبات عند الفنانين جلهم ،تظل كل منها تدين بهدفها �إلى �صاحبها الفنان ال��ذي ق�صد التوظيف الخا�ص المختزل في ذات ال�شكل ،وه��ي ات�صال في مقامها قبل الأول بالأ�شياء المجردة ،فيما يظهر و�سط المنجز �أو على �أط��راف��ه وي�ستقطبه البع�ض للبدء �أو تعميق الهدف وربما حوار اللوحة �أو المج�سم ،وهو عند بي�سارو ما ي�ساوم به المذاهب من ُ�سقف و�أنهار� ،شروق االنطباعية ومن خالل التكوينات ال�صريحة والحركات الفورية التي تنا�صب الأ�شكال غير الأ�صلية كل �صور العداء ،وهو البدء من خالل خلق فو�ضى (تخلخل) الر�ؤية قبل الن�ص وحدث اللوحة الأم��ر الذي يدعو النقاد �إلى التقاط ن�صف اللوحة فقط والتغا�ضي عن الن�صف الآخر الذي يرونه �شديد العري من الم�ضامين برغم رائحته ال�صاخبة ،بينما المتلقون ما�ضون في االلتقاء مع قطع الذهب المتناثرة في ال�سماء هدية من �شم�س مونيه والماء المختلط من الأنهار بال�سحب يقذف بال�شم�س البرتقالية �إعالنا ب�شتاء باهت الألوان� ،أراده مونيه� ،أي�ض ًا ليزكي الحياة ويو�سع فنه قدر ات�ساع ت�أثيرها ،ف�أنت حين تت�صور تبع ًا المتزاج �أحداث الت�ضاد في لوحتيه ،تت�ساءل م��ا ال��ذي يجعل ال��دفء واللمعان �شريكين بينهما تتقاذفهما ال�شم�س مرة ببرتقاليتها و�أخرى بت�أثيرها الذهبي المتناثر قطع ًا كبيرة تملأ العين وال�صدر ن�شوة للتنزه فيها ،ثم في
الحياة والطبيعة وال�صدق الذي كان يرافق ال�صانع حين ر�سم ،يعد المزج الت�صوري في المجمل اكت�شاف حالة جنين �أنت تحبو خلفه، فحدود الهدف تبدو كال�سهم �صدق ًا والبقع المتلألئة تنفق ما في و�سعها لتع�شق اللون، فال �أنبوب للون وبالتالي ال نهاية له ،ولعلها من قبيل فيزياء التعدين التي ملك �آبارها ب��راك وبيكا�سو كبنائية لآم��ال عري�ضة في اكت�شاف الفن للحياة كما وعد جري�س� ،إن وعي �شاجال المبكر في �إب��راز �أزرق الآالم �إلى الأعلى مع جاراته مما ي�سكن خلفه من الأل��وان في متجاور الزجاجيات المع�شقة، من خ�لال م�سد�سات ومثمنات عالية تبدو قلقة برغم بهائها و�ضوئها �شديد اللمعان، ما يعك�س �سيمفونية الكفاح ون��درة الأم��ل، وهو عمل ن�صفه ال�صورة والعين الأخرى على الأ�سطورة وقديم الكتب (قباب الزجاج المعلق في الكاتدرائية) نموذج ًا ،وتعد مراعاة الفنان للر�ؤية الب�صرية وما يترتب على تف�صيالت اللون وال�ضوء ك�شروق ال�شم�س و�صو ًال �إلى الحزمة ال�ضوئية كاملة حالة من الم�سافات ال يجب �إال �أن تكون حالة خ��داع ب�صري، وعليها �أن تظل في خانة الكيانات المذبذبة لينك�شف التباين ،وت�سهل �إع ��ادة الفح�ص عند �إعادة التماثل الب�صري مرة �أخرى ،وقد ُعد بي�سارو ومونيه قبل غيرهما ممن قادا ذلك ،خالف ًا لعين مونيه الأولى وفي المقدمة تعطي الظواهر قيمة للم�ضمون و�سر البهجة �إذا ما كانت الخبرة الب�صرية �أكثر تجرداً و�إخال�ص ًا تك�شف عن هذا م�شروعات ديجا ومونيه و�سيزان الحيوية البالغة حد الكمال في انفعالها المتناغم الم�سيطر عليه التوازن، بين غطاء المائدة الأبي�ض رقعة الحياة ال�صامتة وا�ستقبال �أ�شعة ال�شم�س التي تعطي الفر�صة الف�سيحة للتحرر من الثلج ،برغم بقاء الأبي�ض وجعله فقط م�شع ًا بعيداً عن �أبناء مدر�سة الرفاهية ،التي تفتح �أبوابها للأ�صباغ وامتطاء الكرا�سي دون اهتزاز ب�صري بال�شكل الأخر.
دالالت وطيدة تن�ش�أ بين مكونات المج�سمات ال�ساخرة طوال قيامه بالعمل
يعد المزج الت�صوري في المجمل اكت�شاف حالة جنين نحبو خلفها
�سيمفونية الكفاح وندرة الأمل هي عمل ن�صفه ال�صورة والعين الأخرى على الأ�سطورة
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
125
�سعد اهلل ونــــــو�س
والــمـــ�ســــرح الـتـجــريــبـي فـي �ســـوريـــا
يعتبر الم�سرح ال�سوري �أحد الروافد المهمة في التنوير، فالم�سرح العربي م�سرح غني بالم�ؤلفين والمخرجين والممثلين وذائقة الجمهور العالية ،ومن هذا الم�سرح خرجت تيارات جديدة مثل م�سرح (ال�شوك) ،الذي ظهر بعد النك�سة وال��ذي ق��اده ع�لاء الدين كوك�ش المخرج ال�سيد حافظ ال�سوري ،وكان هذا الم�سرح بمثابة انفجار وتغيير نوعيين في ذائقة الم�سرح العربي ،و�إ�ضافة �إليه في النوعية وفي الكيف ،ولذلك يعتبر الم�سرح ال�سوري غني ًا بريادته في كثير من االتجاهات الم�سرحية. و�أي�����ض � ًا ظهر محمد ال��م��اغ��وط الأدي���ب وال�شاعر ال�سوري الذي قاد الم�سرح ال�سيا�سي ال�ساخر �أي�ض ًا مع دري��د لحام ،وقدما ثنائي ًا رائع ًا في م�سرحيات عدة منها (كا�سك يا وطن)، و(�شقائق النعمان) ،وظل محمد الماغوط ودريد لحام في ريادة الم�سرح الكوميدي ال�سيا�سي ال�ساخر. الم�سرح ال�سوري على الجانب الآخر في الم�سرح التجريبي ظهر فيه مخرج مهم جداً قاد حملة تنوير �شديدة وتطوير جديدة ،هو فواز ال�ساجر رفيق الدرب ل�سعد اهلل ونو�س في ت�أ�سي�س الم�سرح التجريبي ،فهو الذي قدم لنا �سعداهلل ونو�س ال��ذي لمع ا�سمه ب�شكل الفت على ال�ساحتين؛ المحلية ال�سورية ،والعربية
126
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
بم�سرحيته ال�شهيرة (حفلة �سمر م��ن �أج��ل يحمل 5حزيران) ،التي حاول فيها ونو�س �أن ّ الأنظمة الفا�سدة الم�س�ؤولية عن الهزيمة ،و�إن كانت الم�سرحية لي�ست من �أهم م�سرحياته، ولكنها كانت �صرخة �شديدة القوة و�شديدة الغ�ضب؛ فالتقطها النقاد في م�صر ،وظلت الكتابات عنها تنهال في مجلة (�أدب ونقد)، وجريدة (الأهالي) وال�صحف النا�صرية �أي�ض ًا، ولمع ا�سم �سعداهلل ون��و���س ،واح��ت��ل مكانة كبيرة ،وظلت �أعماله تتوالى بعد ذلك مثل (رحلة حنظلة) وغيرها من الم�سرحيات. وحتى �آخر رمق في حياة �سعداهلل ونو�س وهو ينازع الموت ،كان يكتب م�سرحياته العظيمة التي قدمها للم�سرحين؛ العربي وال�سوري.
لكن ،ت��رى ه��ل ك��ان هناك م��ن ه��و مهم مثل �سعداهلل ونو�س �أو يوازيه �أو يعلو عليه؟ نعم ك��ان��ت ه��ن��اك م��واه��ب ،فقد ك��ان هناك الكاتب وال�شاعر الكبير ممدوح ع��دوان الذي يعد واحداً من الأدباء ال�سوريين الأكثر غزارة في الإنتاج الأدب��ي ،حيث قام بت�أليف قرابة 26ن�ص ًا م�سرحي ًا كان من �أهمها :م�سرحية (محاكمة الرجل الذي لم يحارب) ،بينما بلغ ع��دد الم�سل�سالت التي �أل��ف م��م��دوح ع��دوان ن�صو�صها ونال العديد منها �شهرة كبيرة نحو
عبدالفتاح روا�س قلعه جي
ممدوح عدوان
فواز ال�ساجر
فرحان بلبل
�أبو الفنون
عمل وكان من �أبرزها :م�سل�سل (دائرة النار) ً 18 عام (1988م). وكذلك الكاتب الكبير فرحان بلبل الذي �أ�سهم في ت�أ�سي�س (فرقة الم�سرح العمالي) ،والكاتب وال�شاعر الكبير عبدالفتاح روا���س قلعه جي، ومن �أ�شهر �أعماله الم�سرحية (ثالث �صرخات)، و(هبوط تيمورلنك).
ول��م يكن �سعد اهلل ون��و���س رم���زاً للم�سرح ال�����س��وري ف��ق��ط ،ول��ك��ن��ه ك��رم��ز ق��د ه��ز كيانات كثيرة ،وظلم مبدعين �آخرين مثل فرحان بلبل وعبدالفتاح روا���س قلعه جي وم��م��دوح ع��دوان. لذلك فقد كان هناك �ضحايا ل�سعداهلل ونو�س، حتى محمد الماغوط لم ي�سلم من ذلك ،وظهرت م�سرحيته (المهرج ) ،و(كا�سك يا وطن) ،ولم يح�سب ح�سابه على الم�سرح ،بل ح�سبوه على ال�شاعر والتجديد في ال�شعر ،فالماغوط �شاعر عالمي النزعة والر�ؤى ولكن �إ�صرار النقاد في م�صر على �أن يكون �سعد اهلل ونو�س رمز الم�سرح ال�سوري ،هذا الإ�صرار جعل من الكتاب الأربعة �ضحايا ،ولذلك فال بد �أن تعاد كتابة التاريخ م��رة �أخ��رى و�أن ين�صف ه�ؤالء الكتاب. فقد مات ورحل عنا ممدوح ع��دوان ،ولكنه �سيظل على ال�ساحة ،ويوجد �أي�ض ًا فار�س �آخر هو فرحان بلبل ،وكذلك وعبدالفتاح روا�س قلعه جي. نحن نحتاج �إلى �إعادة النظر في �إنتاج ه�ؤالء الكتاب الكبار ،وتقديمها �إلى الم�سرح العربي؛ لأن الم�سرح ال�سوري لن يتوقف ..وكفانا ن�صنع �ضحايا مثل ما فعلنا بتقديم يو�سف �إدري�س في الق�صة الق�صيرة ،و�ضحينا بجيل كامل من المبدعين في الق�صة في م�صر.
حدث تغيير نوعي في ذائقة الم�سرح العربي تمخ�ض عن الم�سرح التجريبي
برزت �أ�سماء ت�ألقت في عالم الم�سرح ال�سوري منها ممدوح عدوان والماغوط وفرحان بلبل وقلعه جي
من �أعماله الم�سرحية العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
127
مقاالت
�سيد الوكيل
ور�أب ال�صدع بين الناقد والمبدع م�صطفى عبداهلل
ال ينكر الكاتب والناقد الم�صري �سيد الوكيل �أن من بين م�ستهدفاته في �أحدث كتبه (ال�سرد و�أ�سراره) ،ال�صادر حديث ًا في القاهرة عن (دار ميتا بوك للن�شر)� ،أن يكون محاولة لر�أب ال�صدع بين الناقد والمبدع ،بعد �أن �أ�صبح كل منهما يتحرك في م�سار مفارق للآخر ،بما يجعل الأدب في خطر؛ فالخطاب النقدي في �صيغته الأكاديمية �أو المهنية ال ي�ضمن الحفاظ على المتعة الجمالية وال�شعورية التي يراهن عليها الن�ص الأدب��ي، عندما ينقله من ف�ضاء تخيلي ف�ضفا�ض �إلى �آخر عقالني ملتزم بمرجعيات نظرية. ويقر الوكيل ب�أن النقد ال�صحافي مهني هو الآخر بال�ضرورة ،ي�ستهدف الإع�لام والإخبار، وربما الدعاية �أكثر مما ي�ستهدف الإبداع نف�سه؛ ولهذا فثمة �ضرورة لإنتاج خطاب نقدي يتجاور بينهما ،ويتجاوز الطبيعة المهنية لهما ،لت�صبح الر�ؤية النقدية بمثابة ن�ص م��وازٍ ،يتفاعل مع لا في �أن يحظى كل منهما الن�ص الأ�صلي �أم� ً وثراء. ا ات�ساع بف�ضاء داللي �أكثر ً ً ويت�ساءل �سيد الوكيل :كيف ي�صبح التناول النقدي لعمل ما ،رحلة معرفية ممتعة للقارئ غير المتخ�ص�ص؟ ويجيب ب�أن هذا كان �شاغله الأهم في رحلته مع النقد التي بد�أها مع كتابيه: (�أف�ضية ال��ذات)2006( ،م) الذي يعد قراءة في اتجاهات ال�سرد الق�ص�صي ،ثم كتابه (مقامات في ح�ضرة المحترم) ،الذي ا�ستهدف تقديم ر�ؤية جديدة لنجيب محفوظ. ومن خالل كتابه الأحدث هذا �أمكنه الجمع بين دفتيه بين كل من الناقد والمبدع ،ليتنقل بي�سر بين ف�ضاءات معرفية وجمالية مختلفة. ي�ضم الكتاب ر�ؤى نقدية لع�شرة من الكتاب
128
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
هم على الترتيب� :إبراهيم �أ�صالن� ،أمين ريان، بهاء طاهر ،خيري عبدالجواد� ،سعيد الكفراوي، �سيد البحراوي� ،صبري مو�سى ،محمد المخزنجي، محمد م�ستجاب ،ثم �صوفي عبداهلل. وي�صارح الوكيل ق��راءه ب�أنه اختار ه�ؤالء الع�شرة بالإن�صات �إل��ى حد�س داخلي فح�سب؛ فاالختيار ال ي�شير �إلى معيارية م�سبقة ،بقدر ما كان رغبة منه ال�ستك�شاف م�ساحات التنوع واالختالف بين تجربة كل منهم ،حتى لو تقاربت الم�سافات �أو تباينت على نحو ما. وت��ح��ت ع��ن��وان (�إب��راه��ي��م �أ���ص�لان بالغة ال�صمت) ،يقول الوكيل� :إن كثيراً من نقاد �أ�صالن التفتوا �إلى ح�ضور المكان على نحو متميز في �أعماله ،فلفتوا االنتباه �إليه بو�صفه دا ًال جمالي ًا على الهام�ش االجتماعي ،الذي ي�صور الأحياء ال�شعبية الموزعة على جوانب القاهرة ،وهي بطبيعتها مجتمعات حديثة تعك�س نوعية ثقافية مختلفة عن �صورة الأحياء ال�شعبية التي نجدها عند نجيب محفوظ مث ًال. وقد ر�أينا هذا الح�ضور المكاني في رواية (مالك الحزين) على نحو وا�ضح ،كما يظهر ذلك �أي�ض ًا في ق�ص�صه الق�صيرة ،ولكن في �صورة ك��ادرات ب�صرية محدودة ،وربما عابرة بحكم البناء ال�سردي ،لكنها مع ذلك ذات خ�صو�صية كبيرة. ويرى الوكيل �أن هذا الأثر يت�شكل في وعي الكاتب ملتب�س ًا بخبراته الحية ،وي�ستدعي هذا بال�ضرورة � -أن الأمكنة ال تتج ّلى في �صورتهاال�سردية لحظة الكتابة بدون �أزمنتها. �أما �أمين ريان فيعطي الوكيل الف�صل الخا�ص به في الكتاب ه��ذا العنوان (ف��ار���س المدينة)
الخطاب النقدي في �صيغته الأكاديمية �أو المهنية ال ي�ضمن الح�صول على ال�شعور الجمالي
بدايـات
م�شيراً �إلى �أننا في كتابه (�أف�ضية الذات) �سنلم�س محاولة تن�صت لما وراء ال�سرد عند �أمين ريان في مجموعته المعنونة (ق�ص�ص من النجيلي)، وقد �أ�شار الوكيل �إلى �أهمية االلتفات �إلى �أمين ريان ككاتب لم ينل حقه من الرعاية النقدية ،ال ل�شيء �إال لأنه قرر �أن ي�شق لنف�سه نهج ًا خا�ص ًا في ر�ؤية الواقع الم�صري .غير �أن الم�شهد الأدبي كان يعاني هو�س ًا باتجاه وحيد ممث ًال في الواقعية، وما واكب ذلك من ق�ضايا ملزمة للمبدع ،تغ�ض الطرف عن ف�ضاءات الت�شكيل الجمالي لم�صلحة الق�ضايا الكلية. ويذكر �سيد الوكيل �أن من الم�ؤ�سف �أال يلتفت �أحد �إلى تجربة �أمين ريان �إال بعد فوات الأوان، بل ومن الم�ضحك �أننا لم نمنحه جائزة الدولة الت�شجيعية �إال وهو على م�شارف ال�ستين من عمره! وي�سترجع الوكيل ذكرياته ،فنعلم �أن �أولى زي��ارات��ه لأمين ري��ان في بيته كانت ب�صحبة الناقد الدكتور مجدي توفيق .وفي ذلك الوقت كانا ُي��ع��دان لت�أ�سي�س (جماعة ن�صو�ص )90 الأدبية ،ولهذا كانت الزيارة بمثابة دعوة �أمين ري��ان لين�ضم �إليها ،وق��د كانت عالقة مجدي توفيق به قوية ،فهو على ثقة من موافقة (عم �أمين) ليكون رمزاً للجماعة. وي��ع��ت��رف ال��وك��ي��ل ب ��أن��ه ل��م ي��ك��ن مرحب ًا بان�ضمام الكبار لجماعتهم الأدبية ال�شابة ،لكن فيل�سوف الجماعة الدكتور رم�ضان ب�سطاوي�سي كان حري�ص ًا على تحريرها من �أي نزعة �أو �أي انحياز ل�شيء غير الأدب .ولهذا التزم الوكيل ال�صمت في �ضيافة �أمين ريان ،الذي ربما ف َّكر في �أن يحرره من �صمته فبادر بالكالم: �أنت منين يا (�سيد بيه)؟ من (�شبرا).كلمة (بيه) زادت من حر�ص الوكيل على التزام ال�صمت ،بل وتوج�س ك�أي �شاب كونها كلمة تخرج من معجم قديم .وك��ان وهو يت�أمله في منامة من قما�ش (الك�ستور) ال�شعبي يتذكر �أبيه؛ فلكليهما قامة ق�صيرة وج�سد ممتلئ ومالمح طفل ،ومع الوقت بد�أت �أع�صابه الم�شدودة تهد�أ حتى افترت �شفتاه عن ابت�سامة راحت تت�سع، و�أمين ريان يحكي له عن تاريخ �شبرا ما قبل والدة الوكيل في الخم�سينيات من القرن الفائت؛ تركيبها ال�سكاني المتعدد من الفقراء النازحين من الدلتا و�أفنديات الطبقة الو�سطى من الأقباط
والم�سلمين واليهود ،وجامع الخازندار وكني�سة �سانت ت��ري��زا ودي��ر ال��راع��ي ال�صالح .و�سينما التحرير التي تجاور �سانت ت��ري��زا ،وم�سارح ومقاهي رو���ض الفرج التي تحولت بعد ذلك �إلى �شارع عماد الدين ،والعمارات التي بناها الأرمن والطليان .وق�صر �سعيد با�شا الذي تحول �إلى مدر�سة التوفيقية ،والق�صور ال�صغيرة التي تناثرت حوله. �سكت لحظة وك�أنه يت�أمل �شيئ ًا بعيداً ثم وا���ص��ل :تعرف يا �سيد بيه� ..أ�سماء ال�شوارع والميادين في �شبرا تاريخ محتاج نذاكره.. ويعلق �سيد الوكيل :في جل�سة واحدة �شاهدت ت��اري��خ �شبرا ،وات�ضح ل��ي ه��ي��ام �أم��ي��ن ري��ان بالمدينة. ولد �أمين ريان في حي رو�ض الفرج عام ( 1925م) ،و�شاهد في طفولته بقايا التاريخ الفني لهذا الحي المطل على النيل ،والذي يوحي ا�سمه برو�ضة يذهب �إليها النا�س للترويح عن �أنف�سهم قبل �أن يتحول رواده �إلى �شارع عماد الدين. منذ قرر والي م�صر محمد علي بناء القناطر (�شبرا) ُمدخ ًال الخيرية ،حرِ�ص على �أن تكون ُ ح�ضاري ًا لدلتا م�صر ،وعلى م�سافة مقدرة من القاهرة القديمة حتى تتمكن من ت�شكيل هويتها على نحو مميز .لكن الأم��ر له بعد ا�ستراتيجي لرجل ع�سكري ر�أي �أن ع�صر الح�صون والقالع قد انتهى ،فلي�س �أف�ضل من العمران لتحمي دولتك من هجمات غير مح�سوبة من فلول المماليك وقطاع الطرق. وي�صل الوكيل �إلى محطة بهاء طاهر التي عنوانها (الملتزم بالرفق) ،وي�شير �إلى �أن �شواهد الرحلة وتجلياتها بين الت�صريح والتلميح كثيرة في تجربة بهاء طاهر ،وك�أنما كانت هاج�سه ال�شخ�صي يراودها م��رات وم��رات ،ويقر ب�أنها إيحاء بالداللة في ق�ص�صه الق�صيرة �أكثر دقة و� ً منها في روياته ،ربما لدوافع التكثيف و�شعرية اللحظة ،ف�ض ًال عن �سمة تميز البناء الق�ص�صي عن البناء الروائي؛ فب�ؤرة ال�سرد في الق�صة هي الق�صة نف�سها ،كونها خلق ًا من حد�س اللحظة، بخالف البناء الروائي الف�ضفا�ض ،الذي يحتاج �إلى ت�صميم م�سبق ،قد يمر بانحرافات قلقة ت�ؤرق الذات ال�ساردة. وهكذا تم�ضي ف�صول هذا الكتاب الممتع الذي يدعونا للتوقف معه مرات ومرات.
الكتاب ي�ضم ر�ؤية نقدية لع�شرة من الكتاب وال ي�شير �إلى معيارية م�سبقة
نقاد �إبراهيم �أ�صالن التفتوا �إلى ح�ضور المكان على نحو متميز في �أعماله
�أمين ريان لم يلتفت �إليه النقاد �إال بعد فوات الأوان برغم �أهمية �إنتاجه
�شواهد الرحلة وتجلياتها بين الت�صريح والتلميح كثيرة في تجربة بهاء طاهر
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
129
الكوميديا ال�سوداء هي �أرق��ى �أن��واع الكوميديا ،حيث تخفي ر�سائل مكتومة عبر �ضحكاتها الم�سموعة ،مثلما حدث في فيلم (ال تنظر �إلى �أعلى ـ Don›t ،)Look Upال��ذي �أراد �أن يخبرنا بر�سالة تلخ�ص كيف ُي��دار العالم.
�أ�سامة ع�سل
نجوم الفيلم دخلوا القائمة الق�صيرة لـ(الأو�سكار) والـ(غولدن غلوب)
«ال تنظر �إلى �أعلى»
كوميديا �سوداء في مواجهة الفناء
هذا فيلم ُيواجه هذه اللحظة التاريخية ��روج �أنظمة التي نعي�شها الآن ،وبينما ُت ّ وم�ؤ�س�سات للقاحات كورونا المختلفة، نتيجة فيرو�س يحا�صر الب�شر في كافة ال��دول بال ا�ستثناء ،والنا�س حائرة بين ال�شك والت�صديق بجدوى التطعيم ،وغير ُمقتنعين بم�صدر الخطر الذي يظهر كل فترة على �شكل متحور جديد ،ي�أتي المخرج �آدم 130
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
ماكاي من خالل َح ْكي خيالي ،ليحذر في عمل �سينمائي من كارثة كونية و�شيكة (اقتراب مذ ّنب من الأر�ض مع ت�أكيدات ب�أنه �سيدمر الكوكب خالل �شهور) ،وك�أنه يل َت َقط المتفرج، بذرة من واقعنا الحالي ،يعرفها ّ لغوي ًا وب�صري ًا ،ويتركه مع �أحداث مت�سارعة ومت�صارعه ،يقارن بين الواقع والخيال في تذكير �ساخر مع كل م�شهد بالرعب الذي
نعي�شه داخل بيوتنا وعبر ال�شا�شة. ت��دور ق�صة الفيلم ح��ول عا ِلمين غير م�شهورين يحذران الحكومة الأمريكية من اقتراب مذ ّنب من الأر���ض و�سي�صطدم بها خالل �أ�شهر ،وي�شرح العمل كيفية تعامل ال�سلطة مع مثل هذه الأزمات ،فما يهم هو المكا�سب ال�سيا�سية �أو ًال ،دون �إعالء قيمة ل��دور العلماء ،وبالتالي وعلى الرغم من
�أفالم
المحاوالت الحثيثة لإنقاذ العالم من الدمار، فال �صوت يعلو فوق �صوت �سلطة ر�أ�س المال وال�شركات الكبرى المتحكمة في التكنولوجيا، فطالما �أن �آلة الدعاية ال�سيا�سية تعمل ب�شكل جيد فما يحدث في الكوالي�س ال يهم. فيلم «ال تنظر �إلى �أعلى» الذي دخل نجومه القائمة الق�صيرة ل��ـ«الأو���س��ك��ار» ،وكذلك الـ «غولدن غلوب» ،واختاره معهد الفيلم الأمريكي �ضمن �أف�ضل � 10أفالم لعام( 2021م) ،ي�سلط ال�ضوء على مفارقة كبرى ،فحين يطرح العلماء المذ ّنب ،ينق�سم الب�شر بين نظريتهم حول وجود ُ م�ش ّكك� ،أو ال مبالٍ نتيجة هو�سهم بما يتابعونه على «و�سائل التوا�صل االجتماعي» ،وعند المذ ّنب وا�ضح ًا جلي ًا في �سماء الأر�ض، ظهور ُ ُيفتر�ض �أن ُيح�سم الجدل ،فكل ما يتطلبه الأمر
هو فقط «النظر �إلى الأعلى» لر�ؤية الخطر جلي ًا وو�شيك ًا ،وهذا ما يحاول العلماء قوله لل�شعوب، �إال �أن الأنظمة ال�سيا�سية والإعالمية ورجال الأع��م��ال الذين يتحكمون في التكنولوجيا، يروجون لنظرية الم�ؤامرة ،ويطالبون ال�شعوب بعدم النظر �إل��ى �أعلى ،وعلى رغم �أننا نرى الم�شهد ال�سينمائي مثيراً لال�ستغراب �أو المرة ت�شير �إلى الواقع ال�ضحك ،ف�إن الحقيقة ّ بكل تفا�صيله ،وتعك�س حقيقة جهل ال�شعوب وال مباالتها وحالة الإنكار التي تعي�شها �أمام ما تتعر�ض له في ع�صرنا الحالي. كل عنا�صر الفيلم كانت رائعة متنا�سقة ومرتبة ،ويخلو من الع�شوائية لكن فيه الكثير من العبثية المق�صودة� ،أداءات رائعة من جميع الممثلين الذي تمكن المخرج �آدم مكاي من خاللهم في �صنع بطولة جماعية ال يمكن �أن يلمع فيها نجم من دون الآخرين ،م�شاهد انفعال ليوناردو ديكابريو عالية الجودة كعادته وتر�شحه عن جدارة للأو�سكار ،جينيفر لورن�س مت�ألقة ،ميريل �ستريب متلألئة ،كيت بالن�شيت في قمة م�ستواها ،م��ارك ريالن�س �أ�ستاذ الال مباالة ،وجوانا هيل في مكان �أف�ضل مما كان عليه �سابق ًا. ف��ي �أح��د م�شاهد الفيلم الرئي�سية ،نجد دكتور (�إدوارد ميندي ديكابريو) والعالمة ال�شابة (ك��ي��ت ديبيا�سكي جنيفر لورن�س) يحاوالن جاهدين جذب انتباه رئي�سة الواليات المتحدة الأمريكية تلعب دورها (ميريل �ستريب) ،للت�أكيد على �أن هناك كارثة حقيقية �ست�سبب ف��ي ان��ق��را���ض الب�شرية وه�لاك الأر���ض ،ولكن �ستريب بنظراتها الخبيثة و�ضحكتها ال��ب��اردة المثيرة لال�ستفزاز تقول لهم ب�أنه ال بد من تقييم الموقف ودرا�سته ب��أري��ح��ي��ة ت��ام��ة ،خ��ي��ال خ�صب ل� ��ـ(�آدم م��اك��اي) ووع��ي �إب��داع��ي جعل الأمر �أ�شبه بيوميات �إن�سانٍ يراقب وير�صد بعينيه ما يحدث في العالم والتطورات التي طر�أت عليه ،وبرغم �أن فكرة نهاية العالم مكررة لكن تنفيذها كان الأكثر ذكاء ،والكتابة كانت �أكثر جر�أة وواقعية بل وجنون ًا في بع�ض الأحيان.
اختاره معهد الفيلم الأمريكي �ضمن �أف�ضل � 10أعمال لعام (2021م)
جذب االنتباه للبطولة الجماعية في عبثية مق�صودة تخلو من الع�شوائية
أ�سلوب حاكى الواقع ب� ٍ لغوي وب�صري �ساخر �أقرب �إلى طريقة الفيلم الوثائقي
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
مل�صق الفيلم
131
�أفالم
م�شهد رئي�سي يجمع �أبطال الفيلم داخل البيت الأبي�ض
و�سائل الإعالم تعاملت مع كارثة المذنب بحوار �ساخر
ميريل �ستريب قدمت دور رئي�سة �أمريكا بت�ألق وا�ضح
ليوناردو ديكابريو وجنيفر لورن�س �أهم عنا�صر نجاح العمل
ويمكن القول �أن �آدم ماكاي يكتب �أفالمه بطريقة ال ت�شبه �أح ��داً ،وال ي�ستطيع �آخ��ر �أن يكتبها ،لي�س ذل��ك انتقا�ص ًا ممن هم غيره، لكن �سلوكه لهذا الطريق ال�صعب هو مخاطرة كتابية و�إخراجية ال يمتلك �أحد غيره �شجاعة الإقدام عليها �أو التفكير فيها ،و�أ�سو ًة بما قدمه في فيلميه ال�سابقين (النائب )Viceو (العجز الكبير ـ ،)The Big Shortوعك�س خاللهما نقداً الذع ًا لمجتمع طبقة الأثرياء والأغنياء، يبدو �أن فيلم (ال تنظر �إلى �أعلى) هو الم�ستفيد الأكبر ،حيث ي�شحذ ماكاي قلمه الم�شاك�س ولغته ال�سينمائية ال�ساخرة وثوريته الحادة في تعرية الواقع والف�ساد المتف�شي في كل �شيء، ولكنه هذه المرة يبتعد عن االقتبا�س المبا�شر �صانع لتفا�صيل حدثت بالفعل ،ويطرح بحنكة ٍ لل�سينما حائز جائزة الأو�سكار ق�صة من وحي خياله ،ويعك�سها علي ما يدور حولنا جميع ًا من دون ترك �أي �شيء ال يتكلم عنه. وي��م��ك��ن تلخي�ص ب��راع��ة �آدم م��اك��اي الإخراجية ،في المونتاج والتنقل بين عديد أ�سلوب �أقرب من اللقطات التي تحاكي الواقع ب� ٍ لطريقة الفيلم الوثائقي ،ما �ساهم في �أن ت�سير ٍ ب�سال�سة كبيرة ،بالإ�ضافة �إلي بع�ض �أحداثة م�شاهد الف�صل الأخير من العمل والتي كانت ٍ طريقة تر�صد ما حدث جيدة ب�صري ًا و�أف�ضل في الختام. 132
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
وبال �شك ي�أتي عمق منظور الفيلم تجاه الحياة الحديثة من �إط��اره الأخالقي المعقد، ال ��ذي يطرحه ع��ن ط��ري��ق ق�صته الخيالية الم�ستقبلية ،ولكنه يعر�ض داخله ِع َظ َة وا�ضحة المعنى ،وهي �أن الب�شرية �سوف تعي�ش �أوقات ًا �سوداوية داخ��ل الم�ستقبل البعيد ،ل��ذا ف�إن �شعورنا بال�سيطرة على كل �شيء وطريقة ا�شتغال عالمنا الحديث ،بحاجة �إلى تغيير، وهذا المجتمع وطريقة تدويره للأمور بحاجة �إلى تفنيد وتركيز ، ،و�أن الجن�س الب�شري �إن لم يتكيف مع مع�ضالت الكون المختلفة� ،سوف يواجه الفناء. بالفعل يعد (ال تنظر �إلى �أعلى) �أكثر فيلم �أثار جد ًال وانق�سام ًا حاداً حوله هذا العام ،بل هو �أ�شبه باالنفجار و�سط عام �سينمائي كان حد ما� ،إذ لم ي�شهد �أي �شبه �ساكن وهادئ �إلى ٍّ فيلم �آخ��ر هذا ال�شكل من االهتمام العالمي، فهو من جهة جمع عدداً الفت ًا من النجوم الذي رفعوا �سقف التوقعات والحما�س ،ومن جهة �سدد �سهام ًا من ال�سخرية ال�سوداء �إلى �أخرى ّ واقع ال�شراهة االقت�صادية ،و�إلى �إيقاع حياتنا كب�شر وثقافتنا ال�سائدة حالي ًا ،التي تتفاعل مع اتجاهات (و�سائل التوا�صل االجتماعي) و�أخبار الم�شاهير� ،أكثر من الق�ضايا الحقيقية والم�صيرية التي تحدث حولنا وغارقين فيها �إلى �أخم�ص �أقدامنا.
برع �آدم ماكاي في �إخراجه ب�أبطال من �صفوة الفنانين العالميين
المخرج �آدم ماكاي
تحت دائرة الضوء قراءات �-إ�صدارات -متابعات
من �أ�سواق مدينة بور�سعيد
¯ محمد �أبوال�سعود الخياري ي�صدر كتابه «ت�أمالت في الرواية العربية» ¯ جولة في ربوع �آ�سيا ..حكايات م�شوقة ¯ مقاربات ..في الق�صة والرواية ¯ المو�سيقا العربية بين الغناء وال�شعر ¯ ف�ؤاد الظاهري« ..م�صرية الجذور وعالمية الإبداع»
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
133
قراءات قراءة في «الأدب ال�ساخر»
للدكتور نبيل راغب
ف�����ي م��ق��دم��ت��ه ل���ك���ت���اب (الأدب ال ��� ��س ��اخ ��ر) ،ي���ؤك��د الباحث نبيل راغب، �أن ه���ن���اك ف ��رق� � ًا بين الأدب ال�ساخر �إيمان حريف�شة كمفهوم �شامل� ،سواء على م�ستوى ال�شكل �أو الم�ضمون ،وبين عن�صر ال�سخرية الذي يمكن �أن يوظفه الأديب في عمل من �أعماله� ،إ�ضافة �إل��ى عنا�صر �أخ ��رى ..لكن عندما ت�صبح ال�سخرية هي العن�صر الأ�سا�سي في الم�ضمون ،والعمود الفقري ل�ل�أح��داث وال��م��واق��ف ،ف ��إن العمل ين�ضوي تحت بند الأدب ال�ساخر. ال�سخرية في الأدب هي العن�صر الذي يحتوي توليفة درامية من النقد والهجاء، والتلميح ،والتهكم ،والدعابة ،وذلك بهدف التعري�ض ب�شخ�ص ما �أو مبد�أ �أو فكرة �أو �أي �شيء ،وتعريته ب�إلقاء الأ�ضواء على الثغرات وال�سلبيات و�أوجه الق�صور فيه .ولذلك؛ ف�إن ال��ه��دف الأول���ي ل�ل��أدب ال�ساخر ه��و هدف ت�صحيحي� ،سواء على الم�ستوى الأخالقي �أو الم�ستوى الجمالي ،ويختلف في لهجته ومنهجه عن كل �أ�ساليب التعبير الأخرى التي
134
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
تهدف �إلى الرف�ض �أو ال�شجب �أو التقليل من �ش�أن المو�ضوع المطروح. وال�سخرية تعد �سالح ًا خطيراً للغاية في يد الناقد ال��ذي يقوم بتحليل الأعمال الأدبية والفنية ،فهي كفيلة ب�إغرائه بهدم، بل و�سحق الفنان ال��ذي يقع تحت رحمته حتى ير�ضي نرج�سيته في البط�ش بالآخرين. ولذلك يف�ضل �أن تظل ال�سخرية �أ�سيرة المجال الأدب���ي والفني ال��ذي ي�سعى لنقد الب�شر والظواهر االجتماعية والإن�سانية المختلفة، على �أن يحر�ص العاملون في مجال النقد الأدبي والفني على �أ�ساليب التحليل الفكري والفني للأعمال الفنية المطروحة للنقد. فالحرج والح�سا�سية غائبان في عمل الأديب ال�ساخر ال��ذي يتناول ظواهر عامة ،و�إن تج�سدت في �شخ�صيات من �إبداعه� .أما الناقد الأدب��ي والفني؛ فيتناول بالتحليل �أعمال �أديب �أو فنان بعينه ،ولذلك يتحتم عليه �أن يتم�سك بالمو�ضوعية العلمية قدر �إمكانه حتى ي�ؤدي مهمته على خير وجه ،فمن �ش�أن ال�سخرية �أن تحطم الج�سور القائمة بين النقد والفن ،وبالتالي ال ي�ستفيد كل منهما من الآخر. وفن ال�سخرية لي�س مرتبط ًا فقط بالتعبير بالكلمات ،بل يمكن �أن نجدها في الرق�ص، والمو�سيقا ،والفنون الت�شكيلية ،فمث ًال نجد (دومييه) الذي عا�ش في ع�صر الإمبراطورية الثانية في فرن�سا ،وتناول كثيراً من مالمح ع�صره بال�سخرية في ر�سوماته ،وكذلك (وليم هوجارث) الر�سام الإنجليزي المعا�صر لألك�سندر و�صامويل جون�سون. لقد برز مفهوم التهكم في فجر الم�سرح الإغريقي عندما ارتبط ب�شخ�صية نمطية في الم�سرحيات الكوميدية ،لها �أ�سلوبها المتميز والنمطي� ،سواء في الحديث �أو الحركة ،وكانت تقف بالمر�صاد ل�شخ�صية نمطية �أخ��رى تج�سد العنجهية الفارغة، والبطولة الوهمية من �أجل تحقيق �أهدافها بالت�أثير في الآخرين وخداعهم ب�صورتها المبهرة الخادعة.
د .نبيل راغب
من هذه ال�شخ�صية الكوميدية النمطية القيمة ،نبع مفهوم التهكم الذي اليزال �سائداً في مجاالت النقد الأدب��ي حتى الآن .ولعل �شخ�صية �سقراط كما �صورها �أفالطون في �أحاديثه الحوارية ،كانت نموذج ًا للمفكر والفيل�سوف ال��ذي يح�سن ا�ستخدام التهكم ك��أداة للو�صول �إلى هدفه الفكري و�إبالغه لم�ستمعيه ،فهو مثال التوا�ضع الذي يعترف دائ��م� ًا بالجهل ،وير�ضخ تمام ًا لوجهات النظر التي تختلف مع وجهة نظره ،لكن لكي يدح�ضها ويظهر ما فيها من عبث وتفاهة من خالل مهارته في توظيف القيا�س المنطقي، فهو يبد�أ بافترا�ض �صحة المنطق لوجهات نظر الآخرين ،وينطلق منه مثلهم ،لكن لكي يثبت عدم ات�ساق النتائج التي تو�صلوا �إليها مع االفترا�ضات التي بد�ؤوا منها هم �أنف�سهم. والتهكم في التراجيديا الإغريقية ،يعتبر �أح��د ج��وان��ب المفهوم الإغ��ري��ق��ي للفل�سفة الأخالقية ال�سائدة في ذل��ك الع�صر ،فقد ك��ان بمثابة الأداة التي تنزل بها الآلهة عقابها بمن يظنون في �أنف�سهم القدرة على تحديها� ،أي �أنه تطبيق للقاعدة الأخالقية الذهبية التي تحتم تجنب التطرف في كل �صوره وفي كل اتجاه ،لأن الكون بقوانينه الأزلية والأبدية قائم على توازن محكم في منطقة و�سطى بين الإفراط والتفريط ،وهي المنطقة التي يتحد فيها الجوهر بالمظهر، الفعل بالقول ،القدرة بالنية ،و�أي انحراف في �شخ�صية الإن�سان ي�ؤدي �إلى خرق هذه القوانين ال بد �أن يقابل بالح�سم دون هوادة، حتى لو كان الثمن حياة الإن�سان نف�سه، وذلك لكي تعود �إلى الكون وحدته.
�إ�صدارات
العالم بعيون طفل في ق�صة «النافذة» تمتلك الكاتبة عفاف طُ ّبالة حين تكتب للطفل روح ال��ط��ف��ول��ة ،وعقلها، و�أح��ل�ام����ه����ا ،كما تمتلك ق��درة هائلة م�صطفى غنايم ع��ل��ى ال��ت��ع��ب��ي��ر عن ه��ذه ال ��روح ،وه��ذا العقل ،وتلك الأح�لام، بلغة ب�سيطة تالئم المعجم الداللي للطفل، وبت�صورات و�أو�صاف وخياالت تتماهى مع عالم الطفل ،وك�أنها تتقم�ص ل�سان طفل ،يعبر عن حياته المفعمة بالت�سا�ؤالت والأمنيات كما ر�صدتها عينه. وق��د تجلت تلك الظواهر الأ�سلوبية، وال��ر�ؤى المو�ضوعية فى ق�صتها الجديدة (النافذة) ،التى �صدرت حديث ًا (2021م) عن دار نه�ضة م�صر ،وقام بر�سومها الفنان محمد ط��ه؛ وم��ن ث��م فقد ب��دا ذل��ك العمل، وك�أنه كتب بقلم طفل ،و�صيغ بعيني طفل، نظر �إلى العالم من زاويته المتفردة /نافذته الخا�صة. وقد ج�سدت طبالة عالم الطفولة الخا�ص بطريقة فنية ،وحبكة درامية ،وعبرت عن ر�ؤيتها لعالم الطفولة بعين الطفل ،الذي ر�صد وت�أمل وك�شف العالم المحيط ،من خالل
�إطاللة من (نافذة) �سيارة والده ،التي تمثل في الحقيقة نافذة الطفل على العالم ب�شكل عام ..وقد �أدركت الم�ؤلفة ذلك بوعي �شديد تمخ�ض في �أمرين مهمين هما :الت�سا�ؤل.. والأمنيات؛ �إذ تحكي هذه الق�صة عن الطفل (يو�سف) ،الذي ا�ستقل ال�سيارة مع والديه، التي توقفت عند �إ�شارة م��رور؛ ف�شاهد فى البداية �أخوين يجل�سان في �سيارة مجاورة ال ي�شعران بالملل مثله ،لأنهما يلعبان مع ًا في مرح؛ فكان ت�سا�ؤله الأول ،الذي جاء بطريقة المونولوج( :لماذا لي�س لدي �إخوة) ،لينتقل فج�أة �إلى الحالة الموازية /الأمنية�( :أريد �أن يكون لي �أخ �ألعب معه). وي�ستمر الت�ضافر بين ال��ت�����س��ا�ؤالت والأمنيات على مدار العمل حتى نهايته؛ فهذا يو�سف يلمح رج ًال عجوزاً وزوجته في جد ْيه؛ فيجري الت�سا�ؤل عربة �أخرى؛ فيتذكر ّ الثاني ال��ذي يحمل ف��ي طياته الأمنية: (لماذا ال نذهب لجدي وجدتي؟) ،ويعقبه يو�سف ب�أمنية �صريحة ،يتكرر معها الفعل الم�ضارع �أريد في قوله�( :أريد �أن �أرى جدي وجدتي). وتم�ضي بنا الأح��داث حتى ت�صل �إلى ذروتها؛ حين لمح يو�سف هذه المرة طف ًال يتحرك بخفة بين العربات ،تكثف الم�ؤلفة و�صفه وت�صوير هيئته ،التي ت�شي بحالته االجتماعية، وعي�شته الفقيرة؛ فهو طفل م��ت�����س��خ ال��م�لاب�����س ،ح��اف��ي ال��ق��دم��ي��ن ،يبيع المناديل، فيلوح ال��ت�����س��ا�ؤل ف��ي نف�س يو�سف من جديد( :ماذا يفعل هذا الولد؟) ،و�سرعان ما تبرز الأمنية من جديد�( :أري��د �أن �أبيع علبة مناديل) ،ليجيب الأب بالرف�ض واال�ستنكار: (�أن���ت ت��ذه��ب �إل ��ى المدر�سة لتتعلم وت�صبح مهند�س ًا وطبيب ًا) ،ون��دخ��ل ف��ي هذه اللقطة المحورية في دوامة
عفاف طبالة
الت�سا�ؤالت والأمنيات( :لماذا هو ال يذهب للمدر�سة؟)؛ و�إزاء �إجابة والده التي لم تقنعه يتبدى حلمه البريء بما يعك�س نزوع الطفل الغريزى للخير والعدل والرحمة ،لت�أتي الأمنية الحالمة�( :أريد �أن يذهب معي �إلى المدر�سة) ،ومع م�ضي الأحداث وت�صاعدها ت�صور لنا الم�ؤلفة م�شهداً م�ؤثراً وجمي ًال يفي�ض بالحب والت�ضامن والتعاطف والتعاون؛ حين �أخذ الطفل الفقير ينقر على نافذة ال�سيارة عار�ض ًا على يو�سف علبة مناديل ،فتحدث حالة تفاعلية حميمية بينهما؛ �إذ ا�ستجاب يو�سف لذلك بو�ضع كفه على زج��اج النافذة؛ فيتطابق كفه بكفه وك�أنهما يت�صافحان ،الأمر الذي فجر م�شاعر الود بين الطفلين والتفاعل ال�شعوري بينهما؛ فيتبادالن الهدايا فيطلب الطفل من يو�سف �أن يفتح النافذة ليعطيه علبة منديل، فيرد عليه بمنحه لعبته الأثيرة ،التي فرح بها الطفل الفقير كثيراً ،و�أخذ ي�ضمها �إلى �صدره ب�سعادة. وتختتم طبالة الق�صة بنهاية فنية، تختلط فيها الحقيقة بالخيال ،وتدفع على الت�أويل ،وتبعث الف�ضول ،وتدفع على الت�شويق؛ �إذ جعلت الم�ؤلفة يو�سف يغم�ض عينيه ليرى الطفل جال�س ًا ب��ج��واره على المقعد بالمدر�سة ،ومن ثم نجد الن�ص يحمل �أن�ساق ًا م�ضمرة؛ فهل كانت تلك النهاية �أمنية ر�سمتها مخيلته� ،أم ك��ان الأب قد ا�ستجاب لرغبة ابنه ،وقام بم�ساعدة هذا الطفل الفقير ليتمكن بالفعل من الذهاب للمدر�سة جنب ًا �إلى جنب مع ابنه ،فيكون يو�سف قد نجح في النهاية بتحقيق حلمه في �إنقاذه من براثن الفقر ،ويفتح له باب ًا من الأمل في التعليم والتعلم� ،سعي ًا في �أن ينعم ذلك الطفل في م�ستقبل �سعيد.
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
135
قراءات اهتم بظواهر الفن الروائي
محمد �أبوال�سعود الخياري ..ي�صدر كتابه الجديد «ت�أمالت في الرواية العربية» �أ�� ��ص� ��در ال��ن��اق��د ال����دك����ت����ور م��ح��م��د �أبوال�سعود الخياري، كتاب ًا جديداً عن دار غراب الم�صرية ،تحت ع��ن��وان (ك��ر���س��ي في هالة علي ال��ب��ل��ك��ون��ة ..ت ��أم�لات في الرواية العربية). جاء الكتاب في (� )180صفحة من القطع المتو�سط ،وقد ق�سمه الكاتب �إلى ق�سمين :الأول للدرا�سات حول الظواهر الروائية ،والثاني توقف الخياري عند التجارب الروائية لعدد من الروائيين� ،أو عند رواي��ات بعينها من �إنتاجهم المعا�صر. يقول الخياري في المقدمة( :ال يجتمع النقد الجاد ال�شريف مع حاجة الناقد لخدمات المبدعين �أو اهتمام ال�صحافيين �أو ر�ضا وانتباه النا�شرين .ال تغريه جائزة كبيرة ،وال ي�ضعفه ن�شر مقالة بمجلة �شهيرة ،وال يهتز لديه الوقار �إذا حل �ضيف ًا في حوار .وما �إن تخل�ص الناقد من ذلك كله مكتفي ًا ب�أ�صدقاء ث�لاث��ة� :ضميره وعقله وقلمه� ،إال و�صار ناقداً حقيقي ًا ،يكتب ما ي�شاء دون ت��ردد، ودون اهتزاز ،يطبق المعايير بدقة وحكمة، ال يخ�شى �إال اهلل ،وال يعتبر نف�سه خادم ًا �إال
136
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
ويجل�س لقارئه ،يطرد المجاملة من عالمه ُ مكانها العدالة ،يف�ضل المبا�شرة والو�ضوح على المجاز ،ي�صف الظواهر ويذكر الأ�سماء.).. الكتاب حري�ص ًا على ا�ستخدام وقد �أظهر َ لغة وا�ضحة دون تقعر �أكاديمي �أو غمو�ض ا�صطالحي ،وهو ما �أكده الكاتب مبكراً جداً باختياره عنوان ًا ب�سيط ًا للكتاب حاول من خالله اجتذاب القارئ لن�ص نقدي يطمح �إلى اكت�ساب م�ساحة جديدة في وجدان القارئ العادي. وفي الق�سم الأول الخا�ص بالدرا�سات، يعر�ض الكاتب للعالقة بين ال�سرد الروائي وال��ظ��واه��ر التي �أث ��رت ف��ي م�سيرة ال��رواي��ة العربية. كما �ضم الكتاب درا���س��ات �أخ ��رى عن ال��رواي��ة العربية ،منها :تنوع العمارة من المحيط �إل��ى الخليج ،يقول الكتاب (تبلى ال�صور ،وتتبدل الأماكن ،وت�سرق �أو تطم�س ال��ع��م��ارة ...وتبقى �أو���ص��اف ال��رواي��ة �سج ًال �صادق ًا �أمين ًا ،يمنح نف�سه لكل باحث ومحب يمتع ناظريه عبر ا�ستيعابه الأو���ص��اف ال�سردية ،وينع�ش مخيلته بال�سفر عبر الزمان والمكان �سائح ًا و�سط ن��م��اذج ف��ري��دة من المباني العربية فتحت لها ال��رواي��ة بابها الوا�سع لتقيم فيها �إقامة المطمئن). وقد ظهر من خالل النماذج التطبيقية لروايات مثل (خان الخليلي) لنجيب محفوظ، تظهر بها العمارة الفاطمية بم�صر ،وتظهر العمارة الخليجية في رواية (و�سمية تخرج من البحر) ،كما ظهرت العمارة المغربية في رواية (القو�س والفرا�شة) لمحمد الأ�شعري. ث��م ت��ن��اول الخياري درا���س��ة ع��ن الطب وال ��رواي ��ة ،ت�ستعر�ض ت��اري��خ الأط��ب��اء مع الرواية منذ محمد كامل ح�سين� ،أ�ستاذ جراحة العظام و�أول رئي�س لجامعة عين �شم�س و�صاحب رواي��ة (قرية ظالمة) ،وم�صطفى محمود ،ويو�سف �إدري�����س ،وانتهاء ب�أحمد �سمير �سعد ،و���س��راج منير ،م���روراً بمحمد المن�سي قنديل ،و�أم��ي��ر ت��اج ال�سر ،و�أحمد خالد ت��وف��ي��ق ..م�سلط ًا ال�ضوء على تنوع
د .محمد �أبوال�سعود الخياري
�إبداعهم الروائي عبر تاريخ الرواية العربية. �أم��ا الروائيون؛ فقد حفل الكتاب بعدد متنوع من الروائيين ال��ع��رب ،مثل :نجيب محفوظ ،وبهاء طاهر ،و�إبراهيم عبدالمجيد، وعالء الأ�سواني ،ومحمد الأ�شعري ،و�سهير الم�صادفة ،و�سعود ال�سنعو�سي ،و�أح��م��د �سعداوي ،وغيرهم.. و�أولت الدرا�سة اهتمام ًا بروايات جائزة البوكر مثل( :واحة الغروب) ،و(�ساق البامبو)، و(فرانك�شتاين في بغداد). واه��ت��م الكتاب كذلك ببع�ض الظواهر المتعلقة بالفن الروائي ،مثل ظاهرة انت�شار الرواية التاريخية بين الكتاب العرب ،م�ؤكداً التفريق بين الت�ضحية بالفن لم�صلحة ال��ت��اري��خ ،وب��ي��ن تحقيق الخلطة البارعة ال�ستعرا�ض التاريخ عبر الفن. و�أ�شار الخياري في كتابه �إل��ى ظاهرة (النداهة) التغول الروائي ،حين �أطلق لقب ّ على الفن ال��روائ��ي� ،ضارب ًا المثل بالكثير من ال�شعراء والأكاديميين ،الذين اجتذبتهم ال���رواي���ة ،وم ��ن �أج��ل��ه��ا ت��رك��وا مجاالتهم الأ�صلية ،فمن ال�شعراء :علي عطا ،و�سهير الم�صادفة ،و�أحمد ف�ضل �شبلول ،وغيرهم ومن الأكاديميين ،مثل :د.عبدالرحيم الكردي. ومن ال�سيا�سيين :د�.أحمد جمال الدين مو�سى.. كما كانت ظاهرة طموح (فخ العالمية) حين يطمح بع�ض الروائيين �إلى العالمية، وينبهروا بذلك ،خا�صة بعد تحقيقهم النجاح على م�ستوى الترجمة. ي��ذك��ر �أن ال��دك��ت��ور محمد �أب ��و ال�سعود ال��خ��ي��اري ،ن��اق��د وك��ات��ب م�����ص��ري ،ح�صل على الماج�ستير في بنية الق�صة الق�صيرة، والدكتوراه في الرواية.
مقاالت مرايا
علم ال�صيدلة الإ�سالمي محمد ف�ؤاد علي وه��ب اهلل الإن�سان ال�صحة والعافية لتمكينه م��ن �أداء �أع��م��ال��ه ،والبحث عن مقررات حياته اليومية واال�ستفادة من ثروات الكون الذي يعي�ش فيه ،وعلمه �أي�ض ًا كيفية مواجهة المر�ض وعالجه منذ �أقدم الع�صور التاريخية؛ ابتداء من الح�ضارات ال��ف��رع��ون��ي��ة ،وال��ب��اب��ل��ي��ة ،والآ���ش��وري��ة، وال��ك��ل��دان��ي��ة ،وال��ي��ون��ان��ي��ة ،والبطالمة، وال��روم��ان��ي��ة ،وال�����ص��ي��ن��ي��ة ،وال��ه��ن��دي��ة، والإ�سالمية والحديثة والمعا�صرة ،ويت�ضح مما �سبق �أن الإن�سان عرف علم الطب كما عرف علم ال�صيدلة ،بعد �أن الحظ هدوء الكالب الهائجة (الم�سعورة) ،بعد تناولها بع�ض الأع�����ش��اب ،وت��ن��اول القطط لنبات النعناع لعالج �آالم البطن. يق�صد بعلم ال�صيدلة درا�سة تفاعل المركبات الدوائية مع الأج�سام الحية لإنتاج الت�أثير العالجي عن طريق االتحاد بالم�ستقبالت البروتينية� ،أو تثبيط �إنزيمات معينة �ضمن الج�سم ،ويهتم علم ال�صيدلة �أي�ضا ب��درا���س��ة �آث ��ار ال���دواء على الب�شر والحيوانات والنباتات من حيث (تركيب ال��م��رك��ب ال ��دوائ ��ي) ،خ��وا���ص��ه ،ت�أثيراته الإيجابية وال�سلبية� ،سميته ،الأمرا�ض
علم ال�صيدلة يدر�س تفاعل المركبات الدوائية لإنتاج الت�أثير العالجي و�آثاره على الإن�سان والحيوان والنبات
ال��ت��ي يمكن �أن يعالجها ،وم��ن �أن ��واع ال�صيدليات نذكر (ال�صيدلة المجتمعية، وال�صيدلة الكيميائية ،وال�صيدلة البيطرية، وال�����ص��ي��دل��ة ال��م��ع��ل��وم��ات��ي��ة ،وال�صيدلة النووية ،وال�صيدلة الع�سكرية) ،ولكل نوع خ�صائ�صه ومجاالته. وتنق�سم الأدوي����ة الكيميائية �إل��ى �أن���واع متعددة منها الأدوي� ��ة الخا�صة بعالج �أمرا�ض الجهاز اله�ضمي ،الأدوية الخا�صة بعالج �أمرا�ض الجهاز التنف�سي، الأدوي��ة الخا�صة بعالج �أمرا�ض الحهاز البولي الإخراجي ،الأدوية الخا�صة بعالج الجهاز الدوري ،الأدوية الخا�صة ب�أمرا�ض الح�سا�سية وال��ت��رك��ي��ز وف��ق��دان ال�شهية والفيرو�سات والميكروبات والجراثيم، الأدوي��ة الخا�صة بعالج الجهاز الع�صبي (الأع�صاب والع�ضالت) ،وتعتبر الواليات المتحدة الأمريكية و�إنجلترا والنم�سا و�ألمانيا واليونان من �أكبر الدول المنتجة للأدوية ،ويعرف المكان الذي تباع فيه الأدوية والم�ستح�ضرات الطبية بال�صيدلية، ودور ال�صيدليات في �أمريكا وكندا على �سبيل المثال ،ال يقف عند بيع الأدوي��ة، ب��ل تبيع العديد م��ن ال�سلع والمرطبات والمالب�س والأدوات المدر�سية. وت�شير الوثائق والكتب التاريخية التي و�صلتنا من الح�ضارة الإ�سالمية �إلى نبوغ الم�سلمين فى علم ال�صيدلة ،وخير �شاهد على ما نقول الكتب التي �ألفها ال��رازي (منافع الأغذية ،ال�صيدلية الطبية ،الحاوي في ال��ت��داوي) ،كما �أل��ف علي بن العبا�س كتابه المو�سوم (كامل ال�صناعة الطبية)،
الرازي والزهراوي والإدري�سي وابن النفي�س من �أ�شهر العلماء في ال�صيدلة كما �ألف الزهراوي كتابه القيم (الت�صريف لمن عجزعن الت�أليف) ،ولكوهين العطار ك��ت��اب رائ���ع ف��ي ع��ل��م ال�����ص��ي��دل��ة يحمل عنوان (منهاج الدكان ود�ستور الأعيان)، والب��ن زهر الأندل�سي كتاب قيم في علم ال�صيدلة يحمل ا�سم (الجامع في الأ�شربة وال��م��ع��ج��ون��ات) ،والب���ن ع��ب��داهلل محمد الإدري�����س��ي ك��ت��اب قيم با�سم (الجامع ل�صفات الأدوي��ة) ،والبن �سينا كتاب قيم في الأدوي��ة وعلم ال�صيدلة يحمل عنوان (القانون) اخت�صره و�شرحه ابن النفي�س مكت�شف ال� ��دورة ال��دم��وي��ة قبل هارفي بمئات ال�سنين ،ويعتبر ابن البيطار رائد علم ال�صيدلة في الح�ضارة الإ�سالمية، ومن �أ�شهر م�ؤلفاته كتاب (جامع الأغذية)، وال��ك��ت��اب ع��ب��ارة ع��ن ن��ت��ائ��ج �أب��ح��اث��ه ال�صيدالنية على مجموعة من النباتات والأع�شاب الطبيعية التي جلبها من بلدان كثيرة لي�ستخرج منها بع�ض المركبات ال��دوائ��ي��ة ،وق ��د �صنف ه ��ذه ال��ن��ب��ات��ات ب�أ�سلوب علمي ينم عن مهارة وحرفية تجريبية ،ولم يبق لنا �سوى الإ�شارة �إلى اتخاذ علم ال�صيدلة الثعبان والدورق رمزاً ال�سميات والدورق له (الثعبان يدل على ّ يدل على �إناء التجارب المعملية).
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
137
قراءات جولة في ربوع �آ�سيا..
حكايات م�شوقة
ال��م���ؤل��ف محمد رح�����ال�����ة ث�����اب�����ت ّ م�صري يع�شق ال�سفر والرحالت ،اعتاد �أن ي��ق��وم برحلة كبيرة ف��ي �صيف ك��ل �سنة، ناديا عمر يدون فيها م�شاهداته في البالد التي ي�سافر �إليها ،و�أكثر كتبه كانت في �أدب الرحالت، مثل :جولة في ربوع �أ�ستراليا ،رحالتي في م�شارق الأر�ض ومغاربها وغيرهما. ق�سم الم�ؤلف كتابه �إلى خم�سة ف�صول، ّ وفي كل ف�صل تناول بلداً مختلف ًا من بالد �آ�سيا وهي :الهند ،الماليو �سنغافورة ،اليابان، كوريا ،وال�صين .و�أ�شار في مقدمة كتابه �إلى �أنه �أحب �أن ير�سم من خالل جوالته �صوراً جميلة في رب��وع ال�شرق ،ولينقل من خالل عينه الم�صرية ال�شرقية عنا�صر نهو�ض هذه الأمم ومراحل تطورها عبر طقو�سها� ،آثارها وطرائفها وفنونها المعمارية ،ليك�شف عن مالمح الجمال للطبيعة و�أوج��ه االقت�صاد والثقافة والعمران فيها. وك��ان��ت البداية م��ن الهند ،فقد لخ�ص تاريخها في ثالثة ع�صور رئي�سية هي :ع�صر
138
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
الهندو�س بين ( 2000ق.م) ،و (1000م)، والع�صر الإ���س�لام��ي بين �سنة (1000م) و(1757م) ،وع�صر �سيادة الأوروبيين ويبد�أ من �سنة(1757م). وفي رحلته �إلى كاندي العا�صمة القديمة لجزيرة �سرنديب ،و�صف الم�ؤلف المناظر ال�ساحرة التي تملك اللب على حد قوله ،و�سط الأدغال الملتفة والغابات الكثيفة التي تمرح فيها مجموعات من الفيلة و�أ���س��راب الطير الأخ�ضر ت ّزين الغابة ،وكذلك مح�صول ال�شاي يغطي مدرجات الجبال� ،إلى جانب الذي كان ّ �شجيرات القطن ال�صغيرة. ويعتبر الأرز من �أ�شهر المزروعات �إذ �سويت له جوانب الوهاد في م�ساطب �أفقية ّ يعلو بع�ضها بع�ض ًا ،ويكاد الماء يغرقه، وكثير من �أنواع الفاكهة مثل :المانجو�ستين، ال��دوري��ان ،البيوا وغيرها� .أم��ا الموز فغذاء رئي�سي للعامة يعر�ض في كل مكان و�أ�سعاره رخي�صة جداً. وم��ن حديقة النباتات التي �ضمت كل ف�صائل النبات ب�سيالن ،كتب ع��ن زراع��ة الكينا والكاكاو والمطاط ،والتوابل مثل :جوز الطيب ،والفلفل ،والقرفة ،والوانال ،والزنجبيل. �أما بالن�سبة للمالب�س فقد كتب :هالني و�أن ��ا ف��ي ال�سفينة تعدد ال�سحن والأل���وان والأزياء ،وقد عددت من الأزياء نحو الثالثين، فالبع�ض يلف ن�صفه الأ�سفل بمالءة ملونة، والبع�ض يرتدي �سراويل. وف�����ي دل���ه���ي زار ال���م����ؤل���ف ق��ل��ع��ة (�شاهجاهاناباد) ،وق��ال �إنها كانت �آي��ات من الأبهة حتى �أ�صبحت م�ضرب الأمثال، فمن م�ساجد �إلى مقا�صير �إلى �إيوانات �إلى ق�صور كلها من الرخام المر�صع باليواقيت وال��ج��واه��ر ت��ف��ر���ش ب��ال��ح��رائ��ر والطناف�س الثمينة ،ومنها (رانج محل) �أي ق�صر الزجاج ال��ب� ّ�راق ،وك��ان خا�ص ًا بال�سلطانة ،والت��زال في �سقفه بقية من الف�ضة المر�صعة بزهور من ذه��ب ،ونافورة تغ�ص بال�سمك الملون. وكان يطوق جيد كل �سمكة عقد من ذهب به ياقوتة ول�ؤل�ؤتان ،وتحوطه حدائق تزينها مجاري الرخام ،وكذلك م�سجد الل�ؤل�ؤة وكان
خا�ص ًا ب�شاه جهان الذي �أ�سرف في زخرفته وتن�سيقه ،حتى �أ�ضحى �أجمل م�ساجد الهند و�أ�صغرها على حد تعبيره. ثم انتقل �إلى اليابان في رحلته وتحدث عن مدينة كوبي المزينة منحدرات مبانيها في رونق جذاب ،وقال �إنها خالية من ال�ضجة وال�ضو�ضاء ،وال ت�سمع �إال قعقعة �أحذيتهم ن�ساء ورج��ا ًال ،وتابع الخ�شبية (قباقيبهم)، ً قائ ًال� :إنه من العجيب �أنك تراهم ي�سيرون بها في �سرعة عجيبة و�إن اعوجت م�شيتهم، والجميع يلب�سون الأردي ��ة الف�ضفا�ضة الـ (كيمونو)� ،أما الوجوه فم�صفرة اللون ،منحرفة العيون ،ويغلب �أن ي�ستخدمن الأدهنة البي�ضاء ال الحمراء ،وجمال الوجوه نادر ،و�إن كانت الر�شاقة والجاذبية بالغة حداً كبيراً يزيدها ح�سن ًا ذاك الهندام العجيب في �ألوانه الرقطاء الزاهية ،وفي هذا ال�صدد � ّأكد �أنه �أجمل ما يرى في الم�ساء ،حين ت�ضاء م�صابيح الأ�سواق في بوابات من حديد تر�ص عليها الثريات الكبيرة في تلأل�ؤ �شديد ،و�أ���ض��واء المحال التجارية بمفرو�شاتها اليابانية الجذابة. وهناك دار وطنية لل�سينما يجل�س المتفرجون فيها على الح�صر والح�شيات على نظام البيوت اليابانية. وفي الف�صل الأخير تحدث الم�ؤلف عن ال�صين ،وروى ع��ن بكين التي تتو�سطها مدينة �أخرى ي�سمونها المدينة الإمبراطورية، لها �سورها الخا�ص ،وكانت مقر الأ�سرة والحا�شية وكبار رجال الدولة .وفي داخلها المدينة المحرمة ،مركز الدنيا في زعمهم، يتو�سطها عر�ش التنين ذائ��ع ال�صيت الذي جل�س عليه ملوك المغول وال�صين والمان�شو على التعاقب ،وحولها �سور م��ن الخزف الأ�صفر البراق .و�إلى جانبها معار�ض فيها نفائ�س فنية قديمة مثل التماثيل الم�صنوعة من �أحجار كريمة ،و�ساعات مر�صعة ،وخرط مطعم من العاج والخ�شب ،وحروف الطباعة القديمة ،و�آالت مو�سيقية من بينها (بيان) ك�أنه (القانون) من �سبعة �أوتار ،يرجع عهده �إلى( 1573م) ،ثم مجموعة من �أ�سلحة ودروع و�سروج ،ومفرو�شات قيمة.
�إ�صدارات
مقاربات ..في الق�صة والرواية ي�����ق�����دم ك���ت���اب (م�����ن�����ازل ال�������س���رد: مقاربات ف��ي الق�صة وال���رواي���ة) ،ال�����ص��ادر ح���دي���ث��� ًا ()2021 ع ��ن دائ�����رة ال��ث��ق��اف��ة ب��ال�����ش��ارق��ة ،للدكتور �أبرار الأغا �إب ��راه ��ي ��م �أب��وط��ال��ب �أ�ستاذ الأدب والنقد الحديث بجامعة �صنعاء، قراءات �سردية في الق�صة الق�صيرة التي كتبتها المر�أة اليمنية ،والتي كتبها عبداهلل الإرياني، و�سلط ال�ضوء على الم�شهد ال��روائ��ي اليمني ك��أع��م��ال محمد عبدالولي ،ومحمد الغربي عمران ،و�سامي ال�شاطبي. و�أ�شار الناقد �إلى �أن بع�ض القراءات التي قدمها قد تظهر وفق ًا لمنهج معين من مناهج النقد الحديثة ،وحاولت بع�ض القراءات الأخرى �أن تخرج بمنهجها الخا�ص بما توحيه طبيعة الن�ص ،دون زجها في منهج واحد معد م�سبق ًا. جاء الق�سم الأول بعنوان( :مقاربات في الق�صة الق�صيرة) ،وق��دم فيه الناقد ق��راءات لمجموعة (�سماء ال�صباحي) (�أن��ات ق�صيرة جداً) ،ولمجموعة (ابت�سام القا�سمي) (�شهرزاد تتجر�أ �أخيراً وتعاود الحكي) ،ولمجموعة (الرا الظرا�سي) (زرقاء عدن) ،وقراءة رابعة لـ(عبداهلل الإرياني) (حديث عن حديث كل يوم). ورك��زت ال�صباحي في مجموعتها على ثنائية ال�ضميرين( :ه��ي ،و�أن� ��ت) ،وثنائية
الجدليتين( :الحياة والموت) ،متقن ًة ال�صنعة تكون بحرفية �سردية ،وترابطية عالية في ُّ الن�ص ،وي��رى الناقد �أنها تجربة ق�ص�صية حداثية تعتمد على �أحدث �أ�ساليب ال�سرد ،وتخلو من الح�شو ،وال تختلط بعالم ال�شعر. و�أو�ضح �أن القا�سمي ا�ستخدمت �أكثر من تقنية �سردية ،فعملت على ا�ستخدام تنويع وانتهاء ال�سرد ب��دءاً من حكائيته ورمزيته، ً ب�شعريته؛ ما يظهر تمكنها من �أدوات ال�سرد، كذلك فقد نوعت تقنيات �آليات العر�ض ،وعمدت �إلى الإيجاز على م�ستوى الحدث وال�شخ�صيات واللغة ،وكانت مو�ضوعاتها التقاطات لليومي في حياة المر�أة في ف�ضاءات عدة. وناق�ش الناقد المو�ضوعات التي طرحتها مجموعة (زرقاء عدن) ،ويرى �أنها( :تبالغ في و�صف �صورة المر�أة ال�ضعيفة ،ولعل هذا هو الجانب ال�ضعيف في بناء المجموعة في تقديم �صورة ربما تكون مبالغ ًا فيها ،فالرجل قوي ظالم ،في مقابل المر�أة ال�ضعيفة الم�ستلبة)، م�شيراً �إلى �أن ق�ضاياها التي تعالجها مكررة كق�ضايا الث�أر والحرب والقبيلة؛ �إال �أن طريقة التناول وزاوي��ة ر�ؤي��ة الكاتبة ،تح�سب لل�سرد والن�ص. وبين �أن الإري��ان��ي يعتمد في بناء معظم ّ ق�ص�صه على التداعي اللفظي ،كهيمنة مفردات تتكرر في بدايات الجمل؛ ما �أوقعه في الح�شو والزيادة غير الم�ستحبة ،الفت ًا �إلى �أن الكاتب ا�ستعان بال�شعر �سواء الف�صيح �أو ال�شعبي ،وي�ؤخذ عليه كثرة الأخطاء اللغوية والإمالئية والنحوية. وي�ضم الق�سم ال��ث��ان��ي( :م��ق��ارب��ات في الرواية) ،ثالثة موا�ضيع ،هي( :الرواية اليمنية: التحقيب الزمني والمو�ضاعاتي والتوظيف الحكائي في �أعمال الروائي محمد عبدالولي)، و(اج��ت��راح الممنوع وت�أ�صيل ثقافة الوحدة: مقاربة في رواي��ة «م�صحف �أح��م��ر» لمحمد الغربي عمران) ،و(م�شروع البحث عن الذات وم�شروعية ال�س�ؤال :مقاربة في رواية «م�شروع ابت�سامة» ل�سامي ال�شاطبي). ويمتد عمر الرواية اليمنية �إلى �أكثر من ثمانين عام ًا ،ف�صدرت �أول رواي��ة (�سعيد)، للمثقف اليمني محمد ع��ل��ي ل��ق��م��ان ،ع��ام (1939م) ،وتتبع الناقد م��راح��ل الخطاب الروائي اليمني ،وهي :مرحلة الريادة وتتجلى في رواية (�سعيد) ،ثم رواية (يوميات مبر�شت). �أما المرحلة الثانية ،فهي مرحلة الت�أ�سي�س،
د� .إبراهيم �أبو طالب
وبد�أت زمني ًا مع بداية (1960م) وتمتد حتى بداية ال�سبعينيات ،كرواية (م�أ�ساة واق الواق) لمحمد الزبيري ،تبعتها رواي��ات ع��دة ،وكان لتجربة محمد عبدالولي� ،أكثر الروايات قدرة وتمكن ًا في هذه المرحلة. تالها مرحلة التجني�س ،وفيها ثبتت الرواية كجن�س �أدب��ي قائم بذاته ،ومن الأ�سماء التي طورت هذا الفن :محمد عبدالولي ،وعبدالوهاب ال�ضوراني ،وعبدالكريم المرت�ضى ،فيما تعد مرحلة الت�سعينيات مرحلة التجديد ،وكان ذلك على �صعيد الم�ستوى وال�شكل والم�ضمون، وق��د عالجت ال��رواي��ة اليمنية م�ضامين عدة، منها :الإ�صالحي ،فال�سيا�سي ،فاالجتماعي، فالتاريخي ،ف ��أدب الرحالت ،فرواية ال�سيرة الذاتية ،فالعاطفي. ور�صد الناقد �إ�شكاليات الرواية اليمنية، منها� :إ�شكالية �س�ؤال الحداثة ،وطرائق التجديد المحدودة والم�أمولة ،و�إ�شكالية التداخل بين ال�سيرة الذاتية والعمل المو�ضوعي ،وثنائية الجدل بين طرائق العر�ض في �أ�شكالها التقليدية وا���س��ت��خ��دام التقنيات الحديثة ب�ضمائرها ال�سردية ومزجها. وتحدث عن تجربة محمد عبدالولي ،الذي وظف تقنيات الحكي الموروث رابط ًا بذلك بين فن الرواية والفنون الت�أ�صيلية ،وا�ستخدمت رواي ��ة (م�صحف �أح��م��ر) التقنيات ال�سردية التجديدية ،فاعتمدت في ال�سرد على �أ�سلوب الر�سائل ،وجاء الزمن ال�سردي على م�ستويين: ما�ض يعتمد على تقنية الفال�ش باك ،وحا�ضر ٍ ت�سير �أحداثه في جديلة مت�ضافرة على امتداد ف�صول الرواية. وفي (م�شروع ابت�سامة) ،الحظ الناقد ولع م�ؤلفها بغرائبية ما يطرح من �أرق��ام و�أ�سماء و�أح����داث ،حيث ت�سيطر ف��ك��رة ال��ه��روب على الن�ص ،كالهروب من الواقع ،ومن الذات الفردية والجمعية.
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
139
مقاالت
�أبعاد العمل
الفني الإبداعي ومـكـونـاتـه
د .مازن �أكثم �سليمان
تدل مفردة (العمل) في م�صطلح (العمل الفني الإب��داع��ي) على معنى الإن��ت��اج� ،أو المح�صلة التي تتوج مجموعة متفاعلة ِّ ومعقدة من الن�شاطات التي تتج�سد في هذا العمل ،في حين �أن (الإب��داع) مفهوم وا�سع �شامل عميق؛ فهو يمتد من االختراعات واالكت�شافات العلمية ،مروراً باالبتكارات والإبداعات الفنية ،و�صو ًال �إلى كل �إنتاج جديد وقيم. �إن الإبداع الفني �شكل راقٍ من �أ�شكال الن�شاط الإن�ساني ،وهو ظاهرة معقدة جداً، �أو جملة معقدة من الظواهر ذات وجوه و�أب��ع��اد متعددة .وبمعنى �أدق :الإب ��داع ه��و وح��دة متكاملة م��ن العوامل الذاتية والمو�ضوعية التي ت�شتمل على ن�شاطات التفكير وال��خ��ي��ال ،وال ��ق ��درة ع��ل��ى نقل المعلومات و�إيجاد العالقات بين العنا�صر المعرفية والجمالية ،وتندرج فيها حركية واالنفعالية والعوامل العاطفية الحياة ّ ّ ال�شخ�صية والعامة برمتها. تتمثل �أبعاد العملية الإبداعية في ثالثة م�ستويات ،هي :البعد الفردي ال�شخ�صي، والبعد االجتماعي ،والبعد التاريخي �أو التطوري. ماهية العمل في نبحث حينما �إننا ّ الفني الإب��داع��ي نقوم بتحليل �شخ�صية المبدع مزاجي ًا وعقلي ًا وواقعي ًا ،وندر�س، �أي�ض ًا ،عالقة الموهبة بالمقدرة والتجربة الحياتية ،ونهتم بفهم ال�صلة بين الوعي 140
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
والحد�س (ال��وع��ي وال�لاوع��ي) ،ف�ض ًال عن االهتمام بم�ستوى �إح�سا�س المبدع بالعا َلم المحيط والتعامل معه وما ينتج عن ذلك من مهارات ،ومن الخط�أ �أن نعزو القدرة الإبداعية �إل��ى الموهبة النظرية فح�سب، فالمبدع لي�س مجرد كائن موهوب فقط؛ بل هو �إن�سان قادر على تنظيم مجموعة معقدة من الن�شاطات للو�صول �إلى تج�سيدها في عمل فني �إب��داع��ي ،وجميع ه��ذه الجوانب تمثل البعد الفردي ال�شخ�صي في الإبداع. �إن البعد الإبداعي االجتماعي هو البعد الذي يكفل في العمل الفني عملية التوا�صل بين الفرد والجماعة ،فكل عمل �إبداعي هو عمل خا�ص وع��ام في الوقت نف�سه؛ �أي فردي واجتماعي في �آنٍ مع ًا .في حين �أن البعد التاريخي التطوري هو البعد الذي يج�سد حركة تطور الفن ،على نح ٍو عام ،عبر م�سيرة التاريخ ،فالن�شاط الفني الإبداعي ه��و ظ��اه��رة �إن�سانية تاريخية تخ�ضع لقوانين التطور والجدل واالرتقاء ،فالمبدع ال يبد�أ من ف��راغ؛ �إنما يعتمد على تراكم �ضخم لتراث �إن�ساني وا�سع وخ�صب. لعل تحديد �أب��ع��اد العملية الإبداعية يقود ،تلقائي ًا� ،إل��ى تحديد مكونات هذه العملية �أي�ض ًا ،و�أهمها :ال�شخ�صية المبدعة، والموهبة ،والتجربة الحياتية ،والفكر (�أو العقيدة) ،والحد�س والوعي ،والإح�سا�س بالعا َلم ،والمهارة. ت��ق��وم �شخ�صية ال��م��ب��دع ف��ي عملية
الإب ��داع ب��دور محوري وعلى جانب كبير من الأهمية ،فالحديث عن �شخ�صية المبدع يعني ،من وجهة نظر علم النف�س ،البحث في اال�ستعدادات والدوافع والتمثل الفكري والطبع والمزاج والمواقف العاطفية والذكاء، لكن الجانب النف�سي لي�س كل �شيء في تكوين ال�شخ�صية الإبداعية ،ذلك لأن هناك ت�أثيراً عميق ًا� ،أي�ض ًا ،للعا َلم االجتماعي في �شخ�صية المبدع ،فاال�ستيعاب الفني للعا َلم يقوم في تكوينه لل�شخ�صية الإبداعية على جدلية الذاتي والمو�ضوعي. غير �أن الحديث عن �شخ�صية المبدع يدفعنا �إلى التمييز بين �شخ�صيته الحياتية و�شخ�صيته الإبداعية� ،إذ �إننا ،على الأرجح، نجد اختالف ًا بين ال�شخ�صيتين؛ فال�شخ�صية المبدعة هي التي تعبر عن نف�سها في الإبداع لتبدو كما لو �أنها ترتفع فوق ال�شخ�صية الحياتية الملمو�سة ،بكل م�شاغلها المعي�شية الم�ضطربة واهتماماتها اليومية المبا�شرة، فكلما ات�سع حجم ال�شخ�صية الإبداعية في مقابل ال�شخ�صية الحياتية ،ازدادت �أهمية الإب��داع ،لكن ذلك ال يعني انف�صال ال�شخ�صية الحياتية ال�شخ�صية الإبداعية عن ّ ّ والواقع انف�صا ًال مطلق ًا؛ ذلك �أن الإبداع يولد ويت�شكل ،بطبيعة الحال ،في و�سط اجتماعي ملمو�س ي�ؤثر به ويكون كثيراً من �أبعاده. �أما المكون الثاني في العملية الإبداعية فهو الموهبة ،وهي �شرط �إلزامي من �شروط الن�شاط الإبداعي� .إنها قدرة فطرية ولي�ست
فوا�صل
مكت�سبة ،لأن ال�شخ�صية المبدعة ت�ستطيع �أن تكت�سب معارف تتحول في عملية الإبداع �إلى قدرات� ،إال �أنها ال ت�ستطيع �أن تكت�سب القدرة نطلق عليها ا�سم (الموهبة)، الفطرية التي ُ والمتمثلة ب�إمكانات الإن�سان على تكوين تفكير فني مجازي خا�ص ينه�ض عليه العمل إبداعي بما هو قائم على م َلكات المبدع في ال ّ اال�ستيعاب الجمالي واال�ستعاري ،ووعي العا َلم و�إدراكه �ضمن تركيب �شمولي موحد. �إن تجربة المبدع الحياتية بو�صفها المكون الثالث في العملية الإبداعية هي التي تمد العمل الفني بالعمق واالكتمال �أكثر ،كلما كانت معرفة الحياة التي يكت�سبها المبدع أدق؛ فهذه التجربة الحياتية هي �أو�سع و�أعمق و� ّ التي تعيد بناء الحياة �إبداعي ًا ،وهي المكون الدائم من مكونات الإب��داع التي تجعل عا َلم العمل الفني �أكثر غنى وفعالية وجما ًال� ،إذ تبدو معرفة المبدع للحياة قوة فاعلة ت�ؤ�س�س خبرته بها ،من جانب �أول ،وهو الأمر الذي ينعك�س، من جانب ثانٍ ،وعلى نح ٍو مبا�شر وغير مبا�شر، في تخليق العمل الفني الإبداعي مجازي ًا. ي�شكل فكر المبدع المكون ال��راب��ع من مكونات العملية الإبداعية؛ والفكر هو ما يتراكم عند كل �شخ�صية مبدعة خالل م�سيرة الحياة من وجهات نظر محددة حول تف�سير الواقع والعا َلم والكينونة .فما ن�سميه (عقيدة المبدع) هو مجموع العالقات التي تقيمها ال�شخ�صية المبدعة م��ع مختلف ج��وان��ب ال��ح��ي��اة ،من �سيا�سية ودينية وفل�سفية و�أخالقية وقانونية وجمالية ت�ؤ�س�س مجمل نظرات المبدع �إلى العالم ،وتكون ثابتة عند بع�ض المبدعين� ،أو متطورة متغيرة مع الزمن واختالف العمر والتجربة عند البع�ض الآخر. و�إذا كان مكون الفكر �أو العقيدة هو المكون مرتبط بقوة الواعي عند المبدع ،فهذا المكون ٌ بالمكون الخام�س ف��ي العملية الإب��داع��ي��ة، والمتمثل ب�صلة الوعي بالحد�س؛ فعندما يندفع المبدع �إلى الإبداع ،ف�إنه ينطلق من �أ�سا�س ما لم ي�صغ بعد؛ �أي من �أ�سا�س قائم على مجموعة من العمليات والدوافع ال�سيكولوجية التي لم تتحول بعد �إلى فعل ،ولذا فهو ال يكاد يعرفها تمام ًا ،بل ال يميز �إال مالمح عامة فيها ،غير
�أن االحتكام �إلى الالوعي ،وحده ،في تحليل كيفيات تخليق العمل الفني الإب��داع��ي هو تطرف مبا َلغ فيه� ،صحيح �أن جانبي الحد�س والالوعي يجدان في العملية الإبداعية مت�سع ًا ال يمكن �أن يجداه في �أي مجال �آخر ،لكنهما عن�صران م��ت��داخ�لان م��ع ال��وع��ي ف��ي �صوغ م�ستوى الموقف والر�ؤيا في العمل الفني ،وفي تحديد خ�صو�صية هذا العمل وجمالياته. �إن جميع م��ك��ون��ات العملية الإب��داع��ي��ة المذكورة حتى الآن ،ال بد لها من مكون �ساد�س يربط بينها ،وي�شكل �صلة الو�صل التي تجعل كل هذه المكونات نا�شطة في تنا�سق وان�سجام، �إنه الإح�سا�س بالعالم. يجد الإن�سان الحديث نف�سه في موقع تحيط به �آالف الأح��داث ،وت�صادفه مئات الظواهر، ويتوا�صل معها داخ��ل �شبكة م��ن العالقات االجتماعية ،وهذا يكون ر�أيه واعتقاده ومخيلته �إلى حد بعيد ،ويمنحه نظرة �شمولية لكل ما يحيط به .فالمرء ي�ستطيع �أن يراكم معارف علمية �أو ثقافية �ضخمة ،لكنه لن ي�ستطيع �أن يكون مبدع ًا �إال �إذا ات�سم بتلك النظرة الوا�سعة ال�شمولية �إلى الحياة ،عبر الإح�سا�س بالعالم بما هو ظاهرة اجتماعية نف�سية تتجاوز معنى حقل الوعي االعتيادي عند ال ّنا�س العاديين �إلى م�ستوى �صوغ العالم ،على نحو خا�ص ومجازي وجديد لدى المبدع الأ�صيل. لعل ما يجعل من �سمة الإح�سا�س بالعالم لدى المبدع �سمة مبتكرة وخا�صة هو المكون ال�سابع من مكونات العملية الإبداعية ،وهو المهارة .فالمبدع الأ�صيل المبتكر هو الذي ي�ستطيع �أن يذيب جميع مكونات العمل الفني الإبداعي في بنية �شمولية خا�صة ومتكاملة، تعك�س م��ه��ارت��ه ف��ي تخليق ع��ال��م مجازي جمالي له �سماته ورهافته وذكا�ؤه في التقاط التفا�صيل والمفارقات ،ف�ض ًال عن ات�صاف هذا العالم بالخ�صو�صية الفنية والفرادة �شك ًال وم�ضمون ًا .فالمهارة هي ج��زء ع�ضوي من القدرة التخييلية والمعرفية التي تنه�ض عليها موهبة ال�شخ�صية الإبداعية ،والتي ت�ستطيع �أن تمتلك مفاتيح بناء الداللة الفنية عبر تمثل جميع مكونات العملية الإبداعية ،و�صياغتها في عمل جديد ومبتكر.
الإبداع الفني �شكل راق من �أ�شكال ٍ الن�شاط الإن�ساني
تتمثل العملية الإبداعية في ثالثة م�ستويات هي البعد الفردي واالجتماعي والتطوري
من الخط�أ �أن نعزو القدرة الإبداعية �إلى الموهبة الفطرية وح�سب
تحديد مكونات العملية الإبداعية يقود �إلى ال�شخ�صية والموهبة والتجربة والفكر والوعي والإح�سا�س والمهارة
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
141
قراءات
المو�سيقا العربية بين الغناء وال�شعر
ب����داي����ة ي��ذه��ب الكاتب محمود كامل م�ؤلف كتاب (تذوق المو�سيقى العربية) �إل ��ى �أن ال��غ��ن��اء في الع�صر الجاهلي كان نجالء م�أمون منت�شراً بين الجواري ب�شكل ملحوظ و�إن لم يكن مزدهراً� ،إذ كان مح�صوراً في مجموعة من الأراجيز ت�ؤدى على وتيرة واح��دة ،وفي م�ساحة �صوتية محدودة ال تتعدى �ست درجات ،وهذا يرجع �إلى ان�صراف العامة �إلى �ش�ؤون �أخرى غير الفن. كما ك��ان ال�شعر هو م��ادة الغناء في جميع الع�صور ،فال�شعر والغناء �صنوان ينبعان من نبع واحد� ،إذ �إن الغناء تعبير مو�سيقي وال�شعر تعبير لفظي ،حيث كان ال��ع��رب ف��ي الجاهلية يلهجون بال�شعر ويتفاخرون ويطربون لتالوته بال ترنيم وال غناء ،وهذه �أول خطوة نحو المو�سيقا، ما ي�ؤكد �أن المو�سيقا بنت ال�شعر. ث��م ظهر ال��ح��داء ،وه��و غ��ن��اء يتغناه الحداة في �سوق الإبل والفتيان في �أوقات فراغهم ولهوهم ،ثم عمدوا �إل��ى الترنيم وك��ان ترنيمهم ينق�سم �إل��ى ثالثة �أن��واع: الن�صب ،وال�سناد ،وال��ه��زج ،فالن�صب هو غناء الركبان وغناء الفتيان� ،أما ال�سناد فقد و�صفه ابن ر�شيق ب�أنه اللحن الثقيل ذو التراجيع الكثيرة النغمات� ،أما الهزج فهو الأنغام الخفيفة الراق�صة التي ي�صاحبها العزف بالمزمار وال�ضرب بالدفوف. كما ي��رى ال��ك��ات��ب �أن المو�سيقا قد ازده��رت في بالد فار�س قبل بالد العرب، و�أن ملوك العجم كانوا الأوائ ��ل في حب الغناء. ك��ذل��ك ي�شير ال��ك��ات��ب �إل ��ى �أن العرب في الجاهلية قد عرفوا العديد من الآالت المو�سيقية مثل المزهر ،والعود ،والمزمار، والطبول ،والدفوف ،وي�ؤكد �أي�ض ًا �أن �أ�صل 142
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
الغناء قد تبدى في �أمهات القرى لدى العرب مثل المدينة ،والطائف ،وخيبر ،ووادي القرى ،ودومة الجندل ،واليمامة ،و�أن هذه القرى كانت مجامع �أ�سواق العرب ،وفي هذه الأ�سواق كانت تنعقد التجارة في الجواري، اللواتي يجدن الغناء ويعرفن با�سم القيان. وكانت ن�ساء مكة يخرجن مع الجي�ش وين�شدن الأغاني الحما�سية لحثه وت�شجيعه على القتال ،وقد حدث في يوم �أحد �أن قامت الن�ساء ب�ضرب الدفوف وراء رجال الجي�ش و�أن�شدن �أبيات ال�شعر الحما�سية. وكان المغنون العرب يغنون �أي�ض ًا بغير �آل��ة مو�سيقية ت�صاحب �أ�صواتهم ،وكانوا ي�ستخدمون �أع��م��دة م��ن معدن ي�ضربون بها الأر�ض لوزن الغناء ،حتى ظهر العود فكان (�سائب حاثر) �أول من غ ّنى بالمدينة بالعربية م�ستخدم ًا العود. وي�ؤكد الكاتب �أن الع�صر العبا�سي كان هو الع�صر الذهبي للمو�سيقا العربية ،حيث ارتقت فيه المو�سيقا ،وزادت مقاماتها المو�سيقية ،وكثرت الآالت وتنوعت و�شاع ا�ستعمالها ،و�سما ق��در الم�شتغلين بها، فكان المو�سيقيون مو�ضع ت�شجيع وتقدير الخلفاء ،وكان المهدي بن المن�صور محب ًا للمو�سيقا وال��غ��ن��اء ،وك��ان م��ن �أ�صحاب الأ�صوات الح�سنة ،وفي الع�صر العبا�سي �أن�ش�أ الخليفة الم�أمون بن هارون الر�شيد �أول جامعة عربية لدرا�سة العلوم والفنون ببغداد ،و�سماها (بيت الحكمة) وا�ستعان فيها بفطاحل العلماء �أمثال يحيى بن �أبي من�صور ،لترجمة العلوم اليونانية ومن بينها المو�سيقا ،كما ظهر في هذا الع�صر بع�ض العلماء في المو�سيقا منهم؛ �إ�سحق بن يعقوب الكندي الذي �ألف عدة م�صنفات في العلوم المو�سيقية. وي�شير الكاتب �إل��ى �أن��ه عندما فتح بنو �أمية الأندل�س كانت قرطبة موطن ًا لأ�ساطين العرب ،كما كانت �إ�شبيلية �أعظم مركز للمو�سيقا وال�شعر و�صناعة الآالت،
كما نقل العرب �إلى الأندل�س �أ�صناف الغناء الذي تبلور عند الم�شارقة ثم ابتدعوا الزجل. وم��ن �أ�شهر المو�سيقيين في الأندل�س زري ��اب ،واليه يرجع الف�ضل في انت�شار المو�سيقا العربية ،ثم ابن باجة ،ووالدة بنت الم�ستكفي ،كما ظهر المو�شح ا�ستجابة ل��دواع��ي الحاجة �إل��ى �أوزان يتحلل فيها الغناء من بحور الق�صيدة والقوافي ال�ضيقة المحدودة ،التي يلتزم بها ال�شعر العربي التقليدي. يذكر الكاتب �أنه في الع�صر الفاطمي �شجع المعز ل��دي��ن اهلل الفاطمي الآداب وال��ف��ن��ون ،و�أن�����ش ��أ مدينة ال��ق��اه��رة وبني الجامع الأزهر ،وكان الخليفة العزيز باهلل �شغوف ًا بالمو�سيقا ،ومن المو�سيقيين الذين ظهروا في هذا الع�صر �أمية ابن �أبي ال�صلت الذي كان فيل�سوفا وعالما وا�سع الدراية وبالعلوم المو�سيقية ،ويجيد العزف على العود. وي�ضيف الكاتب �أن��ه بانتهاء الدولة الفاطمية ان��ح��درت المو�سيقا و�أ�صيبت باال�ضمحالل والك�ساد ،ثم عادت لالزدهار في مطلع القرن التا�سع ع�شر ،ويرى الكاتب �أن الغناء ك��ان مح�صوراً في المو�شحات الحلبية ،التي جاء بها �إلى م�صر الملحن �شاكر الحلبي ف��ي ال��ق��رن ال�سابع ع�شر الميالدي.
مقاالت �إ�ضاءات
ما بين «بو�شكين» و«يفتو�شينكو» كان عام ( 1985م) ،هو العام الذي �سافرت فيه للمرة الأولى بعيداً عن وطني لغر�ض ال��درا���س��ة الجامعية ف��ي رو�سيا البي�ضاء ،هناك تفتحت نف�سي ال�شاعرة بطبيعتها على �سحر الطبيعة وجمالها، فكنت �أنهل من نبعين؛ نبع العلم ونبع الجمال ،وهناك كانت لي انطالقات كثيرة في ف�ضاءات غامرة بالمواقف والمعارف التي هدتني �إلى �سبل متعددة نحو عوالم ال�شعر والأدب ،ما كان لي �أن �أهتدي �إليها لوال حبي ومعرفتي زمانئ ٍذ باللغة الرو�سية، فكانت البيئة والحياة الثقافية في مدينة مين�سك عا�صمة رو�سيا البي�ضاء التي ع�شت فيها ما يقارب ال�سبع �سنوات �أ�شبه ما تكون بنهر كبير زاخ��ر ،ال يتوقف عن الجريان كنهر �سفي�سلوت�ش �أكبر �أنهارها الجميلة ال��وادع��ة .وق��د تمكنت من ق��راءة الأدب الرو�سي العظيم واالطالع على بع�ض النماذج والإ�شراقات الأدبية وال�شعرية، فكنت �أق��ر�أ ق�صائد �ألك�سندر بو�شكين بل و�أحفظها عن ظهر قلب ،وكانت معلمتي الرو�سية �آال ميخايلوفنا تتباهى بي �أمام الطلبة والمعلمين في حفظ و�إلقاء �أ�شعار في ما يميزني بو�شكين ،ولعلها كانت تجد َّ عن بقية الطلبة فكانت تنتقي لي الق�صائد لأحفظها ،ب��ل وت�شرح معاني مفرداتها وتبين جمالياتها التعبيرية والأ�سلوبية ِّ وغير ذلك من فنيات الكتابة ال�شعرية عند بو�شكين ،وعرفت منها مكانة بو�شكين عند ال�شعب الرو�سي ال��ذي يقرن ا�سمه بكلمة (العظيم) فيقولون بو�شكين العظيم ،ف�أحببت اللغة الرو�سية و�أحببت �شعر بو�شكين الذي علي ،فكنت كلما كان ال�سمه وقع عجيب َّ �أ�سمع �أو �أقر�أ ا�سمه �أ�ستعيد �شيئ ًا من �شعره بيني وبين نف�سي .
�أحببت اللغة الرو�سية و�شعر بو�شكين الذي كان ال�سمه وقع عجيب علي
وال يمكن �أن �أن�سى تلك اللحظة الأثيرة من لحظات حياتي في يوم ربيعي زاهر، لا �أم���ام تمثال وال��ت��ي وق��ف��ت فيها ط��وي� ً لا مالمحه بو�شكين ف��ي مو�سكو م��ت ��أم� ً البراقة الموحية ،وحوله المئات من ال�شباب الرو�س من الفتيات والفتيان وك�أنهم لآلىء منثورة ..عالم من الجمال الآ�سر والبهاء ال�ساحر يموج بالمحبين و�أحالمهم وفتنة �ضمنتها منظر �ألهمني ق�صيدة طويلة َّ �إعجابي ببو�شكين ،واحترامي ل�شعب يقيم الن�صب التذكارية لعظمائه ومبدعيه في ال�شوارع والحدائق وال�ساحات والميادين العامة تمجيداً وتخليداً لهم واع��ت��راف� ًا بعطاءاتهم وبما قدموا لوطنهم وللثقافة والأدب الإن�ساني ،وه��ي الق�صيدة التي ن�شرتها في ديواني الأول (من �أغوار الأم�س) و�أقول فيها: ال�سامينا �أك���ب���رتُ �شعب ًا ُي��ك�� ِب ُ��ر ّ �����ص��ب ي��ب��ه ُ��ر ال��رائ��ي��ن��ا ب���ج�ل�الِ ن ٍ ِ يد بنا�ؤ ُه َم��ن ذا ال��ذي بالفخر �ش َ ف��زه��ا ب��ه ���ص��د ُر ال��وج��ود و ِزي��ن��ا؟ ه����ذي ت��ن��اج��ي ِ ��ه وت���ل َ ��ض��م��هُ ���ك ت��� ُّ و ِذ ِه ت��ب��ثُّ��هُ ف��ي ال���غ���رام �شجونا وكنت �أق��ر�أ لعدد من ال�شعراء والأدب��اء الرو�س الكبار �أمثال ميخائيل ليرمنتوف، ونيقوال غوغول ،وفيودور د�ستويف�سكي، وليو تول�ستوي ،و�أنطون ت�شيخوف ،ومك�سيم جوركي و�آخرين ،كنت �أقر�أ له�ؤالء الأفذاذ بلغتهم ال��ت��ي كتبوا بها و�أب��دع��وا �أعظم الأعمال الأدبية الخالدة. وك��ن��ت �أرت����اد المكتبات ال��ع��ام��ة في المدينة و�أ�صرف ال�ساعات الطوال �أحيان ًا في القراءة ،و�أخ�ص�ص جزءاً من معا�شي كطالب ل�شراء ال�صحف اليومية والمجالت والكتب التي كنت �أقتني كمية منها في غرفتي بال�سكن الطالبي .وكم كنت �أف��رح حينما �أنتهي من اجتياز فترة االمتحانات لكي �أتفرغ لقراءة الق�ص�ص والروايات ودواوين ال�شعر ال��رو���س��ي ،و�إذا ب��ي �أح��ف��ظ ق�صائد ل�شعراء الحقبة ال�سوفييتية ومنهم ال�شاعر يفجيني يفتو�شينكو ،وهذا ال�شاعر بالذات ال
رعد �أمان يمكن لي �أن �أن�ساه ،لأن ذكره يعيدني �إلى موقف طريف ملت�صق بجدار ذاكرتي ،فقد حدث �أن �أخفقت مرة في �أداء امتحان مادة علي �إع��ادة االمتحان بعد المنطق ،وكان َّ �أ�سبوع في فر�صة ثانية لتعوي�ض �إخفاقي الأول ،وحين وقفت للمرة الثانية �أم��ام مدر�سة المادة ذات المالمح ال�صارمة التي ِّ ال يعرف االبت�سام طريق ًا �إليها �أخبرتها بكل جر�أة �أنني �أحفظ الكثير من ال�شعر الرو�سي، وطلبت منها �أن ت ��أذن لي ب�إلقاء �إح��دى ق�صائد ال�شاعر يفجيني يفتو�شينكو قبل �أداء االمتحان .الغريب �أن المعلمة لم ترف�ض بل على العك�س وافقت على الفور وبد�أت �سمات االنب�ساط واالرتياح ترت�سم على وجهها مع تال�شي عالمات ال�صرامة �شيئ ًا ف�شيئ ًا ،و�إذا بها تجل�س على كر�سيها م�صغية .ورحت �ألقي ق�صيدة ليفتو�شينكو كنت �أحفظها، والحق �أنني لم �أك��ن �أرى المعلمة �أمامي و�أنا �ألقي ال�شعر بلغة ُخيل لي �أنها �سليمة، بل كنت �أرى في�ض ًا من �شعاع �أبي�ض يتدفق ليملأ ف�ضاء القاعة. ا�ستمهلتني المعلمة قلي ًال ،وخرجت من القاعة ثم عادت ب�صحبة معلمتين �أخريين، وطلبت مني �أن �أعيد �إلقاء الق�صيدة من البداية ف�أعدت �إلقاءها ك�أح�سن ما يكون الإلقاء ،وبانتهائي من الإلقاء �سمعت دوي ت�صفيق وعبارات ا�ستح�سان من المعلمات، لحظتها لم تجد معلمتي بداً من �أن ت�ضع لي بف�ضل ق�صيدة يفتو�شينكو عالمة كاملة في مادة المنطق من غير امتحان ،لأن هذا- كما قالت -هو المنطق ،ومن يومها �أدركت �أن ال�شعر ال يعترف بالمنطق
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
143
قراءات
ف�ؤاد الظاهري
«م�صرية الجذور وعالمية الإبداع» الكتاب �صادر عن الهيئة الم�صرية العامة للكتاب عام (2020م)، ت�أليف الدكتورة رانيا ي��ح��ي��ى ،رئي�سة ق�سم فل�سفة الفن ب�أكاديمية الفنون. �ضياء حامد (�إلى روح اعتنقت المو�سيقا و�آمنت بال�سينما فن�سجت رياحين االب��داع الباقي دائم ًا ،)..بهذه الكلمات �أهدت د.رانيا يحيى كتابها �إلى ف�ؤاد الظاهري. الكتاب هو الأول عن الم�ؤلف المو�سيقي ف ��ؤاد الظاهري ،باعتباره واح��داً من �أعمدة مو�سيقا الأفالم في م�صر والوطن العربي ،وهو �إن�صاف لواحد من رموز الت�أليف المو�سيقي في ال�سينما الم�صرية. وتذكر الم�ؤلفة �أن �أي عن�صر من عنا�صر الفيلم ال�سينمائي ،لم يقترن با�سم مبدع معين، مثلما اقترنت مو�سيقا الأفالم في م�صر با�سم الم�ؤلف ف���ؤاد ال��ظ��اه��ري� ،صحيح �أن قائمة الم�ؤلفين المو�سيقيين الكبار ت�ضم �إلى جانبه �أ�سماء �أخرى مهمة ،مثل :علي �إ�سماعيل و�أندريه راي��دار وعلي فرج ،لكن يبقى الظاهري الأهم والأعظم بين ه��ؤالء في تقدير الم�ؤلفة ،لي�س فقط لأنه �أكثر غزارة في الإنتاج ،و�إنما �أي�ض ًا لوجود ا�سمه على غالبية الأف�لام ذات القيمة الفنية العالية.
144
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
ا�سمه الحقيقي (ف�ؤاد جرابيد بانو�سيان)، ول��د ف��ي (� 15أك��ت��وب��ر 1916م) ،م��ن �أ�صل �أرمني وينتمي للجيل الثاني من الم�ؤلفين المو�سيقيين ،ولقب با�سم ف�ؤاد الظاهري ن�سبة �إلى حي الظاهر بالقاهرة. التحق بمدر�سة (الفرير) �أ�شهر المدار�س الخا�صة لتعليم اللغة الفرن�سية في م�صر، وح�صل على �شهادة (الكفاءة)� ..شجعه الأ�ستاذ الفل�سطيني الأ�صل ق�سطندي ال��خ��وري ،على درا�سة �آلة الكمان ،ثم التحق بمعهد (ف�ؤاد الأول) للمو�سيقا العربية ،و�أ�صبح عازف ًا لآلة الكمان. عين مدر�س ًا للأنا�شيد ب��وزارة وبعد تخرجه ّ عين (1948م)، عام وفي (التعليم)، المعارف ّ �أ�ستاذاً لآلة الكمان بمعهد ف�ؤاد الأول للمو�سيقا ال��ع��رب��ي��ة ،بعدها عمل ق��ائ��داً لفرقة الفجر للمو�سيقا العربية .كما �أ�شرف على فرقة الإذاعة للوتريات ،و�سجل �أول عمل من م�ؤلفاته للإذاعة الم�صرية بعنوان (متتالية م�صرية) ،وكتب كون�شرتو القانون والأورك�سترا من حركتين فقط في نف�س العام ،ثم �أ�ضاف حركة ثالثة لهذا الكون�شرتو عام (1964م). ع��ا���ص��ر ف�����ؤاد ال��ظ��اه��ري م��ج��م��وع��ة من المو�سيقيين الم�شهورين ،منهم :عزيز �صادق، ومحمد عبدالوهاب ،وفريد الأطر�ش ،ومحمد فوزي .ولم يقت�صر عطا�ؤه على الفن ال�سينمائي فح�سب ،ب��ل ارتبطت مو�سيقاه بالعديد من الأعمال في الم�سرح والتلفزيون ،مثل( :الع�ش الهادئ) و(خ��ان الخليلي) و(النا�س والبحر). وفي الم�سرح القومي قدم مو�سيقا م�سرحيات: (�سليمان الحلبي) ،و(رج��ل عجوز) ،و(طيور الحب). قدمت الم�ؤلفة ق��راءة نقدية تحليلية عن مالمح الم�شروع المو�سيقي للظاهري ،مثل فيلم (�صراع في ال��وادي) بطولة فاتن حمامة وعمر ال�شريف ،ويتناول ال�صراع الداخلي بين طبقة الإقطاعيين والفالحين .وتو�ضح الم�ؤلفة �أن مو�سيقا الفيلم تبد�أ مع خلفية ح��وار البطل قبل التتر� ،أو ما يعرف بـ(�أفان ت��ت��ر) ،بعزف ن��اي منفرد م�صاحب ل�صوته وهو يعطي نبذة عن مو�ضوع الفيلم ،م�شيرة �إل��ى �أن الظاهري ا�ستخدم (ال��را���س��ت) ،وهو مقام مو�سيقي �شرقي ينا�سب �أجواء المواويل والأغاني ال�شعبية وموروث الريف ،مع الناي
د .رانيا يحيى
ك�آلة �شعبية تنا�سب �أجواء الفالحين والأرا�ضي الزراعية .ثم تنتقل مو�سيقا الفيلم للعزف ب�آلة (التيمباني) الإيقاعية (كري�شندو)� ،أي التدرج في �شدة ال�صوت من ال�ضعف �إل��ى القوة ،ثم دخ��ول الأورك�����س��ت��را وال��ك��ورال بثيمة �أي�ض ًا تعبر عن جو الفيلم .وي�ستخدم الم�ؤلف الآالت ال�شرقية بكثرة مع الأورك�سترا ،وتعتمد مو�سيقا الم�شاهد الدرامية على العزف المنفرد (�صولو) لآلة القانون ،مع التقطيع المو�سيقي كخلفية للحوار على نح ٍو يمنح الإح�سا�س للم�شاهد بقيمة الأر�ض و�أهميتها ،لي�س فقط للمزارعين بل للجميع. الكتاب ي�ضم ثالثة �أج��زاء رئي�سة؛ الأول بعنوان (ف� ��ؤاد الظاهري القيمة والمكانة)، ا�شتمل على ر�ؤية الكاتبة حول ن�ش�أته ،وبداياته وملكة الإبداع لديه ،ال�ستعرا�ض قيمة ومكانة الظاهري باعتباره �أحد رواد مو�سيقا الأفالم. الجزء الثاني؛ قراءة في �أفالمه ،وخاللها قامت الم�ؤلفة بتحليل اثنين وع�شرين فيلم ًا �سينمائي ًا من الأف�لام التي تمثل عالمات في ال�سينما الم�صرية والعربية ،وانتهى بالر�ؤية الجمالية لمو�سيقا �أفالم الظاهري. وجاء الجزء الأخير من الكتاب ،متمث ًال في المالحق التي تحتوي على �شهادات حية ،من كبار المخرجين والمو�سيقيين وال�سينمائيين، منهم :علي عبدالخالق ،تامر كروان ،م�صطفى محرم ،انت�صار عبدالفتاح ،راجح داوود� ،سمير �سيف ،كمال عبدالعزيز� ،أ�شرف فايق� ،صبحي �سيف الدين ،جمال �سالمة ..ثم فيلموجرافيا لأف�لام ف��ؤاد الظاهري وتعريف الم�صطلحات المو�سيقية بالكتاب ،ثم اختتم بمجموعة �صور من �أفالم ف�ؤاد الظاهري. الكتاب يحتفي برائد من رواد مو�سيقا الأفالم ..والذي رحل عن عالمنا عام (١٩٨٨م) وهو في الـ( )٧٢من عمره.
�إ�صدارات
جر�أة االقتحام واالكت�شاف والتف ّتح قا�سم توفيق في روايته «ج�سر عبدون» يقول �أر�سطو عن المدينة� ،إن��ه ال يجب ال��خ��ل��ط ب��ي��ن المدينة ال��ع��ظ��ي��م��ة وال��م��دي��ن��ة ال��ع��ام��رة بال�سكان، ورواي ��ة قا�سم توفيق عمر �أبو الهيجاء ال��ج��دي��دة ال�����ص��ادرة ع��ن (الآن ن��ا���ش��رون) في عمان (ج�سر عبدون) ،تحاول �إثبات هذه الحقيقة من خالل �شخو�صها العديدة عندما تقوم بعمل مزاوجة بين �أكثر من مدينة عربية و�أجنبية؛ كعمان ،وبيروت ،والقاهرة ،ودبي، إيطالية ،وت�شارلوت في وروم��ا ،وبيروجيا ال ّ ال�شمالية في �أمريكا ،وي�ضيف �إليها كارولينا ّ الم�ؤلف مدينة (الد ّفة) التي ي�صنعها من خياله مثلما �سبق له �أن فعل في روايته (حانة فوق التراب) ،و(نزف الطائر ال�صغير) عندما �أن�ش�أ مدن ًا جديدة وزرعها في الأردن وفل�سطين ،من دون �أن تكون موجودة على الخريطة. ح�ضور هذه المدن في رواية (ج�سر عبدون)، لم يكن مقحم ًا ،مثلما �سيكت�شف القارئ ،بل جاء نتيجة لحركة �شخو�صها النف�سية والواقعية، ال��ذي��ن تدفعهم الأح����داث ال��ت��ي يعي�شونها، لي�صبحوا م�أزومين ومحا�صرين ،فلم يعد لهم مكان على الأر���ض حتى في �أوطانهم ،وك�أن (قا�سم توفيق) ،يريد �أن ينبه �إلى م�س�ألة؛ �أن
لي�س بال�ضرورة �أن يكون كل �إن�سان يم�شي على حي ًا ،مثلما �أن المدن العظيمة لي�ست تلك الأر�ض ّ العامرة بالنا�س .ويحاول ت�أكيد موقفه هذا من خالل اختياره لج�سر عبدون المعلم الهند�سي الجميل في مدينة (عمان) ،الذي لم يعد تحفة تحول �إلى مكان للموت ،بعد معمارية ،بعد �أن ّ �أن �شهد عدداً من حاالت االنتحار ،حتى �صار معروف ًا بهذه ال�صفة. تنق�سم الرواية �إلى جز�أين ،الأول بعنوان؛ (�أوط ��ان �صغيرة) ،وال��ذي يعر�ض �سير حياة ع��دد م��ن ال�شخ�صيات ،ن�ش�أت ف��ي (ع��م��ان)، وتوزعت بعدها في �أرجاء العالم ،فعندما غادر الولد الطريد (ع��ادل) بيت �أبيه القا�سي و� ّأمه الم�ستكينة ،في (عمان) كان �أفق رحلته مل ََّبداً بالغمو�ض وال�ضباب والظالم ،فهو يتنقل بين (عمان) ،و(القاهرة) ،ثم يحط رحاله �أخيراً في مدينة (الد ّفة) التي كان يح�سب �أنها �ستكون مدينته الفا�ضلة ،ليجد �أنها قد �أجهزت على إن�سانية ،وحولته �إلى كائن الروحية وال قيمه ّ ّ �آخر مختلف وغريب عنه. و(رائف) ال�شاب المحا�صر والم�أزوم ،الذي يفت�ش عن خال�صه ،من الآالم التي يكابدها، ت�صيبه لوثة العزلة ويم�ضي ب�أفكاره �صوب االنتحار خوف ًا على نف�سه من �أن يتردى نحو الجنون .في حين �أن �شخ�صية �صاحب دار الن�شر التي تحمل ا�سمه( ،نوح) الفل�سطيني الذي يجد نف�سه مواطن ًا من الدرجة الثانية في كل بلد يعي�ش فيه ،فهو يق�ضي عمره مغترب ًا يبحث هوية لم يهت ِد �إليها �إلى �أن يكبر في العمر، عن ّ ويكت�شف �أنه عا�ش عمره وحيداً على الرغم من وج��ود الكثيرين من حوله ،وال يجد مخرج ًا المتوالية غير �أن يعتبر �أن حياته من �صدماته ّ الطويلة ،ال تعدو �أن تكون �سوى حلم �أو كابو�س. ي�ضم الجزء الثاني من ال��رواي��ة ،وال��ذي حمل عنوان؛ (�أوط��ان مه�شمة)� ،سير مجموعة من الن�ساء اللواتي كان لهن الن�صيب الأكبر، في الت�أثير في حياة ه�ؤالء الرجال ،حيث يقدم فني يك�شف (قا�سم توفيق) �سيرهن في �أ�سلوب ّ عن الجزء المخبوء في دواخلهن ،والعوالم �شخ�صية المر�أة العربية، النف�سية والمكبوتة في ّ ابة ويبرز ذلك من خالل �شخ�صية (�سالفة)ّ ، ال�ش ّ الفقيرة التي ت�صنع ذاتها بالكفاح والثقافة
قا�سم توفيق
والوعي ،والتي تعمل مديرة لدار الن�شر التي يملكها (نوح) ،عندما تعود بذاكرتها �إلى �أبيها، ال��ذي هجرها هي و�إخوانها و�أمها ،من �أجل امر�أة �أخرى وهم مازالوا �أطفا ًال�( :أين هي المر�أة التي تجر�أت وك�شفت عن عدائها لأبيها ،ولو في خيالها؟ م�ضت ب�أفكارها �أبعد من ذل��ك ..كم هي كثيرة جرائم ال�شرف ،التي يكون الأب فيها ال�سفاح وب�شاعتها تنقلها هو القاتل؟ حاالت ّ الأخبار ك ّل يوم ،حتى الجرائم ال�صغيرة التي ال يحكي عنها �أحد ،الحكم على البنات في البقاء تزويجهن ومنعهن من التع ّلم� ،أو تهن ّ ّ أمي ّ على � ّ تقديمهن لرجال يعاملون وهن قا�صرات� ،أو ّ ّ زوجاتهم بهمجية وق�سوة وعنف. تو ّقفت عن التفكير فج�أة ،رفعت ر�أ�سها عن �ضمت وجهها بك ّفيها� :آه يا �أبي! كم ال�سريرّ ، من الجرائم اقترفت في ح ّقي! وكم مرة �أقنعت نف�سي ب�أنك بريء من دمي!). ثم ي�أتي دور ال�صبية (�أودري) ،الفتاة التي ت�صدعت روحها بين ح�ضارتين ووالءين فهي ّ ن�صف �أمريكية من جهة �أمها ون�صف �أردنية من جهة الأب ،تعي�ش حالة �صراع بين ما �أراده �أبوها لها عندما �أعادها عند بلوغها من �أمريكا لتعي�ش في (الأردن) خوف ًا عليها من �أن ُت�ستلب �شخ�صية من قبل ثقافة الغرب الأمريكي .وكذلك ّ (فلك) المتمردة الجميلة التي تموت في عمر الع�شب والزهور ،ومثلها (�سارة) التي تت�أرجح في عوالم وجدانية قا�سية تدفعها للعزلة. المالحظة التي افتتح الكاتب فيها روايته والتي تقول (�إنها �أكثر من رواية) ،لم ي�أت بها من باب الرغبة في ت�شويق القارئ ،بل من �أجل ك�سر المفاجئة التي �سوف يتحقق منها هذا القارئ ،وهي �أن رواية (ج�سر عبدون) تحمل في بطنها رواية �أخرى� ..أو �أكثر من رواية!
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
145
مقاالت
كتابات و�أ�شياء
لوحات �شك�سبيرية خالدة
نواف يون�س اع��ت��م��دت ال��ه��ي��ئ��ة ال��ع��رب��ي��ة للم�سرح والم�سرحيين ومقرها ال�شارقة ،يوم العا�شر من يناير كل عام ،يوم ًا للم�سرح العربي� ،أ�سوة بيوم الم�سرح العالمي في مار�س من كل عام ،ويحق لنا ونحن نحتفي بيوم الم�سرح العربي� ،أن نلفت النظر� ،إلى واحدة من �أهم الظواهر التي عرفها الم�سرح ،ونعيد تذكرها ،وهي متمثلة في �أن �شك�سبير �أحد رواد الم�سرح العالمي ،ال يزال يحتل مكانته المرموقة ،ويفر�ض ب�صمته في م�سيرة الم�سرحين العربي والعالمي مع ًا ،وعلى رغم يدر�س حتى الآن في وفاته عام (١٦١٦م) ،ف�إنه ّ كل مدار�س ومعاهد و�أكاديميات الم�سرح ،من خالل ن�صو�صه و�إبداعاته في الكتابة والإخراج الم�سرحي ،ولم تقدر كل التيارات الم�سرحية الجديدة ،بكل تفانينها وتجريبها وطليعيتها� ،أن تتن�صل من �أثره في الم�شهد الم�سرحي ،والتزال �أعماله تقدح خ�شبات الم�سرح ،من �شرقه �إلى غربه ،ومن �شماله �إلى جنوبه. وال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه بقوة ،ما هذه ال�شرعية ،التي ت��وج بها �شك�سبير و�أعماله الم�سرحية ،حتى نجد في كل زمان ومكان هذا الأثر الفاعل لما قدمه خالل حياته الق�صيرة، والتي امتدت بين عامي (١٥٦٤م) و(١٦١٦م)؛ �أي �أنها اختزلت كل هذا الإبداع في نحو ()٥٠ عام ًا وح�سب ،وقد �أدلى بع�ض النقاد من دار�سيه بدلوهم ،م�ؤكدين �أن الحقيقة تكمن في ال�سنوات ال�ست ،التي يكتنفها الغمو�ض في حياته ،وقد اختلفت ال��رواي��ات وتنوعت الحكايات ،في
يعتمد �شك�سبير في ن�صو�صه الم�سرحية على �أبطال يت�سمون ب�شخ�صيات مركبة 146
العدد الرابع وال�ستون -فبراير - ٢٠٢٢
ك�شف �سرها ،خ�صو�ص ًا �أنه ترك الدرا�سة وهو في الرابعة ع�شرة من عمره ،وعمل في �أكثر من مهنة ،مثل تجارة ال�صوف والأخ�شاب ك�أبيه، وامتهن التدري�س في الريف الإنجليزي ،قبل �أن يعمل لدى �أحد المحامين ،نتيجة تمكنه من اللغة والخطابة ،والتي تلقاها على يد �أمه «ماري �أدن» ،فتعلم بالغة و�آداب اللغة منها ،وحفظ خالل تلك الفترة الكثير من الق�صائد ال�شعرية، �إال �أن بع�ض الوثائق ت�شير �إلى ما ي�ؤكده النقاد عن تلك الرحلة ،التي ا�ستمرت ل�ست �سنوات، تجول خاللها في �أوروبا ،وتحديداً في �إيطاليا، قبل �أن يعود �إلى مدينة «لي�ستر» الإنجليزية، ليكون فرقته الم�سرحية الأولى ،والتي �أ�صبحت ّ فرقة الملك التمثيلية ،بعد �أن تولى الملك جيم�س العر�ش ،وك��ان من محبي الم�سرح ،ما جعله ي�شجع �شك�سبير ويدعمه هو وفرقته. وفي ا�ستعرا�ض �سريع لنتاج هذا الم�سرحي العبقري ،نطالع م�سرحيات عظيمة وخالدة، منها (هنري ال�ساد�س -روميو وجولييت -حلم ليلة �صيف -تاجر البندقية -يوليو�س قي�صر- عطيل -الملك لير� -أنطونيو وكليوباترا- هاملت -مكبث) وهو ما دفع الملك �إلى منحه وعائلته لقب «جنتلمان» ..وه��ذه الأع��م��ال الم�سرحية الت��زال تقدح خ�شبات الم�سرح في العالم ،وحتى الآن ،ب�أ�ساليب ور�ؤى و�أفكار مغايرة ومواكبة ومعا�صرة. وبنظرة نقدية ،نجد �أن كل هذه الأعمال ال�شك�سبيرية ،تعتمد �أ�سا�س ًا على �شخ�صيات مركبة ،تعاني ح��االت متناق�ضة ومتداخلة، ومتعار�ضة ومتوافقة مع ًا ،تتنازعها القيم الإن�سانية المتراوحة في �صراعها ،بين الخير وال�شر ،والجمال والقبح ،واالنتماء والخيانة، والإي ��م ��ان وال��ري��ب��ة ،وح���االت م��ن الإح��ب��اط واالنك�سار والحلم والبطولة والهزيمة ،وهنا تكمن عبقرية �شك�سبير المتدحرجة على مر الع�صور ،والتي ال ن�ستطيع التمل�ص منها ،مهما اختلف الزمكان في الوجود الإن�ساني. من منا ي�ستطيع ن�سيان �شخ�صية «الملك لير» الذي اختلطت عليه حكمته بعاطفته ،في توزيع ملكه على بناته الثالث ،عندما مل الحكم وال�سلطة و�شهوة الملك ،فحرم ابنته «كورديال» ال�صادقة معه والمخل�صة له ،من �إرثها الملكي، فدفع الثمن غالي ًا من نكران وجحود ابنتيه «جونيرل» و«ريجان» عندما �أ�ساءتا له ،فحب�س دموعه ندم ًا على اختياراته الخط�أ ،بل جثم
على ركبتيه �أم��ام جثمان «ك��وردي�لا» ينوح بدمعه ،ولكن بعد فوات الأوان! و�أي�ض ًا �شخ�صية «هاملت» الأمير الحائر، الذي توافرت له كل �سبل العي�ش الرغيد ،وكان مثا ًال للمرح والحيوية ،حتى رحل والده الملك فجاءة! فتحولت حياته ال�سعيدة �إلى جحيم، خ�صو�ص ًا بعد �أن ت�س ّلم عمه الحكم بعد �أبيه، والأده��ى من ذل��ك� ،أن��ه اقترن ب�أمه ،فتغيرت حياته ،وتحول من النور �إل��ى الظلمة وال�شك والريبة ،وقادته ظنونه نحو عمه و�أم��ه ،وهو ما جعله يفقد �صوابه ،ويقترب رويداً رويداً من الجنون ،وعندما علم �أن المبارزة التي �أعدوها له مع «لورت�س» �إنما هي الحكم ب�إعدامه ،بعد �أن �سمموا �سيف «لورت�س» فخر �صريع ًا وهو في ح�ضن �صديقه هورا�شيو ،ليقول جملته الأخيرة والم�أثورة «لي�س عد ًال يا �صديقي هورا�شيو� ،أن �أموت ويبقى ال�سفلة!» �إبداع �آخر �شك�سبيري ،في تركيب �شخ�صية «ماكبث» القائد ال��ذي ال يقهر ،وال��ذي أ� ّلبته الليدي مكبث ،بطموحها ال�شخ�صي لت�صبح ملكة ،فدفعته و�شجعته على �أن يمتلك كل �شيء، م��ادام هو الأق��وى والأق��در ،حتى �صال وجال في محاربة كل مناف�سيه ،وو�صل به الأم��ر، �إل��ى الزهو بقوته و�صولجانه فيقتل الملك، ويت�سلم زمام الأمور بنف�سه� ،إال �أن نقطة �ضعفه، كانت وراء مقتله و�ضياع كل �شيء ،حيث كان يراجع ال�ساحرات ،اللواتي تنب�أن له بم�ستقبله، و�أخبرنه با�ستحالة هزيمته لعدم وج��ود من يقدر على ذلك في الوجود� ،شريطة �أال تتحرك غابة «برنام» ،وهو ما حدث عندما �أ�شار غريمه «مالكولم» لجنوده عند الفجر ،وهم يزحفون نحو قلعة «دونزنين» �أن يحملوا جذوع الأ�شجار، �أثناء تقدمهم من القلعة ،وما �إن ر�أى «ماكبث» �أ�شجار الغابة تتجه �صوب قلعته ،حتى �أ�سقط في يده ،و�أح�س بدنو �أجله ح�سب نبوءة ال�ساحرات، وكان �أن هزم وقتل على يد «مالكولم» وتال�شت �أحالمه في البقاء ملك ًا. �إنها لوحات �شك�سبيرية خالدة ،كتبها منذ خم�سة قرون ،والتي �أثارت والتزال الكثير من الت�سا�ؤالت ،وك�شفت لنا مكامن القوة وال�ضعف فينا ،نحن الب�شر ،و�سبرت �أغوار نفو�سنا بقوتها و�ضعفها ،وخيرها و�شرها ،وفجورها وتقواها، ونحن نتلم�س طريق ال��ح��ي��اة ..المتمثل في المعرفة والفرجة والمتعة مع ًا ..فن�ضع على جبين هذا المبدع �إكلي ًال من الغار.
تطبيق مجلة
• تطبيق الهواتف الذكية
مع ًا دائم ًا..
• موقعنا اإللكتروني
تطبيقنا الذكي متوفر على
• منصات التواصل االجتماعي
shj_althaqafiya Alshariqa althaqafiya www.alshariqa-althaqafiya.ae